عنتريات ما قتلت ذبابة!
الجمعة / 29 / رمضان / 1441 هـ الجمعة 22 مايو 2020 00:43
محمد مفتي
القضية الفلسطينية هي الغائب الحاضر في معادلة التاريخ العربي، ولن يسعني بالتأكيد في هذا الحيز البسيط تقديم تحليل مطول لأهم مجريات أحداث تلك القضية التي أنهكت الكثير من المحللين والخبراء؛ فالأمر يحتاج مجلدات، وقد سبق وأن تناولت بإيجاز قبل سنوات تاريخ القضية في سلسلة من المقالات المتتابعة بعنوان «تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي»، لكن ما أود طرحه اليوم هو إعادة تحليل القضية من خلال ثلاثة محاور فحسب، يتناول المحور الأول المنظور الإستراتيجي الذي يمثل سياسة الدول العربية تجاه القضية، ويتعلق الثاني بالتناول الإعلامي لأهم مجرياتها وأحداثها، وأخيراً موقف الشارع العربي من تلك القضية، والذي يعتبر التجسيد الحي والميداني لتناول كل من المحورين السابقين للقضية، وبطبيعة الحال فإن المحاور الثلاثة متشابكة إلى حد كبير.
في البداية يمكننا القول إن التعامل العربي مع القضية الفلسطينية -بصورة عامة- اتسم بالتردد والتأرجح وعدم الوضوح، فمن ناحية لم يتحد العرب يوماً لإنتاج نظرية متماسكة وقوية للتعامل مع القضية، ولا نبالغ إذا ذكرنا أن الدول العربية تعاملت منذ بداية الأزمة بسوء تقدير –غير مقصود- وربما استخفاف بالقوة العسكرية الإسرائيلية؛ حيث بالغوا في تقدير قوتهم وقدرتهم على السيطرة على الموقف، ومن البديهي أن سوء تقدير قدرات الخصم هو أول مسمار في نعش المقاومة والنجاح، ففي البداية رفض العرب مبدأ التفاوض مع الإسرائيليين جملة وتفصيلاً، غير أنه مع توالي الضربات الإسرائيلية الواحدة تلو الأخرى، بدأ العرب في إدراك عمق الأزمة ومدى فداحتها.
من المؤكد أنه كان بإمكاننا تقييم الموقف على النحو الصحيح في بداية الصراع، وبالتالي تحديد الإستراتيجية الملائمة للتعامل معه، وقد أوقعنا سوء التقدير في أزمات متتالية حوَّلت الموقف العربي للضعف الشديد، فعلى سبيل المثال رفض العرب مقترح التقسيم العام 1947 واختاروا قرار الحرب، دون تقييم لنقاط القوة والضعف لكلا الطرفين، فحدثت نتيجة لذلك الهزيمة الثقيلة في العام 1948، وكان من نتائجها قبول العرب لمفاوضات السلام فيما بعد، غير أن هذا التبدل في الموقف الإستراتيجي أكسب الموقف العربي ضعفاً وحوله من طرف قوي لطرف ضعيف، لأن شروط التفاوض بعد الهزيمة يمليها دوماً الجانب المنتصر، وقد تكرر الأمر ذاته عندما رفض العرب والفلسطينيون فيما بعد المقترح الدولي بإقامة الدولة الفلسطينية على أراضي الضفة الغربية وقطاع غزة، وأصروا -ولعقود- على مبدأ التحرير الكامل، ثم قبلوا في مفاوضات أوسلو بهذا المقترح بعد اقتناعهم بضعف موقفهم.
نفس الأمر نجده أيضاً في الخطاب الإعلامي الحاد والممزوج بالكراهية تجاه إسرائيل، ولا نبالغ إذا ذكرنا أن إسرائيل استفادت كثيراً من هذا الخطاب المشحون، بل وربما أكسبها التعاطف والتأييد الدولي، فلطالما ردد زعماء إسرائيل في المحافل الدولية أن العرب لا يرغبون في السلام، وهم يحملون في أيديهم قصاصات الخطابات الإعلامية المشحونة كدليل على صدق روايتهم، وعلى النقيض من ذلك نجد الجانب الإسرائيلي يكرس الكثير من جهده لكسب تعاطف العالم مع قضيته «رغم بطلانها من الأساس»، غير أن الطرف الإسرائيلي يدرك جيداً مدى قوة ونفاذ الآلة الإعلامية وقدرتها على حشد الرأي العام العالمي، ومن خلال مقارنة بسيطة لطبيعة ومحتوى الإعلامين العربي والإسرائيلي نجد العرب قد فقدوا نقطة ارتكاز مهمة في رحلة صراعهم مع الجانب الإسرائيلي.
