زوايا متخصصة

فاطمة الزياني..رائدة الممرضات الخليجيات

فاطمة متوسطة وزير الصحة علي محمد فخرو وكبير أطباء حكومة البحرين مستر سنو.

بقلم: د. عبدالله المدني - أستاذ العلاقات الدولية في مملكة البحرين abu_taymour@

في مقال له بجريدة الأيام البحرينية (21/‏‏‏‏6/‏‏‏‏2011) توقف أستاذ الإنثروبولوجيا بجامعة البحرين الصديق الدكتور عبدالله عبدالرحمن يتيم، ضمن دراسته حول أعيان البحرين وجذورهم الاجتماعية، عند الوجيه علي بن إبراهيم بن حسن بن إبراهيم الزياني العدواني (نسبة إلى بني عدوان، وهي إحدى العشائر العربية الكبيرة المنتشرة في دول الخليج)، فتطرق إلى دوره التجاري قائلا، إنه كان وكيلا للتاجر الألماني مستر دالكوس، الذي استورد على سبيل المثال من الزياني عام 1901 ما بين 6000-10000 جونية (كيسا) من الصدف بسعر روبيتين ونصف للكيس الواحد.

ويمكن هنا أن نضيف معلومات أخرى عن الرجل، الذي نُعت بشيخ الطواويش، منها أنه ولد عام 1848 وتوفي عام 1929، وكان من كبار تجار اللؤلؤ المعروفين بالكرم والبذل في سبل البر والخير في البحرين وعموم الخليج، ومن أصحاب العقارات داخل البحرين وخارجها (في لنجة على الضفة الفارسية من الخليج العربي، ودارين مثلا)، وكان ممن قضى هو وبعض أبنائه وطرا من حياتهم في الهند، يتاجرون ويغرفون من كنوز المعارف والعلوم في تلك الديار ويحتكون بثقافات أهلها ويوطدون صلاتهم بغيرهم من تجار الخليج والجزيرة العربية المقيمين بالهند. كما أنه حصل على وسام ولقب «بك» من الدولة العثمانية بسبب تمثيله للأخيرة في جزر البحرين، وبسبب حسن معاملاته التجارية، وسمعته الطيبة، وخدماته الجليلة، معطوفة على نفوذه المتأتي من ثرائه.

وهناك وثائق عديدة حول قيامه هو وابنه الأكبر محمد بن علي الزياني بالاقتراض من التجار الهنود البانيان، في أوقات نقص السيولة عندهما، من أجل تمويل رحلات الغوص وصيد اللؤلؤ أو من أجل تمويل وارداتهم للسوق المحلية.

وقد دلل الباحث الكويتي «سيف مرزوق الشملان» على مدى ثراء علي بن إبراهيم الزياني وابنه محمد بإيراد قصة «دانة بن ياقوت» في الجزء الأول من كتابه «تاريخ الغوص على اللؤلؤ في الكويت والخليج العربي» (دار ذات السلاسل/‏‏‏‏ الكويت/‏‏‏‏الطبعة الأولى/‏‏‏‏1986/‏‏‏‏ ص 314)، وملخصها أن الغواص الكويتي عمر بن ياقوت حصل على محارة بطريق الصدفة، فلما فتحها وجد بداخلها دانة فريدة تزن نحو 170 جوا، ففرح بها وذهب لبيعها في سوق اللؤلؤ الشهيرة بجزيرة دارين، وكان محمد بن علي الزياني متواجدا هناك فاشتراها منه بمبلغ 110 آلاف روبية، ثم قام الزياني ببيع تلك الدانة التي سميت بـ«دانة بن ياقوت» في الهند عام 1918 بمبلغ 170 ألف روبية.

كما أورد الباحث البحريني بشار يوسف الحادي، في شأن سهولة اقتراضهما للأموال بضمان سمعتهما التجارية الحميدة، وثيقتين في الصفحتين 458 و459 من الجزء الثالث من كتابه «أعيان البحرين في القرن الرابع عشر الهجري»: الأولى حول قيام الحاج علي بن إبراهيم الزياني وابنه الحاج محمد في عام 1909 باقتراض مبلغ عشرة آلاف روبية من البانيان «سيت تالسي دارسين» وكيل البانيان «كشنداس مجرداس»، وذلك في حضور وشهادة التاجرين البحرينيين أحمد بن علي يتيم، وعبدالرحمن بن أحمد الوزان. أما الوثيقة الثانية والمؤرخة في العام نفسه فتدور حول إقرار الزياني الأب والزياني الابن باستلامهما ألف جونية عيش بلم من البانيان «سيت كشنداس هيرداس» بقيمة إجمالية قدرها 15 ألف روبية، على أن يسددا المبلغ المذكور لاحقا. وهذه الوثيقة مذيلة أيضا باسمي تاجرين بحرينيين هما أحمد بن سلمان بن محمد كمال، ويوسف بن أحمد كانو كشاهدين على عملية البيع بالأجل.

