أخبار

محمد عبده.. يتيم أصبح أباً لأغنيات العرب

عبرت أشجانه «سكة التايهين».. ورسخت ألحانه في كل «الأماكن»

عبده في أوقات الفراغ وممارسة الرياضة.

بقلم: د. عبدالله المدني

عرفتُ الفنان محمد عبده لأول مرة صوتا حالما يشدو بأغنية «سكة التايهين». وقتها كنا في منتصف المرحلة الإعدادية وكانت المراهقة تطبق على أنفاسنا وحراكنا، لذا كان التنفيس الوحيد لنا هو أن نترك ذواتنا تحلم مع صوت شجي وكلمات عشق جميلة ولحن رومانسي. ووقتها كنا أيضا نمر بمرحلة الانتقال من الفن المصري المتسيد إلى الفن المحلي الخليجي، الذي ساهم في ترويجه انتشار أجهزة الراديو الترانزستور الخفيفة ومعها أجهزة الغرامون اليابانية سهلة الاستعمال، وبالتبعية انتشار الأسطوانات البلاستيكية زهيدة الثمن من الإنتاج اليوناني.

كان محمد عبده آنذاك في نظرنا مجرد فنان ينافس الراحل طلال مداح (توفي 2000)، الذي ظهر على الساحة الفنية قبله ببضع سنوات وتسيّدها مع الأسطورة طارق عبدالحكيم (توفي 2012)، ولم يدر بخلدنا أنه سيصبح يوما ما علما من أعلام الغناء. كما لم يدر بخلدنا أنه سيواصل مسيرته متجاوزا الآخرين وسيتربع على عرش الغناء السعودي والخليجي والعربي على مدى نصف قرن.

كالكثيرين من أبناء جيله تعلق عبده بالموسيقى والغناء في سن مبكرة، وراح يحلم بالنجومية. لكن عقبات كثيرة وقفت حائلا أمامه. فصغر سنه مثلا لم يتح له فرصة دخول هذا العالم السحري إلا من خلال برامج الأطفال والكورال. وهو لئن قبل بأن يكون مجرد صوت في كورال إذاعة جدة، إلا أن عينه كانت مصوبة نحو قسم الموسيقى بالإذاعة باعتباره بوابة العبور لمن ينشدون الشهرة والأضواء.

في هذه الفترة المبكرة من حياته، وهو لم يتجاوز 13 عاما من عمره، راح عبده يشارك غيره من أطفال الكورال في ترديد «لبيك اللهم لبيك.. لبيك لا شريك لك لبيك»، وهو الدعاء الذي كانت الإذاعة السعودية تسجله وتذيعه في مواسم الحج. كما شارك في هذه الفترة أقرانه الأطفال كمردد في بعض الأغاني التي كان يغنيها آنذاك الفنان التشكيلي عزيز ضياء في برامج الأطفال مثل أغنيتي «أنا بدي أصير طيار»، طبقا لما نشره عبده بنفسه في صحيفة «عكاظ» (26 /‏12 /‏2019).

اقتحام قسم الموسيقى

ومع مرور الوقت تمكن الفتى الأسمر النحيف ذو العينين الضيقتين والابتسامة الخجولة من اقتحام قسم الموسيقى، وكان الاقتحام بصحبة من سيكون رفيق دربه وسنده ولصيقه وصديق عمره، ألا وهو الملحن الفذ عمر كدرس (توفي 2002)، الذي كان آنذاك مدعوا لتسجيل أغنية «اتجمعوا الخلان» من ألحانه وكلمات المخرج الإذاعي والشاعر الغنائي صالح جلال، وهي أغنية موازية لأغنية «رمضان جانا وفرحنا به» لمحمد عبدالمطلب، أي أنها أغنية ترحيبية بمقدم الشهر الفضيل ولا تبث إلا بعد التأكد من دخول هلاله.

