كتاب ومقالات

أيام ليست للنسيان !

فؤاد مصطفى عزب

عندما كنت طفلاً في «مكة»، كنت طفلاً يحتفي بالمطر عندما تهطل على «حي شعب عامر» أنتظر السحاب على الجبال، وأقف حيث الريح، عندما كنت طفلاً، لم يكن هناك تلفزيون، التلفزيون ظهر في مرحلة متأخرة، كأن الفحم صار نجماً، كنا نضحك تحت ظلال الأحلام كجمر جدي، غير مصدقين، ونحن نشاهد المصارعة الحرة، على ذلك الجهاز، في الغزة، لدى دكان سامي وحسن دهلوي، لبيع الأجهزة الكهربائية، كان الوقت فراغاً، وكان الفراغ لاسقف له، كنا نشق الطريق من الغزة إلى شعب عامر، عائدين كما تشق السفينة موج البحر، نأوي إلى بيوت يتكئ كل حجر فيها على جدار القمر، الذي يغمر الأزقة المظلمة بضوئه، كانت الأزقة ضيقة كالبكاء، طويلة كامرأة تتدلى من قمة الخيال، كان لدينا راديو، وهو ليس الموجود حالياً بحجم الكف، بل كان عبارة عن دولاب كبير أسفل منه بطارية أو أكثر، تعادل تلك البطارية حجم البطاريات الضخمة المستخدمة حالياً للسيارات، كنت في مرحلة من مراحل طفولتي، أعتقد وأنا أستمع للمرحوم «زاهد قدسي» عميد المعلقين الرياضيين في السعودية، أن اللاعبين والحكام، وزاهد قدسي نفسه يجرون داخل هذا المذياع، كما كان يسمى، وكانت مشكلتي الجماهير، كيف تجد مكاناً لها هي الأخرى!! بينما كنت أحس أن قارئ القرآن، المقرئ المرحوم «محمد رفعت» يجلس مستريحاً 24 قيراطاً، بعكس اللعيبة المزنوقين، وأكتشفت في وقت لاحق أن الحكاية، موجات صوتية، وأن مع التطور يقل الحجم، لم تكن لدينا في مكة في ذلك الوقت، الكثير من الأجهزة الكهربائية، لا سخانات، ولا خلاطات ولا غسالات، ولا ثلاجات، ولا بوتجاز، في وقت متأخر ظهر «المكيف الصحراوي» وحجمه كان يعادل 6 مرات حجم المكيف الخارجي المتنقل والذي يحمل في اليد، ويوضع في الشرفات والحدائق، ويملأ من الجانب بماء مثلج، كان أشهر شيء في المطبخ، «موقد الغاز النحاسي» يعبأ بالغاز وله كباس في الجنب يضغط عليه عدة مرات حتى يعمل، بينما رقبته العلوية مسطحة تملأ بالسبيرتو الأحمر، كوسيلة لبدء التشغيل، ومن يدعي من جيلي أنه لا يعرف السبيرتو الأحمر، أقول له هات الخيط والإبرة وعلمني كنت عائش فين؟ كان من يبيع هذا السائل السحري، رجل فلسطيني اسمه «أبونبيل» وكان لديه حاويات صغيرة من الألمنيوم يقال لها «جالون» يملأ بها السبيرتو، قادتني حماقتي مرة وتطفلي الماكر، أن أفتح تلك الحاوية، والتمتع برائحتها الذكية، كان العقل خاتم فضة في إصبع مجنون، وانتهى الأمر أن أعود مترنحاً، وانتهت تلك النشوة الوقتية، ببعض الكفوف المكاوية والقرص في كل أنحاء الجسم، كان كل ذلك كفيلاً لإعادتي من جديد لمستوى الأرض، بعد أن جعلتني تلك التجربة، أرسم أشرعة وزوارق ورقية وأرحل فيها، إلى عوالم غريبة، كان ذلك الموقد النحاسي، يد ورجل المرأة المكاوية، تطبخ عليه، وتسخن عليه ماء الاستحمام في الأيام الشتوية، وبراد الشاهي، وخلافه، وكان الأكل دائماً طازجاً، فلا توجد ثلاجات لحفظ الطعام، على مستوى المواصلات، كان من