ثقافة وفن

جماليات العزلة.. «احتفل بكل لحظة»

104EC1B7-F030-4858-A56C-279883609519

عبدالمحسن يوسف

في هذا «الحَجْر»، قررتُ أن تكون عزلتي ممتلئة، ولكي أعي جيدًا «جماليات العزلة»، كان لابد لي من معرفة تجارب الآخرين الذين خاضوا هذه التجربة ـ تحت ظروف أشد قسوة وضراوة ـ بإصرار فردي عنيد وإرادة مثابرة.. وفعلًا بدأت بمشاهدة فيلم وثائقي بعنوان «180 يومًا من العزلة».

في هذا الفيلم الجميل، يحكي لنا الكاتب «سيلفين تيسون» تجربته مع الصمت والوحدة وبياض الثلج التي استغرقت ستة أشهر على ضفاف بحيرة بايكال المتجمدة بسيبيريا..

سيلفين خاض هذه المغامرة منطلقًا من مقولة آمَنَ بها جيدًا مفادها:«يسعى الناس إلى تغيير العالم، وأنا سعيت إلى تغيير نفسي».. وهو بهذه الخطوة الجريئة أراد أن يتأكد من أمر مهم وخاص صاغه في سؤال عميق، أطلقه في فضائه كطائر جريح، هكذا: «هل بمقدوري معرفة ما إذا كنت أملك روحًا في داخلي؟»..

سيلفين اصطحب معه مؤونة تكفي لستة أشهر، مصطحبًا سجائرَ وكتبًا وعدة صيد، وفي ملكوته الثلجي الواسع راحَ يقرأ كتبًا لكامي ونيتشه وشبنهاور، وظلَّ يواظبُ على الكتابة بانضباطٍ تام مع رشفات من الشاي الساخن الذي كان يعده على الحطب، بالإضافة إلى أنه كان يكتب على الثلج «حتى يتغلَّبَ الربيعُ على الشتاء» كما يردد بمرح يشبه مرح الأطفال..

من أجمل العبارات التي رسخت في ذاكرتي قوله وهو يتأمل الكون حوله: «أجد نفسي في حوارٍ حميميٍّ مع الشمس، في حوارٍ شاعريٍّ مع الأرض، في حوارٍ فكريٍّ مع الطبيعة»..كما راقت لي رؤيته التي يختزلها في هذه المقولة: «التحاور مع الطبيعة يعني تقبُّل وحدة العالم عوضًا عن تقطيعه إلى أجزاء»..كما راقَ لي تأويله للوحدة فهي في نظره «العشيقة التي لن تتخلّى عنك يومًا».. وهي أيضًا «ما يخسره الآخرون عندما لا يكونون في اللحظة التي يظهر فيها الجمال».. في هذه الوحدة ـ يقول هذا الكاتب الرائع ـ كل ما عليك فعله هو الجلوس والتأمل في القصيدة..أما الجليد الذي عاش على ضفافه الباردة، فقد اختزله في هذا التعريف الشاعري الفاتن: «الجليدُ شهادةٌ مصيرُها النسيان»..

ولم ينسَ أن يسدي لنا هذا المغامر نصيحة جميلة هكذا: «للتغلب على الملل عليك تقبُّل ما يأتي إليك، والحذر من الأمل، ولا تتوقع أي شيء واحتفل بكل لحظة»...

أخيرًا، هذا الكاتب الذي اعتاد على العيش في درجة حرارة تصل إلى ثلاثين درجة تحت الصفر.. يقول لنا في نهاية تجربته مع العزلة التي دامت 180 يومًا: «في الحياة يلزمك أن تتعرف على روح المكان لكي تسيطر على الزمن»...