حقق عبده حلمه بدخول الإذاعة، وتعرف على الملحن القدير كدرس فماذا بعد؟ بسبب غياب المسارح والحفلات الفنية في السعودية آنذاك، لم يكن أمامه سوى مخْرَج واحد لإشباع نهمه بالغناء ووضع قدمه على عتبة الشهرة. ولم يكن هذا المخرج سوى الانطلاق من حفلات الأفراح والأعراس التي كانت تقام آنذاك بين أزقة الحواري أو فوق أسطح المنازل الشعبية، خصوصا وأن هذه الوسيلة لم تكن غريبة أو مستهجنة، إذ سبقه إليها طارق عبدالحكيم وعبدالله محمد وطلال مداح وعبدالرحمن طاهر كتالوج وغيرهم. وهكذا انطلق عبده من الحواري، مثل لاعب كرة القدم، لكن بدلا من أن يقذف الكرة للجمهور، قذف لهم أغنية صديقه كدرس «قالوها في الحارة» من ألحان الأخير وكلمات أحمد صادق، وأغاني حجازية أخرى عديدة لغيره مثل: يا سارية خبريني، الدنيا غدارة، حبيبي عندك أمانة، بـُعده طال والنوى، حيث كان الدارج آنذاك أن يغني الفنان في بدايات مسيرته أغاني غيره إلى أن يجود له الحظ بأغنية خاصة.

يتيما منذ السادسة

ولد محمد بن عبده عثمان آل دهل العسيري في 12 يونيو 1949 في محافظة الدرب بمنطقة جازان لعائلة متواضعة الحال، كان ربها يعمل بحارا. في سن السادسة فقد والده فعاش يتيما يصارع متاعب الحياة ويكابد الفقر والعوز إلى حد أنه وشقيقه عاشا فترة من الزمن في رباط خيري بمنحة من الملك فيصل بن عبدالعزيز رحمه الله.

في وسط هذه الظروف المعيشية القاسية كان عبده يحلم بالفن والموسيقى، ويحلم أيضا بأن يصبح مثل والده بحارا، لذا قرر بُعيد إكماله المرحلة الابتدائية أن يلتحق بالمعهد الصناعي في جازان كي يغدو متخصصا في صناعة السفن، ومن الأخير انتقل إلى المعهد الصناعي بجدة حيث تجذر حبه للغناء. وحينما تخرج من المعهد الأخير عام 1963 كانت تنتظره فرصة الابتعاث إلى روما ضمن بعثة حكومية لدراسة صناعة السفن، غير أن الأقدار تدخلت لتغير مسار حياته ومستقبله رأسا على عقب. كان مدير الإذاعة السعودية آنذاك عباس فائق غزاوي (توفي 2005)، قد استمع لصوت عبده واستحسنه من خلال برنامج «بابا عباس» للأطفال الذي كان يقدمه بنفسه، وكان يذاع إلى جانب برنامج آخر مماثل من إعداد وتقديم الشاعر طاهر زمخشري الشهير ببابا طاهر (توفي 1987)، لذا قيل إن غزاوي وزمخشري كانا من ضمن أوائل من اكتشفوا صوت عبده.

بيروت بدلاً من روما

ويمكن بشيء من التجاوز أن نقسم تاريخ المسيرة الفنية لعبده إلى عدة مراحل زمنية. ففي عقد الستينات دخل عالم الغناء من خلال كورال الإذاعة ثم حفلات الأفراح. وفيه، تحديدا عام 1964، سافر لأول مرة إلى الخارج، فبدلا من أن يذهب إلى إيطاليا لإكمال دراسته الصناعية سافر برفقة غزاوي وزمخشري وكدرس إلى بيروت، لتسجيل أولى أغانيه الخاصة، وهي أغنية «خاصمت عيني من سنين» من ألحان السوري «محمد محسن» وكلمات زمخشري. وفي الستينات أيضا عاد بتلك الأغنية إلى وطنه مقدما نفسه للساحة الفنية كمطرب مستقل ومستعد للتعاون مع الآخرين. وهكذا كانت الستينات هي مرحلة الانطلاق، التي تعرف فيها عبده على أهم الشعراء الغنائيين مثل إبراهيم خفاجي الذي سيكون له تأثير كبير على حياته الفنية اللاحقة، وتعاون فيها مع الموسيقار طارق عبدالحكيم الذي لحن له من كلمات ناصر بن جريد أغنية «سكة التايهين» سنة 1966، ناهيك عن الموسيقار عمر كدرس الذي لم يبخل على صديق عمره بالكلمات والألحان، وإنما قام فوق ذلك بالمساهمة في تكوين جزء مهم من ثقافته الفنية، خصوصا ما يتصل منها بالغناء التراثي والفلكلور الشعبي، حتى قيل إن عبده وكدرس من الثنائيات الصديقة الأكثر شهرة في الوسط الفني السعودي.