اتسم الخطاب العربي الإعلامي دوماً بالعنترية والصلف والبعد عن ثقافة دبلوماسية الخطاب مع خصم عنيد يجيد فنون المراوغة، وقد تبارت العديد من التصريحات الإعلامية في ادعاء البطولة والقدرة على الصمود والمقاومة دون أي مرتكزات قوية على الأرض، وهي السمات التي وصفها الشاعر نزار قباني بأنها «عنتريات ما قتلت ذبابة»، وربما لا يدرك البعض أن التصريحات الملغمة المشحونة بالوعيد والتهديد وغير القادرة على تحقيق أهدافها، تضعف صاحبها قبل خصمها.
في المقابل لا تكتفي إسرائيل بتنميق تصريحاتها السياسية فقط، بل تحرص كل الحرص على أن يصل ذلك الخطاب العاطفي الأنيق للعالم كله، فمذكرات بعض قادة إسرائيل -أرييل شارون على سبيل المثال- تنضح ببعض الجوانب الإنسانية «الكاذبة»، ومن المؤكد أنها مترجمة للعديد من اللغات، وتدور جميعها عن التعامل الإنساني غير المسبوق للجانب الإسرائيلي مع العرب، مما يصب في نهاية الأمر في تعاطف الرأي العام العالمي مع الإسرائيليين.
أما لو نظرنا للمحور الأخير وهو تعامل الشارع العربي والفلسطيني مع تلك القضية فسنجده ترجمة مباشرة تماماً لكل هذه التخبطات والتصدعات التي ميزت الجانبين الإستراتيجي و الإعلامي، فرجل الشارع العربي البسيط لا يعرف على وجه الدقة نقاط القوة والضعف التي تميز كلا الطرفين، ولعلنا الآن في أمس الحاجة لتوحيد موقف مشترك معتمد على رؤية واقعية لطبيعة هذا الصراع، مستندة لخبرة تربو على السبعين عاماً، لنصل لخطة إستراتيجية وإعلامية وميدانية هادفة وهادئة تعيد الحقوق لأصحابها في ضوء ما تحت أيدينا من متغيرات إقليمية ودولية.
كاتب سعودي
Prof_Mufti@
dr.mufti@acctecon.com
في البداية يمكننا القول إن التعامل العربي مع القضية الفلسطينية -بصورة عامة- اتسم بالتردد والتأرجح وعدم الوضوح، فمن ناحية لم يتحد العرب يوماً لإنتاج نظرية متماسكة وقوية للتعامل مع القضية، ولا نبالغ إذا ذكرنا أن الدول العربية تعاملت منذ بداية الأزمة بسوء تقدير –غير مقصود- وربما استخفاف بالقوة العسكرية الإسرائيلية؛ حيث بالغوا في تقدير قوتهم وقدرتهم على السيطرة على الموقف، ومن البديهي أن سوء تقدير قدرات الخصم هو أول مسمار في نعش المقاومة والنجاح، ففي البداية رفض العرب مبدأ التفاوض مع الإسرائيليين جملة وتفصيلاً، غير أنه مع توالي الضربات الإسرائيلية الواحدة تلو الأخرى، بدأ العرب في إدراك عمق الأزمة ومدى فداحتها.