يمتلكون العربات فئة قليلة، ولقد أصبت بالهم والغم، حال شراء أحد السكان في زقاقنا الذي نلعب به الكرة، عربة ومنعنا من اللعب وذلك حتى لا نهشم زجاج عربته، وكان البديل أن نذهب للعب أسفل عمارة المرحوم «بسام البسام» والذي تحملنا وحتى تخرج كل منا ومضى لحال سبيله، كان المرحوم «بسام البسام» رجلاً قلبه مدينة، وروحه رهيفة كحفيف ورق العنب في خريف منزل قديم، صوته خفيض لا يكاد يسمع، بنفسجة ذلك الرجل في أعلى الجبين، كنا نتفرق ونبسط أرجلنا في الفراغ، ما إن نسمع صوت المرحوم نقيب الحارة «معتوق حجي» كان يمضي على ظهر حمار، وكان صوته كصفارة الباخرة، كنا نعدو في ظل البياض، لا نرى غيرنا، كنا نتداول الأيام، كما يتداول صيرفي عملة مهترئة، نفرح عندما تمطر السماء جراداً، ما إن تظهر في الأفق طلائع سحابة بيضاء، غلالة لا تلبث أن تمتد وتنتشر فتغطي السماء بأكملها، إنه الجراد يأتي دون انتظار، نهرع إلى السطح، فنعثر على عشرات منه، نمسك بواحدة برفق، ونعقد حول عنقها بحذر شديد، خيطاً نمسك طرفه الآخر، تتدلى الجرادة المربوطة من طرف الخيط، في الهواء، فتنشر أجنحتها، تشرع في الطيران، لا يبتعد بها الخيط بعيداً، نراقبها وهي تكشف لنا أسرارها، فنرى أجنحتها، الشفافة التي تختفي وراء أجنحة صلبة، لها لون التراب، كانت بينها جرادات ذات أجنحة وردية، محظوظ من يعثر على واحدة، حيث يصعب العثور عليها، كنت أتردد أحياناً على مكتبة «الثقافة» والتي يملكها المرحوم «صالح جمال» بسوق الليل، كان ذلك الكريم، يعلم أحياناً، أن ليس لدينا مال كاف لشراء المجلات والكتب، كان يمد إلينا المجلة والكتاب، ويأخذ ما تيسر، ويرسل لنا ابتسامة تشق عين الصباح، نافورة صباح تخبئ الياقوت في القواقع لنا، كان حكيماً وحليماً، كان عطوفاً كعاطفة الأمهات، وكنا سمكة الأصيل، كان يشجعنا على القراءة الحرة، وبشكل غير مباشر، كانت أصوات كثيرة تتمدد كسرب الحمام أسفل البيوت، وتنتشر في الأزقة المكاوية، كان أشهرها «فرقنا» «أمزون» ذلك الوقت، حيث لديه في «بقشته» كل شيء وأي شيء، أما عن «الحلاوة المطو» فكانت اختراعاً عظيماً يتمثل في خلطة كثيفة من السكر والحليب، تلف على عامود خشبي مبروم، يسحب البائع من ذلك العامود ما يشاء وحسب ما لديك من نقود، لا تسألونني عن الجراثيم والمكروبات، فمن كانت الريح ظلهم لا خوف عليهم ولاهم يحزنون، كانت الأعمال المنزلية في تلك المنازل الصغيرة، التي رغم صغرها أوسع ما تكون الخطى، متشعبة من تخريط الملوخية، إلى تقميع البامية، إلى نقاوة الرز، إلى تقوير الباذنجان والكوسة، قبل الحشو، إلى عمل المربات، والمخللات، إلى تنفيض السجاجيد، ولقد سبقت النوافذ المكاوية المفتوحة لكل العابرين، الـDHL وكذلك الـUPS حيث كانت السلال ذات الحبال الطويلة، تتدلى من الشبابيك، وبداخل كل سلة، مبلغ من المال، ونداء يتردد من الشباك «لا تغش» أيام أعود إليها كلما أشتد بي الظمأ، كقمر يشرب من بحيرة، أيام هي غاز مسيل للدموع، كانت كالعشق.. كالقصائد.. كالوجع الهادئ!!