ومن الأمور الأخرى التي تطرق إليها الزميل الدكتور يتيم في بحثه المشار إليه آنفا، دور الحاج علي بن إبراهيم الزياني في الحياة العامة في البحرين، وكيف أن هذا الدور تميز بالانفتاح الفكري في زمن مبكر، مما جعله يتماهى مع منجزات العصر دون حساسية ويقوم بمبادرات وخطوات لم يكن يجرؤ عليها أقرانه.

ومن ذلك أنه أنشأ أول مدرسة أهلية للبنين على نفقته الخاصة في بيت من بيوته ذي الغرف الكبيرة بفريج الزياينة بالمحرق سنة 1912، أي قبل افتتاح مدرسة الهداية الخليفية في العام 1919، وحرص على أن يتلقى ابنه محمد بن علي بن إبراهيم الزياني (توفي 1936) العلوم والمعارف الحديثة ويتماهى مع مظاهر التمدن والعصرنة، ويستفيد من دروس الحياة، فكان يأخذه معه إلى الهند في زياراته المتكررة، ويجعله ملازما له في مجالسه وزياراته لكبار التجار داخل البحرين وخارجها، وهو ما مكن الابن محمد من تعلم اللغة الإنجليزية وبعض اللغات الهندية، ومعرفة أصول التجارة والبيع والشراء، واكتساب الفطنة والنباهة وحسن التدبير، علما بأن محمدا عشق الهند كثيرا إلى أن لاقى وجه ربه في بومباي ودفن بها.

ولع العائلة بالعلم

ويبدو أن هاجس التعليم والتحصيل، من منطلق الإيمان الراسخ بأن العلوم والمعارف الحديثة هي السبيل الأجدى للتقدم والنهوض واللحاق بركب العصر، انتقل من الأب علي إلى ابنه محمد وأخيه عبدالرحمن. الذي اختارته الدولة العثمانية مندوبا ساميا لها في البحرين بعد وفاته، وهب منزله في المحرق ليكون مقرا لأول مدرسة نظامية للبنات (مدرسة خديجة الكبرى التي افتتحت عام 1928). أما ابنه محمد فقد حرص على إرسال ولده جاسم بن محمد الزياني إلى الهند للدراسة، فعاش الأخير هناك لمدة 40 عاما متواصلة قبل أن يعود إلى البحرين ويتوفى بها، وكان خلال إقامته الطويلة بالهند مقيما لأثمان اللؤلؤ، محبا لمساعدة الخليجيين المقيمين أوالزائرين دون مقابل.

كما أرسل محمد ابنه الآخر إبراهيم بن محمد الزياني (توفي عام 1994) إلى الهند لدراسة الصيدلة بسبب تفوقه في اللغة الإنجليزية، وبالفعل أنهى الرجل دراسته هناك وتخرج وعاد إلى البحرين ليعمل أولا في مستشفى النعيم بالمنامة، ثم طلبته شركة الزيت العربية الأمريكية (أرامكو) في حدود عام 1935 للعمل لديها بمقرها الرئيسي بالظهران. والمعروف أن إبراهيم (والد فايزة ونزهة وفائق وفؤاد وفواز وخليل ومحمد وفائزة وإيمان) كان متنورا مثل والده. وآية ذلك أنه دخل قطاع الترفيه في حقبة كانت فيها خطوة كتلك مغامرة محفوفة بالمخاطر. ففي عام 1937 قام بالاشتراك مع مجموعة من المواطنين الشباب (الشيخ علي بن عيسى آل خليفة وعبدالله الزايد وحسين يتيم) بافتتاح أول دار للسينما في الموقع الحالي لسينما الحمراء تحت اسم «مرسح البحرين» أو «سينما الوطني»، لكن خلافات دبت بين الشركاء لاحقا، فانسحب إبراهيم وقام باستئجار أرض من بلدية المنامة لمدة 99 عاما في منطقة القضيبية وبنى فوقها «سينما الأهلي» أو ما عرف عند الجمهور بـ«سينما الزياني».

كان ما سبق توطئة للحديث عن «فاطمة الزياني»، ابنة التاجر المحسن الحاج علي بن إبراهيم الزياني، والأخت غير الشقيقة لتاجر اللؤلؤ محمد بن علي بن إبراهيم الزياني، والتي دخلت تاريخ بلادها كأول خريجة وأول ممرضة مؤهلة، بل إن متطلبات عملها بالتمريض جعلتها تحصل على أول رخصة قيادة بحرينية تمنح لامرأة، وذلك في عام 1947، لتصبح هي والكويتية بدرية سعود الصباح (نالت إجازة القيادة في عام 1947 أيضا بسبب متطلبات عملها كمشرفة عامة على الشؤون الصحية في بلادها) أول سيدتين في الخليج تحصلان على رخصة قيادة سيارة، علما بأن أول سيدة عربية حصلت على إجازة قيادة كانت المصرية «عباسية فرغلي» في سنة 1920، وتلتها العراقية «أمينة علي صائب» في سنة 1936.