والحق أقول لكم، ملأني هذا الكاتب عبر فيلمه الوثائقي بروحٍ جديدة في زمن «الحجر الصحي»، في زمن هذا الوباء الدقيق غير المرئي الذي يتربص بالبشر، وحرضني على أن أتأمل الكون حولي، وأن أفتش في أعماقي عن أقمارٍ صغيرةٍ مضيئة، وأن أطارد التفاصيل البسيطة المهملة في الحياة، فبدأت بتنظيف سطح بيتي الذي كان مهملًا ومؤثثًا بالغبار، حتى أضحى بلاطه لامعًا كالمرايا.. أصعد إليه كل يوم منذ الخامسة مساءً، أمشي طويلًا عبر مساحته المتاحة، وحين يدركني التعب أضع كرسيًّا في منتصفه تمامًا وأجلس أتأمل السماء، كم هي جميلة هذه السماء صافيةً كانت أو مثمرةً بالغيوم. وكم جميل أن ترى ما لم تكن تراه قبلًا، وتسمع ما لم تكن تسمع.. في هذا السكون الهائل الذي وفره لنا «الحجر» صرت أسمع زقزقة العصافير تملأ المكان، صرت أصغي لهديل حمام على أسوار البيوت وفي النوافذ وعلى حواف الشرفات وفوق شجر الجيران، وثمة طيور صغيرة تحلق أمامي في هذا الفضاء الواسع بطمأنينة كاملة وكأنها ضمنت مكوث الناس في أقفاصها وأمنت شرورهم وأذاهم، في المساءات الهادئة أستمتع بهواء نظيف وبنسمات ناعمة كما لو أن الطبيعة تسترد عافيتها التي صادرها الإنسان وأفسدها بحماقاته العديدة.. في كل ليلة أرى السماء تثمرُ نجومًا جديدة، وأرى الحياة تتجدد كمياه النهر أمامي وفي أعماقي التي كانت مرهونة لإيقاعٍ رتيب بائس، أيضًا كل مساء ألهو مع طفلي الجميل «عمر» وألعب معه بالكرة على سطح البيت، ضحكاته تملؤني فرحًا وتمنحني أجنحةً كي أطير..

في هذه العزلة المليئة شاهدت العديد من الأفلام الجميلة الجادة مثل «عازف البيانو»، و«قائمة شندلر»، و«الطفل ذو البيجامة المخططة»، و«أرض الألغام»، هذه الأفلام تناولت فظاعات النازية التي حوّلَ فكرُها الإنسانَ إلى وحش أشد ضراوة من جميع الوحوش.. كما شاهدت فيلم «الفراشة» للمرة الثالثة أو الرابعة، وهو فيلم جميل مفعم بالألم والعذابات والتوق للحرية بعيدًا عن سجون المستعمرات الفرنسية، هذا الفيلم ـ كما يعلم الكثيرون ـ مقتبس من رواية ذائعة الصيت تحمل الاسم نفسه، كتبها الروائي الفرنسي هنري شاريير، وهي الرواية الوحيدة التي أنجزها في حياته ولم يكتب سواها، وتمت ترجمتها إلى العربية في أكثر من 500 صفحة، هنا وددت أن أقول: في هذه الأفلام تتعرى الحضارة الغربية تمامًا ويتجلى لنا وجهها القبيح، بعيدًا عن شعاراتها العالية في سياق «حقوق الإنسان» التي صدّع بها الغرب رؤسنا، وهو يحاضر علينا باستعلاء، مرتديًا ثياب الحمَل فيما هو في الحقيقة أشد شراسةً من الضواري..

أيضًا في زمن العزلة هذه، شاهدت فيلمًا جميلًا بعنوان «عطر امرأة» برع فيه الممثل العالمي الشهير آل باتشينو في دور جنرال ضرير يحسن معرفة كنه المرأة ـ جمالها أو قبحها ـ من عطرها ومن تلك الرائحة الأنثوية التي لا تبرح أفقه العامر بحب الجمال.. كذلك شاهدت فيلم «العطر ـ قصة قاتل» المقتبس من رواية تحمل العنوان ذاته، للروائي الألماني المبدع

باتريك زوسكيند، التي سبق لي أن قرأتها هي وروايته الجميلة الأخرى «الحمامة».. أجمل ما في هذه الرواية / الفيلم هو أن الطفل الذي وُلِدَ تحت طاولة في سوق السمك وكانت تنبعث من جسده الصغير رائحة كريهة كرائحة الجبنة الفاسدة أضحى صانع عطور بارع، كونه يمتلك حاسة شمٍّ تختلف عن حواس سائر البشر !