الوفاء لأستاذه كدرس

وهنا لا بد من التأكيد على أن عبده ظل وفيا لأستاذه كدرس. ومن صور وفائه وقفته معه في رحلة مرضه، وبقاؤه بجانب سريره داعيا ومواسيا، علما بأن كدرس أصيب بجلطة في الدماغ ثم أصيب بسرطان المعدة، وصارعهما لمدة أربعة أشهر قبل أن يتوفى بجدة سنة 2002. وفي المقابل ظل كدرس لصيقا بتلميذه يؤازره حتى في ساعات عجزه ومرضه بدليل أنه استأذن من أطبائه كي يخرج من مشفاه لسويعات قليلة كي يقود الفرقة الموسيقية المصاحبة لعبده في مهرجان جدة عام 2002.

وحول هذه الواقعة كتب المؤرخ الغنائي الأردني زياد عساف في صحيفة الرأي الأردنية (23 /‏5 /‏2017) قائلا، ما مفاده: إن عبده قدم كدرس للجمهور آنذاك بكلمات مؤثرة قائلا: «أعلن لكم هذه المفاجأة.. رفيق دربي عمر كَدَرس سيقود الفرقة الموسيقية في الأغنية القادمة.. أدعو له بالشفاء»، وبعد عناق مؤثر بينهما بدأ يقود الفرقة الموسيقية وهو في وضعية الجلوس وفنان العرب يستعيد بصوته واحدة من أجمل الأعمال التي غناها من ألحان كدرس أغنية «ما لي غنى عنك» من كلمات (عبدالعزيز النجيمي)، لتعبر عن هذا الموقف الإنساني الذي تعكسه كلمات الأغنية ومنها: «إلا الشديد القوي ما يردني عنك.. أما أنا بخاطري أكون قريب منك.. تجيني ولا أجيك.. أنا عندي ما تفرق.. المهم نلتقي وفي حبنا نصدق»، وفي نهاية الأغنية ومع تصفيق الجمهور وقف كدرس ليودع حبيبه ورفيقه وغادر المسرح بعدها للعودة إلى المستشفى لمتابعة العلاج لتكون تلك من اللحظات الأخيرة في حياته.

التلحين منفرداً

من ضمن التطورات الأخرى التي حفلت بها حياة عبده في الستينات قراره بالتلحين لنفسه، فلحن لنفسه ابتداءً بأغنية «خلاص ضاعت أمانينا» على العود والإيقاع دون توزيع موسيقي. وقد شجعه نجاحها على خوض التلحين الذاتي أكثر وأكثر، حيث لحن لنفسه عام 1967 أغنية «الرمش الطويل» من كلمات «الغريب»، التي لقيت نجاحا كبيرا تجاوز حدود السعودية، وأتبعها في العام نفسه بأغنية ناجحة أخرى هي «لنا الله» من كلمات إبراهيم خفاجي وألحان طارق عبدالحكيم، وما بين الأغنتين قدم من ألحانه وكلمات خفاجي أغنيتي «ما في داعي»، و«مثل صبيا».

وفي الستينات ظهر مسرح التلفزيون بُعيد بدء السعودية بث إرسال تلفزيونها الحكومي سنة 1965، وقد ساهم هذا المسرح في ظهور وانتشار العديد من الوجوه الطربية الجديدة، أما بالنسبة للمطربين المعروفين فقد كان مسرح التلفزيون مكانا مناسبا لإطلاق إبداعاتهم الجديدة وتعريف الجمهور بها. وهذا ما فعله عبده بذكاء آنذاك. فمن خلال هذا المسرح أطلق في عام 1967 أغنية ناجحة هي «هلا يابو شعر ثاير» من ألحانه وكلمات الأمير عبدالله الفيصل.

فلتاته مع عبدالحكيم وخفاجي

في المرحلة التالية من مسيرته واصل انطلاقته الفنية الصاروخية، وتعاون مجددا مع طارق عبدالحكيم وإبراهيم خفاجي، فكان ميلاد تحفة غنائية جديدة تمثلت في أغنية «لا تناظرني بعين» التي كتب عنها الناقد الفني علي فقندش في «عكاظ» (20 /‏4 /‏2006) قائلا: «حاول الثلاثي تقديم وجبة ثالثة تشبع نهم الجمهور الذي كان يطالبهم بالجديد، فخرجت يومها أغنية (لا تناظرني بعين) التي صاحب طرحها صخب وإعجاب جماهيري كبير لما حواه النص من مفردات شعبية كان الشارع يرددها بسهولة مثل (ماني صاحب صنعتين) و(زودوها حبتين) وغيرها». ويبدو أن الصخب الذي لازم الأغنية كان مصدره البعض ممن يستنكرون استخدام الكلمات الشعبية الدارجة في الطرب أو أولئك الذي لم يستسيغوا الاعتماد على كورال من الأصوات الطفولية. في هذا السياق يعتقد الكاتب محمد الخضري في عمود له بجريدة الجزيرة السعودية (5 /‏5 /‏2011) بأن ما فعله عبده في هذه الأغنية كان مقصودا أو فلتة من فلتاته، شبيهة بالجملة التي ذكرها في بداية مسيرته للصحافي جلال أبوزيد، وهي «أنا فلتة»، وهما الكلمتان اللتان فجرتا ضده موجة من السخرية والحديث عن غروره وتعاليه، قبل أن يثبت الرجل للجميع أنه حقا فلتة فنية، وأن «لا تناظرني بعين» فتح جديد في مفهوم الأغنية الطربية.