مخلصة وشغوفة

ولأن فاطمة المولودة عام 1918 لأم من عائلة الجلاهمة المعروفة نشأت وترعرعت في بيت والدها بالمحرق العبق بروائح المؤلفات في شتى المعارف والمزدحم بالضيوف والزوار من رجالات العلم والفكر وتجار اللؤلؤ وأعيان البلاد، فقد كبرت وكبر معها عشقها للمعرفة وتطلعاتها لبلوغ آفاق دراسية بعيدة. تقول الباحثة الاجتماعية فايزة إبراهيم الزياني في حديث صحفي منشور في ديسمبر 2009م عن عمتها فاطمة الزياني: «عندما كنا صغارا كنا نراها تعمل بإخلاص وتلبس اللباس الأبيض وكانت دائماً تحثنا على التعليم وعلى العمل لخدمة الوطن»، ثم تفسر فايزة أسباب ذلك بالقول: «لأن أجدادنا كانوا متعلمين فعلموا بناتهم، والبنات بدورهن حملن الرسالة جيلا بعد جيل».

ويؤكد المؤرخ البحريني خليل محمد المريخي هذا في مقال نشرته له صحيفة أخبار الخليج البحرينية (30/‏‏‏‏12/‏‏‏‏2015) بقوله: «إنها -أي فاطمة الزياني- من عائلة عرفت بشغفها للعلم والمعرفة. ففي عام 1937/‏‏‏‏1938، سافرت إلى بيروت للدراسة في الكلية الإنجيلية - السورية (جامعة بيروت الأمريكية لاحقا) كل من شريفة وشقيقتها لولوة محمد علي إبراهيم الزياني وزعفرانة سعيد مبتعثات من دائرة المعارف التابعة لحكومة البحرين، ثم تتابعت البعثات الدراسية عاما بعد عام، وغالباً ما تجد بينهم بعضا من أفراد عائلة الزياني الكريمة.

عوائق اجتماعية

واجهت فاطمة الزياني صعوبات جمة لجهة مواصلة دراستها الأولية بسبب العادات والعوائق الاجتماعية والدينية آنذاك، لكنها، رغم صغر سنها وقلة حيلتها واعتراض والدتها، تغلبت على الصعاب بإصرارها وقوة عزيمتها وصلابة إرادتها. وهكذا شقت طريقها ونالت الشهادة الابتدائية من مدرسة كانت في تلك الحقبة موضع شكوك واتهامات من البعض بأنها تعمل على تنصير أو تغريب أبناء وبنات البلاد، ألا وهي مدرسة الإرسالية الأمريكية بالمنامة (مدرسة الجوزة سابقا ومدرسة الرجاء حاليا) التي فتحت أبوابها في عام 1899 على يد الأمريكية «إيمي زويمر».

ولدراستها وتخرجها في هذه المدرسة حكاية تطرقت لها الأستاذة فايزة إبراهيم الزياني في كتابها «واقع العمل الاجتماعي في البحرين» الصادر عام 1994. تزوجت فاطمة في سن مبكرة من ابن عمها محمد بن مساعد بن خليفة الزياني الذي سرعان ما توفي تاركا لها ابنتهما شيخة. وفي الثلاثينات كانت فاطمة تذهب يوميا إلى مدرسة الإرسالية لإيصال الصغيرة شيخة، فكانت تجلس معها تتعلم ما تتعلمه حتى توفيت صغيرتها فجأة بحمى شديدة، مما ترك في نفسها ألما وغصة لم تتخلص منها إلا بعد مدة طويلة، تلتها محاولات حثيثة من قبل صديقاتها لإقناعها بمواصلة ما تعلمته. وبالفعل تحمست فاطمة وأكملت دراستها وتخرجت حاملة الشهادة الابتدائية، التي كانت في تلك الحقبة ذات قيمة وتمنح حاملها وضعا اجتماعيا مميزا. ومما حدث أيضا في هذه الفترة من حياتها أنها انتهزت فترة إجازتها الصيفية للعمل كمساعدة للممرضة بيرسوم في مستشفى الإرسالية الأمريكية (افتتحت عام 1903)، مدفوعة برغبتها في تخفيف آلام المرضى وتقديم العون الممكن لهم. وقد بدأت عملها في المستشفى، مرتدية الملابس البحرينية التقليدية إلى أن تمّ إقناعها بلبس ملابس الممرضات، ولأن الملابس الأخيرة كانت مستنكرة في مجتمعها الصغير فقد لجأت إلى ارتدائها داخل العيادة، وخلعها قبل خروجها للعودة إلى منزلها.

