ثقافة وفن

كورونا وبائعة الكتب

محمد محسن

محمد محسن

على ناصية جادة متفرعة عن شارع رئيس في مدينة لوس أنجليس تقع مكتبة صغيرة ورثتها سيدة في الثلاثين من عمرها، عن أبيها الذي قضى بسبب فايروس كورونا المستجد. واضطرت حين لم تجد منزلا تتناسب أجرته مع ما يُكسبه إياها بيع الكتب، إلى تحويل جزء من مكتبتها إلى مسكن صغير يؤويها مثلما اضطرت قبلاً إلى بيع المبنى ذاته مقابل ما كان يدين به والدها لصديق مفترض، شريطة أن تبقى ومكتبتها نظير أجرة تدفعها.

خلف طاولة خشبية عتيقة تغطيها قطعة من قماش الأكريليك وتعتليها نسخ قديمة من مجموعة قصصية لمارك توين وأخرى لإرنست همنغواي وديوان شعر لإدغار آلان، وبضع وريقات من نوع رديء كتب عليها ما يبدو أنه محاولة تأليف قصيدة؛ اعتادت أن تجلس هيلين. لساعات طوال كانت تضع جسدها النحيل على كرسي يحملها بغضاضة وقد تقوست أرجله من فرط قدمه.

لقد كانت تزجية الوقت في القراءة وانتظار بضع دولارات يأتي بها قارئ طارئ هي جل ما تستطيع فعله. لم تكد تبدأ رحلة انتظارها مساء ذلك اليوم حتى كان السيد جيفري يقف أمامها ببدلته الأنيقة وحذائه الإيطالي اللامع وقناعه الطبي. والسيد جيفري هو صديق والدها ومالك المتجرين المجاورين، مع أُخر على الجادة الرئيسة، وقد أتى للمرة الرابعة خلال أيام ليطلب إليها سداد الأجرة المتفق عليها بينهما، ولكنه لم يأت بمفرده هذه المرة. كانت السيدة هيلين قد توقعت حضوره وعلمت منذ الليلة السابقة أنه سيكون نقاشاً حاداً، فطفقت تعد له ما رأت أنه مقنع ومنطقي، لكن ما أعدته لم يكن ليواري خوفها من أن يقذف بها ذلك الرجل خارج مبناه، خوف كان يتسلق صوتها ليخنقه بين الفينة والأخرى. وما إن وقف الرجل أمامها حتى اعتدلت هيلين في جلستها وبطريقتها المسرحية راحت تطلق سهام تساؤلاتها من عقلها قائلة: هل شعرت يوماً يا سيد جيفري وأنت تقرأ كتاباً ما بكلمات شائكة تخرج منه وتخز عينيك، وأخرى تلتف حول عنقك ثم تخترقه كما تفعل نباتات الحامول ؟ هل شعرت وأنت تمرر صفحاته بأنك تختنق فتحاول أن تتنفس وتقرأ بسرعة أكبر وتقلب صفحاته بأسرع ما تستطيع وتحاول أن تتنفس كما يفعل الغريق وهو يحاول النجاة إلى أن تشهق فجأة لأن عينيك وقعتا على جملة استثنائية فأصبحت الصفحات حمامات بيضاء فُتحت من خلال إحداها نافذة رحبة على فضاء يعج بالفراشات الملونة والطيور الخضراء والصفراء والزرقاء والأشجار البنفسجية والقرمزية وبت تتنفس بسهولة ؟ هل رأيت يوما سيدة نازية وهي تخرج من بين صفحات رواية ما، وقد ملأها الغضب لتشج رأسك بالقدح الذي تمسك به كما لو كان سيفر من يدك ؟ ثم يخرج من رواية أخرى شاب إنجليزي يرتدي معطفاً أبيض ويجلس إلى جوارك ليمسح الدماء التي غطت جبينك قبل أن يقطبه، وما إن تلتفت إليه حتى تراه وقد دلف إلى الكتاب وأغلق دفته خلفه تاركاً لك قصاصة صغيرة رسم عليها قبلة وابتسامة ؟ هل شعرت بفكرة ما وهي تخرج من رأسك وتفتش بين رفوف المكتبة عن ذلك الكتاب الذي نشأت عنه لتأوي إليه ثانيةً ولكنها أخفقت لأن المكان مكتظ، فبدت كسمراء مشردة أرادت أن تأوي إلى أي ركن في أحد شوارع سكيد رو ولكنها لم تجد فتمكن منها الإعياء وسقطت. ثم تخرج من رواية أخرى عجوز آسيوية لتضعها وإياك في مخدع أثير ثم تغطيكما قبل أن تطفئ الضوء وتتمنى لكما نوماً هانئاً ؟هل، ولم تكمل لأن سعالاً حاداً باغتها وأعاد كلماتها إلى جوفها.

وعبر صوتٍ يملؤه الحزم قال المالك: لست أهتم لما تتخيلين بسبب قراءتك لهذه الكتب، أنا تاجر ولا أحفل سوى بما يدر علي المال، ولستِ بحاجة لأن أذكركِ بأنك تجلسين هنا على هذا الكرسي اللعين دونما عائد مجز يجعلني أتجاوز بغضي لكِ، ومع هذا فأنت لا تفين به. كانت علامات الغضب قد بدأت ترتسم على وجه بائعة الكتب وهي تعيد تصويب نبالها مرة أخرى رغم شعورها بأنها ليست على ما يرام.

أشاحت بوجهها وقالت وهي تكاد تحترق غيظاً: أيها البغيض رأسماليتك هذه تخنقني كما تفعل فكرة حمقاء، وتطبق على رئتي كما يفعل الفايروس اللعين بهذا العالم. في الحياة أيها الرجل ما هو أهم من المال، ما هو أعمق من فكرة الكسب التي تحولك إلى آلة لجمع النقود لا تشعر بقيمة المعرفة ولا أهمية إشاعتها بين الناس، أنتم يا سدنة المال لا تحفلون بما ينفع الآخرين تهربون من مسؤوليتكم المجتمعية كما تفعل الجراء حين ترى ذئباً وتبقون طوال حياتكم وأنتم تعانون خواء فكريا. تئن رؤوسكم فلا تلتفتون إليها بينما تملؤون بطونكم بأصناف الطعام دون أن تطلب. براغماتيتك تشعرني بالغثيان، توق الربح ينزع عنك إنسانيتك، وأأأناااا....

قاطعها الرجل بكلمات لم تستبنها، فقد شعرت بألم في صدرها وإعياء شديد وبدأت تسعل حتى سقطت وقد فقدت وعيها.

بعد ساعات فتحت عينيها بصعوبة فإذا بها ممددة على أحد أرصفة سكيد رو المظلمة، وهي تتنفس بصعوبة ولم تكن لترى الإضاءة التي تصدر من سقف عربة الإسعاف لولا أنها كانت تلون جبين العجوز الآسيوية التي تجلس إلى جوارها.