ثقافة وفن

الجذع المقاتل

محمد محسن

‏كان جذع شجرة الماهوجني أحد أكثر أنواع الأخشاب المدارية صلابةً حالماً إلى الحد الذي جعله يبدو كشاب فرنسي أنيق تفوح منه رائحة عطر أخاذة.

‏ يقف معتدلًا ويرفع رأسه لينظر إلى النجوم التي تزين السماء ويتنفس نسمات الهواء العليلة التي تداعب وجنتيه برقة الغابة المعهودة. ‏ولكن الجذع اللامع كان يخشى الجفاف، وترعبه فكرة أن يتحول إلى جزء من أريكة أو نافذة في مبنى ما، يُحشر في حائط ما فلا يطيق حينها حراكا. فقد كان يحلم أن يصبح جزءاً من قارب صيد يجوب الأنهار وتلامس وجنتاه الماء بعد أن تلفحهما أشعة الشمس، ويغتسل كلما أراد ويسمع صوت العصافير ويغدو صباحاً في رحلة صيد أو نزهة بحرية فلا يعود إلا مساءً وضحكات المسافرين تملأ الفضاء. ‏ولكن أقداره لم تسعف حلمه بمزيد وقت، فساقته ليصبح تلك القطعة الخشبية التي تحمل الأجزاء المعدنية في بندقية. ‏فلا يتنفس سوى رائحة البارود ولا يسمع سوى أزيز الرصاص الذي يقض مضجعه، وليتحول عملياً إلى جذع مسلح بصحبة جندي مقاتل. ‏لم يلبث أن سقط ذلك الجندي مضرجاً بدمائه التي تناثر بعضها فوق بندقيته وتسلل بعضها عبر مسامات الجذع إلى قلبه فأشعره برغبة جامحة في الثأر لرفيقه ظلت غائرةً في قلبه. ‏وفي مراسم التأبين وضع الجذع برفقة الأجزاء المعدنية الملتصقة به فوق تابوت الجندي الشهيد فقد كان عليه أن يرافقه كما يقتضي البروتوكول العسكري. ‏وبعد أن دُفن الجندي حُملت البندقية إلى خزانة والدته ليقضي فيها الجذع بقية عمره حداداً على ذلك الجندي. ‏في داخل الخزانة العتيقة حيث الظلمة لا تنفك إلا حين ذكرى. ‏ كان الجذع المقاتل يستند إلى جذع آخر قدر له أن يصبح جزءاً من الخزانة وراحا يتذكران شجرة الماهوجني الأم بكثير من الحنين ويتحدثان عن الغابة والنجوم والسماء والمطر ورائحة التربة والنهر. ‏وفي الخارج كانت تجلس سيدة عجوز على كرسي مدولب، تستمع إلى الصوت المنبعث من داخل الخزانة وتبتسم. ‏لأنها كانت تعتقد أن روح ابنها قد انتقلت إلى البندقية.