أيضًا في سياق الروايات التي تحولت إلى أفلام، شاهدت فيلمًا بعنوان «الحب في زمن الكوليرا» المقتبس من رواية غابريل غارثيا ماركيز الشهيرة التي تحمل العنوان نفسه، وهي تتناول قصة حب غريبة نشأت بين شاب وفتاة في زمن تفشى فيه وباء الكوليرا، وعلى الرغم من العقبات الكثيرة والآلام والموت بسبب ذلك الوباء انتصر الحب بعد سنوات طويلة من الدموع والضياع وفقدان الأمل، واستطاع هذان العاشقان الزواج بعد أن بلغا السبعين من الأعوام !

في هذه العزلة أيضًا، قرأت ديوان «الحياة كما لو كانت نزهة ويك إند» للشاعرة السعودية الشابة نور البواردي، وكتبت عنه هذه الإضاءة فور فراغي من قراءته واخترت من فضاءاته مقاطع في غاية الدهشة والجمال..

تدهشني هذه الفتاة، لست أدري لماذا أراها هكذا دائمًا: فتاة تلهو بالغيوم، بجمرة الكتابة البريئة الأولى.. تتسع لها الطرقات كلما مشت، وينمو على حواف قلبها عشب وسيم، وكلما حدقّتْ في الأعالي ضحكَتْ لها السماء.. هكذا أرى شاعرتنا الشابة المدهشة نور البواردي المعنية بالتفاصيل الدافئة في حياتنا اليومية، التفاصيل التي يمر بها العابرون مرارًا ولا يكترثون.. نور تكتب بصدق فادح، تكتب القريب من الروح والأثير لدى القلب، تكتب الشغفَ المُرَّ والندمَ اليسير... حينما قرأت ديوانها الثاني «الحياة كما لو كانت نزهة ويك إند»، الصادر عن «طوى»، ملأتني شعرًا، ودفعتني إلى حب الحياة التي ليس لها وجه ولكنها تبتسم، وحرضتني نصوصها -فيما أنا في هذه العزلة المليئة- لكي ألتفت إلى ليل قلبي: لقد أمسى مدجّجًا بملايين النجوم.

١

الظهيرة وكأس شاي

ويحدث أن يكون الوقت خفيفًا كذكرى جميلة.

ويحدث أن تمر في بالي.

وأحبك....

كما أحب الشاي والذكريات الجميلة.

٢

قليل من الحب يكفي

من الكلمات

من الوعود الجميلة

من مقعدين.. من زهرتين وابتسامة رضا.

من بحة لومك

من موسيقى صوتك

من خلاف رقيق

من لمسة إصبع..

من أغنية عينيك

كثير من قليلك

يجلب لي السعادة.

٣

حسنا.. لنقل إن الأمر انتهى عند هذا الحد.

أفضل القهوة بثلاث ملاعق صغيرة، سكر ناعم، والماء مغلي جدا..

أحب الأريكة الليلكية والوسادة الخضراء الصغيرة.

قصيدة درويش وصوت «كارول سماحة» حين كان طائرًا..

وأن أخبرك وأنا في الرشفة الخامسة بأن القبلة باب الحب.

وكما دخل أول مرة، دعنا نتبادلها للمرة الأخيرة كي يخرج هذا المعتوه بسلام.

٤

بسبب اللقطة التي يظهر فيها جزء من كتفي؛ انتهينا..

صدقيني...