من المؤكد أنه كان بإمكاننا تقييم الموقف على النحو الصحيح في بداية الصراع، وبالتالي تحديد الإستراتيجية الملائمة للتعامل معه، وقد أوقعنا سوء التقدير في أزمات متتالية حوَّلت الموقف العربي للضعف الشديد، فعلى سبيل المثال رفض العرب مقترح التقسيم العام 1947 واختاروا قرار الحرب، دون تقييم لنقاط القوة والضعف لكلا الطرفين، فحدثت نتيجة لذلك الهزيمة الثقيلة في العام 1948، وكان من نتائجها قبول العرب لمفاوضات السلام فيما بعد، غير أن هذا التبدل في الموقف الإستراتيجي أكسب الموقف العربي ضعفاً وحوله من طرف قوي لطرف ضعيف، لأن شروط التفاوض بعد الهزيمة يمليها دوماً الجانب المنتصر، وقد تكرر الأمر ذاته عندما رفض العرب والفلسطينيون فيما بعد المقترح الدولي بإقامة الدولة الفلسطينية على أراضي الضفة الغربية وقطاع غزة، وأصروا -ولعقود- على مبدأ التحرير الكامل، ثم قبلوا في مفاوضات أوسلو بهذا المقترح بعد اقتناعهم بضعف موقفهم.
نفس الأمر نجده أيضاً في الخطاب الإعلامي الحاد والممزوج بالكراهية تجاه إسرائيل، ولا نبالغ إذا ذكرنا أن إسرائيل استفادت كثيراً من هذا الخطاب المشحون، بل وربما أكسبها التعاطف والتأييد الدولي، فلطالما ردد زعماء إسرائيل في المحافل الدولية أن العرب لا يرغبون في السلام، وهم يحملون في أيديهم قصاصات الخطابات الإعلامية المشحونة كدليل على صدق روايتهم، وعلى النقيض من ذلك نجد الجانب الإسرائيلي يكرس الكثير من جهده لكسب تعاطف العالم مع قضيته «رغم بطلانها من الأساس»، غير أن الطرف الإسرائيلي يدرك جيداً مدى قوة ونفاذ الآلة الإعلامية وقدرتها على حشد الرأي العام العالمي، ومن خلال مقارنة بسيطة لطبيعة ومحتوى الإعلامين العربي والإسرائيلي نجد العرب قد فقدوا نقطة ارتكاز مهمة في رحلة صراعهم مع الجانب الإسرائيلي.
اتسم الخطاب العربي الإعلامي دوماً بالعنترية والصلف والبعد عن ثقافة دبلوماسية الخطاب مع خصم عنيد يجيد فنون المراوغة، وقد تبارت العديد من التصريحات الإعلامية في ادعاء البطولة والقدرة على الصمود والمقاومة دون أي مرتكزات قوية على الأرض، وهي السمات التي وصفها الشاعر نزار قباني بأنها «عنتريات ما قتلت ذبابة»، وربما لا يدرك البعض أن التصريحات الملغمة المشحونة بالوعيد والتهديد وغير القادرة على تحقيق أهدافها، تضعف صاحبها قبل خصمها.
في المقابل لا تكتفي إسرائيل بتنميق تصريحاتها السياسية فقط، بل تحرص كل الحرص على أن يصل ذلك الخطاب العاطفي الأنيق للعالم كله، فمذكرات بعض قادة إسرائيل -أرييل شارون على سبيل المثال- تنضح ببعض الجوانب الإنسانية «الكاذبة»، ومن المؤكد أنها مترجمة للعديد من اللغات، وتدور جميعها عن التعامل الإنساني غير المسبوق للجانب الإسرائيلي مع العرب، مما يصب في نهاية الأمر في تعاطف الرأي العام العالمي مع الإسرائيليين.
أما لو نظرنا للمحور الأخير وهو تعامل الشارع العربي والفلسطيني مع تلك القضية فسنجده ترجمة مباشرة تماماً لكل هذه التخبطات والتصدعات التي ميزت الجانبين الإستراتيجي و الإعلامي، فرجل الشارع العربي البسيط لا يعرف على وجه الدقة نقاط القوة والضعف التي تميز كلا الطرفين، ولعلنا الآن في أمس الحاجة لتوحيد موقف مشترك معتمد على رؤية واقعية لطبيعة هذا الصراع، مستندة لخبرة تربو على السبعين عاماً، لنصل لخطة إستراتيجية وإعلامية وميدانية هادفة وهادئة تعيد الحقوق لأصحابها في ضوء ما تحت أيدينا من متغيرات إقليمية ودولية.
كاتب سعودي
Prof_Mufti@
dr.mufti@acctecon.com