الانتشار العربيفي

في عقد السبعينات حقق عبده نجاحات إضافية وانتشارا أوسع من خلال حفلاته في مصر ومصايف لبنان ودول الجوار الخليجي، ولاسيما الكويت التي كانت وقتها تعيش أوج مجدها الفني. عشقته الجماهير الكويتية بجنون، واحتضنه فنانوها بألحانهم الجميلة، فكان ميلاد أغنية «ماكو فكة» (كلمات سلطان عبدالله وألحان يوسف المهنا) عام 1972، وهي أغنية خفيفة نجحت لكنها لم تعمر طويلا، تلتها في عام 1976 الأغنية التي هزت الدنيا وكسرت الأرقام القياسية وصارت مطلبا في كل الحفلات ولاسيما حفلات القاهرة، وهي أغنية «أبعاد» (كلمات فايق عبدالجليل وألحان يوسف المهنا). ومن دلائل نجاحها الأسطوري أنها أديت بكلمات فارسية وهندية وتركية مع الاحتفاظ باللحن ذاته، ولهذا وصفها البعض بأول أغنية سعودية عالمية، ووصف البعض الآخر عبده بـ«فنان الجزيرة العربية». وقد تعاون عبده مع هذا الثنائي الكويتي لاحقا في أغنية «في الجو غيم». وفي هذه المرحلة أيضا راح عبده يطرق أبواب ألوان غنائية أخرى غير اللون الحجازي مثل اللون النجدي والخليجي واليماني، كما راح يغني السامري والشعر النبطي وينوع في الإيقاعات ويتعاون مع شعراء وملحنين سعوديين جدد. وفي منتصف السبعينات خاض تجربة الأغنية الطويلة من على مسارح القاهرة من خلال أغنية «الرسايل» (من ألحانه وكلمات بدر بن عبدالمحسن)، التي حققت نجاحا منقطع النظير، وكانت دافعا له لتقديم أغنية أخرى من النوع نفسه هي أغنية «خطأ» (من ألحانه وكلمات الأميرين خالد الفيصل وبدر بن عبدالمحسن). وقبل انتهاء السبعينات قدم أغنيتي «إنت محبوبي» و«ما لي ومال الناس» (كلاهما من كلمات إبراهيم خفاجي وألحان سامي إحسان) اللتين انتشرتا بصورة مذهلة.

شهد عقد الثمانينات من مسيرته مشاركته لأول مرة في مهرجان غنائي بتونس، حيث أطلق عليه الرئيس التونسي الأسبق الحبيب بورقيبة (توفي 2000) لقب «فنان العرب»، ومنحه وسام الثقافة من الدرجة الثانية ليضيف عبده الوسام إلى ميدالية الاستحقاق من الدرجة الثانية التي نالها من الملك الراحل فهد بن عبدالعزيز. كما أحيا صيف 1988 حفلا ناجحا في جنيف خلال الكرنفال السنوي للمدينة غنى فيها أغنيات: «وهم»، و«العقد»، و«إنت معاي». وخلال هذه المرحلة تعاون مع الملحن عبدالرب إدريس في إطلاق أغنيات رائعة جديدة مثل: «محتاج لها» (كلمات بدر بورسلي)، «جيتك حبيبي» (كلمات يوسف ناصر)، «أبعتذر» (كلمات بدر بن عبدالمحسن)، «كلك نظر» (كلمات بدر بورسلي). ويقال إنه بدلا من أن يتأثر عبده بالملحن حدث العكس، بمعنى أن إدريس هو من تأثر بأسلوب عبده. كما قدم في هذه الفترة الأغنية التي أقامت الدنيا ولم تقعدها بسبب فرادتها وجمال كلماتها ولحنها وهي أغنية «ليلة خميس» (كلمات خالد بن يزيد وألحان كدرس)، التي غدت أيقونة الأفراح والليالي الملاح، علاوة على أغنية «المعازيم» (ألحان عدنان خوج وكلمات فائق عبدالجليل)، وأغنية «من بادي الوقت» (من ألحانه وكلمات خالد الفيصل).

