كتاب ومقالات

«عين العزيزية».. سقيا الخير من فيض «المؤسس»

نجيب يماني

حين تقف متأمّلاً هذا الصرح الخيري الباذخ؛ وقف الملك عبدالعزيز للعين العزيزية، تتداعى إلى خاطرك صور التاريخ وهي تجسّد عظمة قائد فذٍّ، وروح أبٍ حانٍ، ورؤية ملك جمع أسباب المجد كلها، بدءاً بملحمة التوحيد، وصولاً إلى إرساء مملكة راسخة الأركان، سامقة البنيان، متشارفة للمعالي على مر الحقب والأزمان.

صرح يقف شاهداً اليوم على ما كان يوليه الملك المؤسس -طيّب الله ثراه- من اهتمام بالغ برعيته، وحرص على توفير الحياة الكريمة لهم، بتذليل كل الصعاب، وتوفير كل معينات الحياة، صوناً لكرامة إنسان المملكة، ونهوضاً به نحو مشارف التطوير والنمو والازدهار.. إنجاز لم يضع للوقت اعتباراً بل اختصر مسافاته اختصاراً.

عد بالذاكرة، وانظر في صفحات التاريخ المسطورات بكل الفخر حول هذا الصرح، سينبئك أن هاجس العطش، كان دائماً يخيّم بظلاله الكثيفة على جدة؛ عروس البحر الأحمر، وزاد الأمور سوءاً عندما تعرضت «الكنداسة»، مصدر الماء الوحيد للمدينة، لعطل لم تفلح معه كل محاولات الإصلاح، فاجتمع أثرياء ووجهاء «العروس» وأسهموا بتبرعاتهم لشراء عين ماء. وعندها جاء تدخّل الملك عبدالعزيز، رحمه الله، ليرد التبرعات أولاً إلى أصحابها، ويوجّه من ثمّ وزير ماليته آنذاك، معالي الشيخ عبدالله السليمان، بإنفاذ عقد الاتفاق لجلب الماء من وادي فاطمة إلى مدينة جدة على نفقته الخاصة، مشدداً عليه بأن لا يبخل على ملاك العيون والآبار بالمال، في طيّات كلمات باقيات ما بقي الزمان لأهل جدة: «إني قد أمرته بأن يجتمع بكم وأن يتذاكر معكم في عقد الاتفاق وأمرته أن لا يبخل عليكم بمال».

هل تجد لذلك الصنيع من كلمات تصفه حق وصفه، وقد أمنت جدة من غوائل العطش، وارتاحت من ضنك البحث عن الماء الزلال.. أي وصف يمكن أن يجسّد ذلك، وفي الأثر عن سيدنا رسول الله، صلّى الله عليه وسّلم، أحاديث تضع صدقة الماء في أعلى سنام الصدقات ففي الحديث «أَفْضَلُ الصَّدَقَةِ الْمَاءُ».

لو طويت حجب الزمان، وعدت القهقري قبل قرن من الزمن، لألفيت الجميع وقد شرعوا في إنزال الأمر إلى أرض الواقع، في تجسيد رائع لمعاني الإنجاز الفوري لمشروعات التنمية في بلادنا، فكان أن اشترى الملك المؤسس عيوناً ثريّة بالماء العذب في واديي فاطمة وخليص، وأجزل التعويض لمالكيها حتى الرضا، ثم أوقفها صدقة محبوسة الأصل لذلك، لا تورث ولا تباع، مرسياً بذلك قواعد الخير، وشواهد الإيثار لأبناء وطنه. ولضمان جريان المياه في وقفه، أمر «المؤسس» بحفر آبار إضافية، تساعد في حالة الجفاف وشح الأمطار، في رؤية بصير، واستشراف حكيم

رافق كل ذلك تأمين محطات توليد كهربائية، وشبكة تمديدات ومحولات عمومية لرفع المياه من الآبار، وضخها في الأنابيب، مع بناء صهاريج لحفظ المياه وتعقيمها، وبناء ورش عمل هندسية، ومختبرات لتحليل المياه، بما شكّل مشروعاً متكاملاً ومتطوراً بمقياس ذلك الزمان، مما مكن مدينة جدة من التمدد والاتساع والعمران متجاوزة نطاقها المكاني من داخل سورها إلى فضاء عمراني متراحب.

