كتاب ومقالات

مشروعاتي بعد انجلاء كورونا !

فؤاد مصطفى عزب

فكرة أن يقلق أحدهم عليك بعيدا عن عائلتك، هي فكرة جديرة بالاحترام، فكل فرد من عائلتك له سبب وجيه في القلق عليك، أما أن يقلق أحد من غيرهم فهو يستحق روحك على طبق يحوي قلبك، الاهتمام يشعرنا بأننا أحياء، الشريف ناصر المنصور، يتصل بي يوميا ليطمئن علي، الله عز وجل أوقف إرسال الرسل بعد النبي محمد صلى الله عليه وسلم، لكنه لرحمته بنا، استمر يرسل لنا ملائكته على شكل بشر، وحتى نحب الجنة أكثر ونعمل لها، عندما تقسو الأيام، تبحث عمن يهتم بك، عمن يحبك، الحب هو أكبر معزز للثقة بالنفس، عمن يضحك معك، عمن يشاركك اهتماماتك، ولأبي منصور ضحكة ساحرة طفولية، أفكر جديا بعد انجلاء كورونا، أن يكون أول مشروعاتي التجارية تعبئة ضحكته، وبيعها على أنها منشط لهرمون السعادة، جذبني هذا الصباح من كتفي باتصاله، لأصحو وأتابع فيلما وثائقيا تسجيليا حديثا، عما فعله كورونا بإسبانيا، لم أعاند، لم أكابر، انطلقت متابعا المصور الإسباني (دانييل) دون أن أنتعل شيئا في قدمي، وقفت بجواره وهو يحمل كاميراته الوثائقية أمام شاطئ (لاكونشا) ثمة أمواج صاخبة في البعيد، دنتيلا من الزبد، وبضعة أشرعة وحيدة تختلج، كأيدٍ تطلب النجدة، لكن لا أحد هناك يكترث بها، معظم ستائر العمارات مسدلة، تشبه الضمادات على الواجهات المهترئة، يلبد العجائز في منازلهم، يشاهدون الأخبار في التلفاز، يمضغون طعامهم طويلا قبل أن يبلعوا، فلا مجال هنا حتى للغصة، يستغرقون زمنا في مطالعة الأحداث قبل أن يغفوا على الأرائك، وغطاء قطني على أرجلهم، عليهم المكوث في شققهم، فالأبناء بعيدون، يتحدث (دانييل) بلغة مزجت بين القلق وحريق يكوي جسد الزمان، وبعينين مملحتين أصبحتا أقرب إلى البكاء، عن احتمالية هروب ممرضات مركز المتقاعدين هنا، إن تفاقمت حالاتهم أكثر، يقول إنهم مناطيد حسرة قد تثقبها دبابيس الموت في أي لحظة، لا أحد يدري متى ستنفجر، يشعل سيجارته وهو في منتهى اليأس، يمر بقصور أشبه بالقبور في (ماربيا) يقول سكان هذه القصور، رحلوا بمحض إرادتهم قبل انتشار الفايروس، ولا أحد يعلم أين هم الآن؟ انقطعت سبل العودة بهم، القاعدة الوحيدة التي يجب أن لا تزعزع يقينك بها، هي أنه لا بكاء على من يرحل بإرادته، لا تسأل عن أسباب رحيله، فقد جهز عذره قبل حقائبه، كل ذرة تراب كان يركلها حذاء (دانييل) وهو يتنقل من مكان إلى آخر، كان يصدر على إثرها صوت اصطكاك يرجفني أكثر وأكثر، يستمر في تسجيل تجربته الإنسانية، المستمد نسيجها من أحداث فرضها هذا الفايروس البشع، أفيق مفزوعا معه، وكأنني أحد نزلاء السجون الأمريكية، أثناء تعذيبه بالإيهام بالغرق، يتجول في (قصر الحمراء) كأنني أشاهد القصر لأول مرة، يذهب بي الخيال، تدمع عيناي وأشعر بالأمس يعتصر قلبي، وددت لو أنني أصرخ بجملة (غادة السمان) الرائعة، أنتم ضيوف هنا لا نحن!! أرنو لجملة (لا غالب إلا الله) التي خطت على الأعمدة والجدران بكثرة يصعب حصرها، وأبتلع أحزاني، وأتذكر المناسبة التي قيلت فيها، حين عاد (محمد بن يوسف الأحمر) منتصرا بعد حصاره (لجيرالدا) وتفوقه على الإسبان ليستقبله أهل غرناطة بالتهليل بكلمة غالب.. غالب.. غالب، فكان أن ردد بهدوء (لا غالب إلا الله) فأصبحت شعارا لبني الأحمر أو بني نصر، تتجول الكاميرا بوجل، في قصر (يوسف) الذي عاش فيه (أبوعبدالله الصغير) قصر القصبة، أمجادا درت دخلا هائلا لملاكها الجدد، غير أن الحدائق لم تعد جنة الله في الأرض كما كانت، جفت المياه في ثغور الأسود الاثني عشر، والتي كانت تحرس النافورة الشهيرة، تقف الكاميرا حيثما وقف (عبدالله الصغير) يتأمل مملكته بكى عليها مثل النساء ملكا مضاعا لم يحافظ عليه كالرجال، تلك الجملة التي قالتها أمه وهو يلقي النظرة الأخيرة على غرناطة (الرمانة) قالتها عائشة محمد الأعسر، والملقبة بعائشة الحرة، ولم تدر أبدا، أن الأمجاد التي خسرها أبناؤها، لأسباب مختلفة، انتصر عليها فايروس، لم يسقط إسبانيا تحت رزح خسائره فقط، بل أسقط عملات واتحادات، وأنظمة، وعزل دولا وقارات عن بعضها بعضا، جعل منها جزرا متباعدة، فيلم واقعي ذو كادرات بصرية شديدة الإيلام، يشير بأصابع الاتهام نحو العدو الحقيقي للشعوب، الأنظمة والحكومات والساسة، عندما يترددون ويتأخرون ويتأرجحون، ويقامرون بأروح البشر، لقاء الاقتصاد والنفوذ، ورأي الناخب، فيلم تسجيلي واقعي بدأ تصويره في النهار، ولينتهي في عمق الظلام.. ويا أمان الخائفين.

* كاتب سعودي

fouad5azab@gmail.com