خلافنا كله كان بسبب كتف.

تصوري ذلك !

٥

العالَمُ حالكٌ..

الذي أطفأ مصابيحه نسي الليلة أن يضيئها،

نسي آخر أرقام هاتفي،

ونسي يضيئني أيضًا.

٦

في الجوار..

قبلتان ملتصقتان على زجاج نافذة

رنة هاتف محمول

رجل ينظم السير وقلوب لا تعبر !

في الجوار..

أحد ما لا يأبه بكل ما يحدث.

٧

الشجرة التي كانت تمد رقبتها لتتلصص على كرنفالات المدينة،

التي تعاني الاكتئاب وعمى الألوان

كلما خدشها عابر بطرف إصبعه

لعنت الفأس الأولى التي سرقت منها لذة هذا الألم !

٨

الهواء في الخارج فظ،

كلما عبرته رائحة الآخرين.

.

.

الهواء الوحيد يقشعِرُّ إن عبرته رائحتك !

٩

القول إن الحياة جيدة

يحتاج لحدثٍ عظيم

كأنْ أمسك صوتك بين يدي

وأقول لعينيك: لطالما كنت بك جميلة.

١٠

الصور الجماعية المعلقة على الجدار

بها شخص مفقود

دائما يتنازل عن مكانه

ليلتقط الصورة !

١١

أكتب قصيدة صباحية سريعة

وأنا أرتدي الجينز وحذائي الرياضي كثير الألوان.

أكتب للوقت وأنا أعد شطيرتي،

أغرق شعري بمستحضرات التجعيد

وأمتدح رشاقة الريح،

أساور يدي تدفعني للحديث عن الحرية.

١٢

في أكثر الليالي لا أنااااام

أفكر في الطلقة التي لا تميت..

الطلقة التي تخرج من سلاح قاتل، ولا تقتل !

١٣

مذ كنا صغيرين، فكبرنا

ومعتمين فأضاءنا الحب

منذها وقد امتلأت بكل خيبات القصائد الشاردة

وقلبي الذي له رائحة يدك يحبك بقوة كما كان.

١٤

عندما كنا نتبادل كلمات العتب

كان الآخرون يسرقون حصتنا من السعادة.

١٥

ألتقي بالغرباء

في طريقي للعمل

في طريقي لحب جديد

في طريقي لأغنية

لقصيدة برتقالية اللون

الغرباء الذين يصبحون أصدقائي بعد أول فنجان قهوة

ليسوا غرباء بعد الآن.

١٦

أريد لمدينتي

أن تخبئ شوارعها التي لا تعرفها

أريدك حين تأتي تستدل سريعا على بيتنا

تعرف، لو طرقت مرتين سأفتح لك الباب

ولو طرقت ثلاثا سأقفز لك من النافذة.

١٧

أميل أحيانا للموسيقى الريفية

وأحيانا لا أميل لشيء !

تعجبني الأصوات المبحوحة

وأجد الأشخاص الذين يمتلكون غمازتين ظريفين جدا.

أحب الكتابة،

وغالبا ما أكتب أشياء سيئة

وأخرى جميلة قليلا

أحب الشتاء

والتسوق أيام التنزيلات والقصيدة الباردة.

والعلاقات التي يعتني فيها الأصدقاء ببعضهم

والأيام التي تشبه وجهي وأنا أكتب لك هذه الرسالة.

١٨

أنهي نهاري بدمعة،

أبدأ نهاري بدمعة.

الليل حبل غسيل

أجفف عليه خيباتي.

١٩

ما لا يأتي على البال أبدًا

إن تربية الحيوانات ليست حلا مجديا لإنهاء العزلة.

٢٠

الفتاة التي تسير بحقيبة سوداء وحذاء ملون

كلما مشت يتسع لها الطريق.

تدنو منها أشجار الحدائق،

يقف فوق كتفها عصفور أصفر صغير

تُفْتَحُ لها نافذة في السماء.