ضربة الفأس بدينار .. لماذا ألقت زبيدة دفاتر الحسابات في نهر دجلة ؟

6 أطنان ذهب لإنجاز عشرة اميال من المشروع

ضربة الفأس بدينار .. لماذا ألقت زبيدة دفاتر الحسابات في نهر دجلة ؟

جولة: عبدالله دراج

يعد درب زبيدة- نسبة الى زوجة الخليفة العباسي هارون الرشيد التي امرت ببنائه وتشييده- من أهم طرق الحج والتجارة خلال العصر الإسلامي، وقد استخدم هذا الطريق بعد فتح العراق و انتشار الإسلام في المشرق، وأخذ في الازدهار منذ عصر الخلافة الراشدة، و أصبح استخدامه منتظماً وميسوراً بدرجة كبيرة، إذ تحولت مراكز المياه واماكن الرعي والتعدين الواقعة عليه إلى محطات رئيسية . ولم يقتصر ذلك الإنجاز المعماري العملاق على الطريق الخدمي الممتد من الكوفة الى مكة المكرمة، فثمة مشروع آخر الحق به لايقل اهمية أو عظمة أو اعجازا عنه وهو مشروع “عين زبيدة “. أشكل تشابه الأسماء على كثير من الناس، فدرب زبيدة أو ما يطلق عليه برك زبيدة شيء، وعين زبيدة شيء آخر وإن كان المشروعان متصلان، ومكملان لبعضهما البعض ضمن منظومة واحدة للمشروع .
فدرب زبيدة (طريق الحج) بتجهيزاته المختلفة هو الممتد من الكوفة الى حدود الطائف بطول يتجاوز الـ 1300 كيلو متر.
اما (عين زبيدة) فهي استكمال للمشروع من النقطة التي انتهى فيها (الدرب) وصولا الى مكة المكرمة والمشاعر المقدسة.
فقد دعت عوامل الطبيعة الى تغيير نمط واسلوب المشروع بما يتناسب مع التكوين الجيولوجي الذي يختلف في المنطقة الواقعة بين مكة المكرمة والطائف عن المنطقة الممتدة من الكوفة الى بغداد، وهو ما نبه اليه- فيما يبدو – المهندسون الذين كلفتهم زبيدة بدراسة وتنفيذ المشروع.
وتبعا لذلك قررت زبيدة وأمرت في نفس العام الذي شهد حجتها الشهيرة بحفر نهر جار يتصل بمساقط المطر.فاشترت “حائط حنين” ونزعت ملكيات المزارع والنخيل المحيطة به، وأمرت بشق اقنية ضخمة للمياه وسط الجبال المشرفة على مكة المكرمة، وشقت اقنية فرعية مساندة في المواضع التي تكون مظنة لاجتماع مياه السيول لتمثل رافدا للأقنية الرئيسية لزيادة كمية المياه التي يتم ضخها الى مكة المكرمة عبر القناة الرئيسية.
سقاية الحجاج
من الاقنية الفرعية التي خصصت لجمع واحتواء مياه السيول:
“عين مشاش” و”عين ميمون” و”عين الزعفران” و”عين البرود” و”عين الطارقى” و”عين تقبة” و”الجرنيات”. وتصب مياه هذه الاقنية في القناة الرئيسية، وتتفاوت كمية المياه تبعا لكمية الأمطار على نواحيها من وادي نعمان إلى عرفة التي امرت السيدة زبيدة ضمن نفس المشروع بإيصال “عين وادي نعمان اليها .
وعين نعمان تنبع من ذيل جبل “كرا” اشهر جبال الطائف وأمرت بجر هذه المياه في قناة إلى موضع يقال له “الاوجر” في وادي نعمان، ومنه إلى صعيد عرفات شريطة أن تدار القناة على جبل “الرحمة” محل الموقف الشريف، ومن ثم توزيعها إلى برك تم حفرها في ارجاء عرفات ليشرب منها الحجاج يوم عرفة. ثم امرت ان تمتد القناة من هناك وصولا إلى خلف الجبل وهي المنطقة التي يطلق عليها أهل مكة، “المظلمة”، ومنها تصل إلى “المزدلفة”ثم الى جبل خلف “منى” حيث تصب في بئر عظيمة مرصوفة بأحجار كبيرة جدًا تسمى “بئر زبيدة”.
اعدام مستندات التكلفة
وقد كلف هذا المشروع خزينة زبيدة اموالا طائلة لدرجة انها و بعد أن أمرت خازن أموالها بتكليف أمهر المهندسين والعمال لإنشاء هذه العين، أسر لها بعظم التكاليف وحجم المبالغ الباهظة التي سيستهلكها المشروع، فقالت له قولتها الشهيرة :”اعمل ولو كلفتك ضربة الفأس دينارا”.
وتشير بعض المصادر التاريخية الى أن ما مجموع ما أنفقته السيدة “زبيدة “على مشروع “ عين زبيدة “ البالغ طوله عشرة اميال وصل الى مليون وسبعمائة ألف مثقال من الذهب. أي ما يساوي خمسة آلاف وتسعمائة وخمسين كيلو غرامًا.