يقول خليل محمد المريخي (مصدر سابق): «نظراً إلى مشاهدتها لبعض حالات المرضى المؤلمة وما كانوا يعانونه من قساوة المعاملة في بعض الحالات، فقد تولدت لديها منذ ذلك الوقت رغبة جامحة في أن تدرس وتتعلم مهنة التمريض، مهما كانت المتاعب والصعاب، لتساعدها وتعينها هذه المهنة على التخفيف من ويلات المرض والحالات الصحية التي كان يعانيها المرضى. كان ذلك هو الهدف الذي رسمته في بداية مشوارها والذي حددته عندما تتخرج من دراسة التمريض، وكان لها بالفعل ما أرادت فقد حقق لها الله سبحانه وتعالى تلك الرغبة والأمنية الراسخة والتي كانت تراودها من حين إلى آخر».

ففي عام 1937 سافرت إلى العراق، حيث التحقت هناك بكلية التمريض في بغداد، وقد ساعدتها في ذلك إجادتها للغة الإنجليزية التي تعلمتها في مدرسة الإرسالية الأمريكية. وخلال دراستها في العراق أظهرت تفوقاً ملحوظاً، تكلل بتخرجها بتقدير جيد جدا من كلية التمريض في عام 1941، وحصولها على أعلى الدرجات والمرتبات في المواد الطبية والجراحية والولادية. وبانتهاء مشوارها الدراسي الطويل عادت فاطمة إلى البحرين والتحقت على الفور بالعمل في الخدمات الصحية كممرضة وقابلة مؤهلة، حيث عينت في مستشفى النعيم، ثم انتقلت منها للعمل بمستشفى السلمانية مع الطبيب البريطاني سنو (كبير أطباء حكومة البحرين).

سيدة مقدامة.. احتكرت الأولويات

على أن طموحات هذه السيدة المقدامة لم تقف عند هذا الحد من الإنجاز. ففي عام 1947 افتتحت صيدلية تحت اسم (صيدلية الزياني)، فكانت أول بحرينية وخليجية تقوم بمثل هذا المشروع. وقد استمرت هذه الصيدلية تعمل لمدة خمس سنوات، وكانت بداخلها غرفة لعلاج المرضى والأطفال، كما كانت تمنح الأدوية مجانا لغير المقتدرين. علاوة على ذلك راحت فاطمة في خمسينات القرن العشرين تزور الأسر في بيوتها للقيام بعمليات توليد النساء الحوامل. وكثيرا ما كانت ترفض قبول أي أجر، مقدمة خدماتها مجانا، خصوصا للفقراء والمحتاجين، ولهذا لم يكن غريبا تسميتها بالقابلة التي ولد على يدها كثير من أبناء البحرين من ذوي المراكز المرموقة اليوم.

في عام 1959 تمّ تعيينها مديرة للعيادات الخارجية بمستشفى السلمانية، ثم نالت ترقية أخرى في عام 1963 بتعيينها مساعدة لرئيسة الممرضات. واستمرت تؤدي عملها بمحبة وإخلاص وإنسانية في هذا المستشفى الكبير إلى أن دهمتها بعض الأمراض مما أجبرها على تقديم استقالتها من عملها بصورة نهائية في عام 1971. وكانت فاطمة قبل ذلك بعام واحد قد تلقت شهادة تكريم وميدالية من لدن سمو أمير البحرين الراحل الشيخ عيسى بن سلمان آل خليفة.

وعلى الرغم من متاعبها الصحية، إلا أنها واصلت العطاء من خلال إلقاء بعض المحاضرات في كلية العلوم الصحية بالمنامة وفي مدرسة التمريض التابعة لمستشفى الإرسالية الأمريكية. وفي عام 1980 تمّ تكريمها من قبل وزارة الداخلية بمناسبة مرور 35 سنة على قيادتها للسيارة دون أن ترتكب أي حوادث أو مخالفات مرورية. ثم كُرمت للمرة الثالثة في عام 1981 من قبل كلية الممرضات بالمنامة التي خصصت جائزة سنوية تحت اسم «جائزة فاطمة الزياني» تقدمها لطلبتها المتفوقين.

وأخيرا جاء شهر يوليو من عام 1982، وهو التاريخ الذي انتقلت فيه فاطمة إلى جوار ربها. والمفارقة هي أن رحيلها كان في بومباي، المدينة التي عشقها والدها وتوفي ودفن بها، والتي شهدت أيضا نشاط وتجارة أخيها محمد. وبهذا أسدل الستار على حياة رائدة من الرائدات الأُول في تاريخ البحرين والخليج العربي، ممن كافحن واجتهدن في الزمن الصعب.