كتاب ومقالات

الناس بتموت من الخوف وليس من الفايروس !

فؤاد مصطفى عزب

منذ أن بدأت عزلة البيوت، لاحظت أنني أقوم بأشياء غريبة، لم أكن أقوم بها من قبل، صرت أضع هاتفي المحمول في جيب بجامتي، ثم أضع يدي على جيبي لأطمئن إلى وجود الهاتف، وإن ذهبت للسوبرماركت للتقضي السريع قبل انقضاء الوقت المسموح به، أعود إلى العربة وبعد نزولي منها لأطمئن على أن الأبواب مقفلة تماما، ثم أقف لتفقد حالة الإطارات وذلك حتى لا تخذلني العربة وتحول دون عودتي للمنزل، ورغم أنني أكتب قائمة المشتريات، إلا أنني حالما أعود إلى المنزل أكتشف أنني نسيت أكثر من صنف كان موجودا في القائمة، وذلك نتيجة لتعجلي في العودة والخوف من اختلاطي بالآخرين، وهناك ما هو أخطر من ذلك، صرت أقترف حماقة الاتصال بزوجتي ولأكثر من مرة، أثناء بقائي القصير في الخارج للتبضع، وأجتهد في اختراع مبرر للتكرار والاتصال، مؤشرات عجيبة، ودخيلة علي، على سبيل المثال أن آخذ حماماً ساخناً ثانياً في الصباح، وذلك بعد فنجان القهوة، لأنني نسيت أنني أخذت حماماً قبل شرب القهوة، أيضاً أن أتصل بصديق أساله عن أحواله، رغم أنني هاتفته قبل دقائق، ليس ذلك ضعفا في الذاكرة، وليس كل ما سبق دليلاً على شيخوخة المخ، فما زلت أتذكر ما حطمه وبالتفصيل حفنة من البشر في نفسي، حفنة، لا علاقة لهم بروح الإنسانية، على الرغم من أنهم يشبهون (الإنسان) ولهم أنف وفم ولسان وعينان كما البشر، لكنهم خارج قانون الإحساس وخارج بيت المشاعر، وأفضل من فيهم تخرج بامتياز من (المجزرة) وصار المسلخ هو المكان الوحيد الذي ينتسب إليه، اعتقدت أن تلك التصرفات مؤشرات على الاقتراب من الجنون، بسبب هذه العزلة القسرية، فما الذي يدفعني للبحث عن مفتاح البيت عشر دقائق، قبل أن أنتبه إلى أنه في يدي أصلا، أو أن أضع نظارتي الطبية في عيني لكي أتمكن من البحث عنها في البيت، اتصلت بهلع بأستاذ الطب النفسي والعالم السعودي الدكتور (جمال سالم الطويرقي) شارحا له تفاصيل ما يحدث لي، ليجيبني وبهدوئه المعتاد «يا أبا فراس ما فيك إلا الخير، أنت خائف لا أكثر، أشغل نفسك في هذه الفترة قدر ما تقدر، فكل فرد له مخاوفه الخاصة والعامة، والتي تكبر أحيانا، وتقل أحيانا أخرى، وتختفي أحيانا، أو تبقى كامنة في العقل الباطني، فالخوف شعور طبيعي خاصة في أيام الكوارث، غير أنه يقوم بدور حيوي في حياتنا، عندما نعرف مصادره وأسبابه» ثم ودعني قائلاً «أكثر الناس بتموت من الخوف وليس من الفيروس!!» كانت تلك الجملة نافذة على الواقع بالنسبة لي، ذهبت بعد ذلك إلى الشرفة المطلة على البحر، شرفة لا تتسع إلا لسبع نباتات ولأربعة كراسي ومائدة ومظلة، ترتجف إن بعدنا عنها كثيراً، وتبكي إن طلع الحنين، وقمت بتجهيزها، أخذت أعتني بالورد فيها، وأزيح عن الورق الأخضر العريض الأتربة بقطعه قماش مبللة، كنت أهمس للزرع بكلمات، زوجتي سمعتني أحدث الزرع، سألتني مستغربة، أتكلم الزرع يا أبا فراس؟ ابتسمت لها بحنية، وأجبتها بأنها روح، وتحتاج لمن يؤنس وحدتها وعزلتها مثلنا، ثم تحولت الشرفة من اليوم التالي لي ولزوجتي متنفساً، نلتف ساعة العصاري حول طاولة باستدارة قلب، وعليها مزهرية تحتضن قرنفلة، أحضر لها القهوة بالحليب، وبعض البسكويت بنكهة الزنجبيل، أو الكيك بطعم الفانيليا أو البرتقال، نتبادل أطراف الحديث، ونستمع إلى مقاطع من أغنية كانت تعني لنا، شيئاً ما، في وقت ما، في مكان ما، نبلل بها روحنا الغافية، فترتعش أطرافنا من فرط الحنين الموجعة، لأيام جميلة عذبة كحلوى الحلقوم، نتطرق إلى حكايات وأحداث كأننا نقلب صفحات ألبوم ذكريات عتيق، نبتسم هنا، نتنهد تنهيدة حيرى لهزائم مرت هناك، ونخرج زفرة اشتياق لانتصارات صنعناها معا، وعندما يحل الغروب، نستمتع بمشاهدة قرص الشمس تسقط في طرف البحر، يختفي وإلى الأبد، كما سيختفي هذا الهم العظيم بقدرة خالق أعظم!!

* كاتب سعودي

fouad5azab@gmail.com