حزن السنوات الثماني والعودة الصاروخية

في عام 1989 حدث ما جعله ينقطع عن الغناء لمدة 8 سنوات متواصلة. لم يكن ذلك اعتزالا بالمعنى الحقيقي، وإنما حزنا على فقدانه لوالدته، التي تولت رعايته بمفردها بعد وفاة والده، وأيضا لتقييم ماضيه الفني والاستعداد لمستقبل أفضل. لكن ذلك لم يمنعه من المشاركة في مهرجانات الجنادرية وتقديم أوبريتات وطنية مثل: «أرض الرسالات» و«أنشودة العروبة» من كلمات غازي القصيبي، «عرايس المملكة» من كلمات إبراهيم خفاجي، و«فارس التوحيد» من كلمات بدر بن عبدالمحسن، حتى قيل إنه أكثر الفنانين السعوديين أداء للأغنية الوطنية، ومنها أغنيات: الله أحد، فوق هام السحب، رسالة، يالسعودي يالبطل، أجل نحن الحجاز ونحن نجد، أوقد النار، حدثينا، وغيرها. وحينما عاد إلى الساحة مع نهايات التسعينات ليواصل مشواره كانت الأذواق قد تغيرت ومعها الجمهور ووسائل الانتشار، لكنه استطاع بذكائه أن يتكيف مع الأوضاع الجديدة ويستغلها لصالحه. فقدم أولاً أنشودة المطر (من ألحانه وكلمات بدر شاكر السياب)، ثم قدم ما بين عامي 1990 و2000 أغاني: «المعاناة» (من ألحانه وكلمات خالد الفيصل)، «الفجر البعيد» (ألحان عبدالرب إدريس وكلمات بدر بن عبدالمحسن)، «على البال» (من ألحانه وكلمات أسير الشوق)، «كلما نسنس» (من ألحانه وكلمات خالد الفيصل). وما بين عامي 2000 و2010 أضاف إلى إبداعاته السابقة أغاني من أجملها: «شبيه الريح» (من ألحانه وكلمات الأمير عبدالرحمن بن مساعد، الذي سبق أن كتب له أغنيتي «البرواز» و«مساء الخير» (وكلتاهما من ألحان صادق الشاعر)، «بنت النور» و«أعترفلك» (كلتاهما من ألحان ناصر الصالح وكلمات الأمير فيصل بن تركي)، «مذهلة» (ألحان ناصر الصالح وكلمات عبدالرحمن بن مساعد)، «الأماكن» (ألحان ناصر الصالح وكلمات منصور الشادي). وفي العقد الثاني من الألفية الثالثة واصل عبده مشواره بصلابة وتوهج أقوى من خلال مجموعة جديدة من الأغاني استأثر بنصيب الأسد منها لجهة التلحين الملحن طلال، ومنها: بعلن عليها الحب، عالي السكوت، خريف، رماد المصابيح، عمري نهر، خجل، القرار، تأخرنا، قالت لي سم، لكل شيء أول. ونختتم بما كتبته صحيفة الرياض (13 /‏5 /‏2011) عنه (بتصرف): «إن تجربة عبده الطويلة تحفل بالتنوع والمغامرات الغنائية لحنا وكلمة ولونا، لكن هذا التنوع لم يكن فيه انحياز للون على آخر، بل قاده ذكاؤه الفني إلى مواصلة أطياف من الألوان. فهو يغني الأغنية ذات النكهة التراثية والأغنية المكبهلة والقصيدة الشعبية والأغنية ذات الجذور اليمانية والقصيدة الفصحى. إن هذا التنويع الذي جاء في حالة تناغم وتوازن منحت تجربة عبده الفنية أبعادا مختلفة أوصلته إلى شرائح متباينة من الجماهير محليا وعربيا، مع ملاحظة أن عبده كان يغني تلك الألوان بإتقان تام، الأمر الذي يجعلنا نقول بأنه لم يكن يغني من أجل المغايرة أو استجلاب جمهور إضافي. إنما قاده إلى تلك الألوان شغفه فحسب».