كتاب ومقالات

مختار كندا !

محمد مفتي

في منتصف سبعينات القرن الماضي ظهرت للنور إحدى أشهر المسرحيات السورية الهادفة، وهى مسرحية «غربة» لكاتبها الشهير محمد الماغوط، وقد سعى المؤلف خلالها إلى رصد طبيعة التحولات في المشهد السياسي والاجتماعي العربي في تلك الآونة، راسماً ملامح هذا الواقع في إطار كوميدي ساخر، رشح المسرحية لأن تكون واحدة من أهم المسرحيات العربية التي تجسد واقع الأمة العربية ككل خلال القرن العشرين.

غير أن أهم أحداث المسرحية يصلح تطبيقها على أي سياق سياسي في كل زمان ومكان، وهى تتلخص في هروب الفنان نهاد قلعي من ضيعته (قريته) وتوجهه نحو ضيعة أخرى مختارها (عمدتها) دريد لحام، طالباً البقاء والاستقرار فيها، غير أن طلبه قوبل بالرفض، ولكن نهاد قلعي لم يستسلم وحاول بشتى الطرق المكوث في تلك الضيعة وعدم الرجوع لضيعته الأصلية، فسأل دريد لحام عن إمكانية وجود أي حل للبقاء في هذه الضيعة، فأخبره الأخير «مختارها» بأنه يمكنه البقاء فيها بشرط واحد فقط؛ وهو أن يكون لاجئاً سياسياً، فلما سأل عن كيفية أن يكون لاجئاً سياسياً، أجابوه: «يجب أن تشتم بلدك!»، فما كان من بطل المسرحية إلا المسارعة والجهر بشتم بلده بدون تردد، وهو ما أعقبه تهنئة مختار الضيعة له قائلاً: «.. الآن أصبحت لاجئاً سياسياً!».

لقد صيغت المسرحية في الأساس بهدف تقديم النقد للواقع السياسي وتعرية المصطلحات الزائفة وكشف هشاشة الشعارات الرنانة السائدة وقتذاك، غير أن المنظور الذي اقتبسناه هنا من المسرحية يتخطى سياق السبعينات وما بعدها، فهو موقف رمزي يعكس الطبيعة الانتهازية للنخب السياسية للكثير من الدول التي تتشدق باحترام الحريات والحفاظ على حقوق الإنسان، والتي تفتح أبوابها على اتساعها -كما تدعي- لكل الخارجين على الشرعية على وجه الأرض، لتمنحهم لجوءها السياسي وأمنها الاقتصادي واستقرارها الاجتماعي.

لو عدنا بالذاكرة قليلاً لنتذكر عدداً من الأحداث التي مرت بنا خلال السنوات القليلة الماضية، وتم خلالها هروب عدد من المواطنين من بلدانهم الأم للحصول على لجوء سياسي لإحدى الدول التي تزعم أنها تنتمي للعالم الحر، الذي يضع حقوق الإنسان في مقدمة أولوياته ومنهم «كندا»، نجد أن تلك الدول تحتفي بصورة غير مفهومة بهؤلاء اللاجئين، وتقوم باستقبالهم كما لو كانت تستقبل أبطالاً مظفرين عادوا لتوهم منتصرين من حرب وطنية ضروس شعواء.

للأسف يقع البعض أسيراً لتلك الدعاية البراقة التي تقوم بها تلك الدول، والتي لديها الكثير من الأسباب للاحتفاء على هذا النحو الممجوج بطالبي اللجوء السياسي، والذين من المؤكد أنهم يدركون –أو لا يدركون- إلى متى يتم استخدامهم كمجرد أدوات ووسائل لتحقيق أهداف بعينها تبغيها تلك الدول، لعل أولها وأهمها بطبيعة الحال الابتزاز، فوجود حالات لطالبي اللجوء السياسي يسهل أمام تلك الدول القيام بابتزاز دول أخرى تحت مسمى حماية حقوق الإنسان، أو التدخل في شؤونها الداخلية والانتقاص من سيادتها بدعوى عدم دعمها للحريات الفردية.

ربما لا يدرك طالب اللجوء السياسي أنه هدف سائغ لبعض الدول ودمية يسهل تحريكها وتوجيهها لتحقيق أهداف أخرى بعيدة تماماً عن مجرد منحه حقوقاً مزعومة أو إعطائه حرية زائفة يستميت للحصول عليها، فبعض الدول التي تزعم أنها راعية السلم ورائدة في مجال حقوق الإنسان تعاني هي نفسها في كثير من الأحيان من حالات قمع الحريات واضطهاد المواطنين، فكيف تحمي حقوق مواطني الدول الغريبة ولا تحمي هي نفسها مواطنيها؟ ولكنها لعبة خفية وخطيرة ظاهرها الرحمة وباطنها العذاب.

أن تشتم بلدك لتصبح لاجئاً سياسياً صالحاً هو شعار الدول التي ترفع راية حماية حقوق الإنسان، ولكي تتمتع بمزايا اللجوء المذلة -كأن تعيش على معونة البطالة أو تتحصل على بدل معيشة بسيط- لابد وأن تسيء لبلدك بقدر ما تستطيع، وكلما أمعنت في التجني والإساءة والتشهير بوطنك كلما زادت فرصتك في البقاء مهاناً في دولة تتلاعب بك وبأوهامك، فكم من شعار زائف وادعاء كاذب أسال لعاب الحمقى من السذج والمغرر بهم، والذين يتحينون الفرصة -عن وعي أو عن غير وعي- ليخونوا بلادهم ويصبحوا شوكة دامية مغروزة في ظهره، يتم استخدامها لإدانته مرة والضغط عليه مرات، وقد آن الأوان لفضح تلك الشعارات الجوفاء والدعاوى الزائفة، وإطلاق المسميات الصحيحة سواء على هذا النوع من المواطنين أو على الدول المستغلة المضيفة لهم.