فيما لم تشر المصادر عن حجم تكلفة المشروع الأضخم (درب زبيدة) الممتد من العراق الى مكة المكرمة بطول 1500 كيلو متر حيث حرصت زبيدة على عدم اعلان التكلفة العامة للمشروع وأعدمت كافة المستندات والوثائق المتعلقة بالمصروفات، فبعد ان تم الانتهاء من كافة مراحل المشروع وبدأ تشغيله فعليا اجتمع المهندسون والخبراء والمقاولون مع السيدة “زبيدة” في قصرها المطل على نهر دجلة وأخرجوا دفاترهم ليؤدوا حساب ما صرفوه، وليبرئوا ذممهم مما تسلموه من خزائن الأموال. فأخذت الدفاتر وألقت بها في النهر وقالت: “تركنا الحساب ليوم الحساب. فمن بقي عنده شيء من المال فهو له، ومن بقى له شىء عندنا اعطيناه”.
أهم طرق الحج
تحول درب زبيدة في العصر العباسي الى حلقة اتصال مهمة بين بغداد والحرمين الشريفين وبقية انحاء الجزيرة العربية. وقد اهتم الخلفاء العباسيون بهذا الطريق وزودوه بالمنافع والمرافق المتعددة، كبناء احواض المياه وحفر الآبار و إنشاء البرك و إقامة المنارات وغير ذلك .
كما عملوا على توسيع الطريق حتى يكون صالحاً للاستخدام من قبل الحجاج والمسافرين ودوابهم.
ويعد (درب زبيدة) من اهم طرق التجارة والحج في العصر الاسلامي و لا يستبعد ان يكون معروفا قبل ذلك العهد حسب ما أشار اليه الدكتور سعد الراشد الأستاذ بقسم الآثار والمتاحف بجامعة الملك سعود وأحد الباحثين المهتمين بتاريخ درب زبيدة حيث قال :
كانت الحيرة عاصمة المناذرة بالقرب من الموقع الذي قامت فيه الكوفة فيما بعد سنة 14هجرية وربما كانت القوافل التجارية من مكة والمدينة تتجه الى الحيرة عبر هذا الطريق وكانت توجد على الطريق مناهل للمياه قبل الاسلام توقف في بعضها الجيش الاسلامي بقيادة سعد بن ابي وقاص قبل دخوله العراق ومن هذه المناهل زرود والثعلبية وشرف والعذيب والقادسية.
ويضيف الراشد :
غير ان الطريق انتظم استخدامه بعد فتح العراق وانتشار الاسلام في المشرق الاسلامي فتحولت مناهل المياه واماكن الرعي والتعدين على الطريق الى محطات رئيسية وبدأ الطريق يزدهر بالتدريج منذ عصر الخلافة الراشدة وحتى العصر الاموي وبانتقال مركز الخلافة من الشام الى العراق في العصر العباسي اصبح الطريق حلقة اتصال مهمة بين عاصمة الخلافة في بغداد والحرمين الشريفين وبقية انحاء الجزيرة العربية وحتى اليمن واعطى خلفاء بني العباس جل اهتمامهم بتأمين طرق المواصلات وبالاخص طريق الكوفة من مكة كما كان للامراء والوزراء والقادة والوجهاء اصلاحات اخرى كثيرة على الطريق.
ويشير الدكتور الراشد الى أن عدد المحطات الرئيسة في هذا الطريق سبع وعشرون محطة، ومثلها محطات ثانوية تسمى كل منها (متعشى)، وهي استراحة تقام بين كل محطتين رئيستيين.
ويمكن رصد المحطات الرئيسة والمنازل الواقعة على طول الطريق على النحو التالي :
الكوفة، القادسية، العذيب، وادي السباع، المغيثة، مسجد سعد، القرعاء، الطرف، واقصة، القبيات، العقبة، الحلجاء، القاع، الجريسي، زبالة، التنانير، الشقوق، ردان، البطان، المحمية، الثعلبة، الغميس، الخزيمة، بطن الأغر، الأجفر، القرائن، فيد، القرنتين، توز، الفحيمة، سميراء، العباسية، الحاجر، قروري، معدن النقرة، السمط، مغيثة الماوان، أريمة، الربذة، الروثة، السليلة، اضبة، شرورى، العمق، معدن بني سليم، عقبة الكراع، الكرانة، أفاعية، الكبوانة، المسلح، القصر، الغمرة، أوطاس، ذات عرق، غمر، بستان بني عامر، مشاش، مكة المكرمة هذا ما يتعلق بالمسار الرئيس للطريق الذي يتجه إلى مكة.
وهناك مسارات فرعية أخرى منها طريق معدن النقرة- المدينة، ويبلغ طوله (265) كيلاً، وأهم محطاته :معدن النقرة، العسيلة، المحدث، بطن نخل، الحصيلك، المكحولين، السقرة، الطرق، الركابية، المدينة، ويلتقي طريق البصرة مع طريق الكوفة في معدن النقرة. ومما يجدر ذكره، أن طريق الكوفة –مكة المكرمة بلغ أوج ازدهاره في العصر العباسي الأول.