وأصبحت العين العزيزية مصدراً لتزويد مناطق جدة بالماء لضمان الحياة والعيش في أمن وأمان حتى وصلت إلى ما عليه اليوم بفضل من الله ثم وقف المؤسس طيب الله ثراه.

هذه العين الموقوفة من مؤسس هذا الكيان، امتد خيرها وعطاؤها ليشمل حجاج بيت الله الحرام، حيث أمر أن تأخذ العين العزيزية المبادرة بلم شتات الحجاج القادمين من خارج المملكة، حيث تم تشييد ثلاث مدن للحجاج تضم في جنباتها سبعاً وعشرين عمارة بكامل منافعها وقفاً لوجه الله، محققة الاستقرار والأمان لضيوف الرحمن وتسهيل أمورهم والمحافظة على ترتيبات قدومهم ومغادرتهم بيسر وأمان.

ولمّا كان هذا الوقف بهذه المكانة، والرمزية الخيرية الباذخة للمؤسس. فقد تولى أبناؤه البررة الكرام من بعده شؤونها، حيث أولوها كامل العناية، ومحّضوها ما تستحق من الرعاية، فكان أول ناظر لهذا الوقف الملك الشهيد فيصل -رحمه الله-، فمنحه عنايته واهتمامه ورعايته، فتوسعت موارده وتمددت مرافقه وتضاعفت ميزانيته، وتملك العديد من الأراضي والعقار.

واليوم ونحن نعيش عهدنا الزاهر بقيادة خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان، وولي عهده الأمين محمد الخير، أسند أمر رئاسة نظارة الوقف للأمير الطموح خالد الفيصل، تعينه في ذلك نخبة من رجال مميزين صادقين، لإدارة ممتلكات الوقف المالية والعقارية. وتطوير أراضي الوقف وتعميرها والإسهام بها في تشكيل غد مشرق قادرعلي صناعة المستقبل، وتشكل مورداً مادياً لهذا الوقف المبارك والإشراف على الأنشطة الخيرية المختلفة، لتنضم إلى عقد الأعمال الخيرية السابقة؛ وهي كثيرة جداً وكلها تصب في مساعدة الفقراء والمحتاجين ودعم الجمعيات الخيرية القائمة وإنشاء دور لرعاية المسنين وتوفير حياة كريمة لهم، في سياق من عطاء متصل وممتد.

إن لوقف الملك عبدالعزيز -رحمه الله- رؤية مستقبلية طموحة وإستراتيجية تطورية مميزة عبر العديد من المبادرات المختلفة والتي تهدف لتنمية المكان وإنسانه، لعل من أهمها أن الوقف المبارك يولي اهتمامه لإعادة تطوير وتعميق الآبار الموجودة والمهجورة في القرى والمناطق والمحافظات المحيطة من أجل سقيا المزارع وبلورة فكر المؤسس في التوطين والاستقرار وتوفير الأمن الغذائي للوطن مواكباً رؤية 2030 الطموحة، كما يسهم الوقف في وضع الدراسات والمشاركة في البحوث التي تهدف إلى تحلية المياه المالحة بتقديم مبادرات تسهم في تحقيق الأمن المائي والغذائي خاصة وأن هذه إحدى ثمار الرؤية التي نتفيؤ ظلالها اليوم.

لابد أن يواكب هذا الوقف المبارك نظرة المؤسس البعيدة في تطوير أعماله ليسهم بدوره المطلوب في تحقيق النهضة الشاملة، والإسهام في مجالات التنمية والبناء، وربط مبادرات إمارة منطقة مكة المكرمة لبناء الإنسان، وتنمية المكان، والإسهام في صناديق التنمية الاجتماعية، الأمر الذي أكده الأمير خالد الفيصل في أكثر من مناسبة، بالإشارة إلى أن الوقف بناظره الواقف على أمره لديه الكثير من مشاريع الخير التي تتجلى فيها روح المؤسس، ونظرته، والتي جعلت من جدة مدينة حية بماء وادي فاطمة.

لابد من مساهمة حقيقية من البنوك ورجال الأعمال والمقتدرين والتجار في هذا الوقف الذي كتب قصة مدينة كادت أن تندثر عطشاً، تذكرنا بماضينا ونعيش فيها حاضرنا ونستشرف من منافذها أحلامنا.

كيف كانت جدة وكيف أصبحت، ذاكرة مليئة بالأحداث تستحق منا أن نرد الجميل ونواصل البناء والإخلاص لوطن بحجم الشمس.

كاتب سعودي

nyamanie@hotmail.com