ابني سبّاك .. ابنتي كهربائية
الجمعة / 16 / محرم / 1442 هـ الجمعة 04 سبتمبر 2020 02:34
علي بن محمد الرباعي
يحكى من باب الطرفة والتندر أن زمن الطفرة المالية في التسعينات أغرى بعض المترفين باستقدام عمالة مخصصة لأداء حصة المشي نيابة عنهم، وربما استقدم آخرون من مُحدثي النعمة عُمالا لتقديم خدمات لوجستية بما فيها كتابة مقالات صحفية وتأليف كتب ووضع اسم الكفيل المُسْتَقدِم عليها.
سبقت هذه الطفرة المباغتة وغير المتدرجة، أزمنة كان المواطن السعودي سيّد موقفه في كل شأن من شؤون حياته، والمرأة صنو الرجل في ذلك، إذ ليس هناك عجز عن أداء المهام الجسام ولو نسبياً فالحاجة أم الاختراع، ولا صعب ولا مستحيل أمام إرادة الحياة.
تحنُّ أجيال من الرعيل الخمسيني لتلك الأيام التي كانت فيها صحة إنسان القرية جيدة بحكم النشاط البدني الإجباري، كون المعيشة اليومية تقوم على رب الأسرة وزوجته وأولاده بمن فيهم الأطفال، وما زلتُ أذكر بإكبار دور ابن قريتنا الراحل محمد عبدالله الفقيه -رحمه الله- في تمديد أسلاك الكهرباء في منازلنا الشعبية عام ١٣٩٥ هجرية بجهود ذاتية.
اندفعنا مع الطفرة للاستقدام غير المقنن فزاد عدد الوافدين دون انتباه لما يترتب على ذلك من خلل في التركيبة السكانية وخطر على الهوية وإضعاف لغتنا العربية باللغات الوافدة التي غدونا نردد مصطلحاتها بشيء من الإعجاب والتباهي، ولربما كان استقدام البعض عبثيا أو محاباة لبعض الوافدين العاملين لديه أو أسرهم، أو استرزاقا بالفيز، والبعض تجاوز حاجته من العمالة المنزلية الثابتة والمتحولة وعمالة المؤسسات الحقيقية والوهمية.
لسنا حسادا لأي جنسية شاركتنا ولا تزال تشاركنا في مكاسب مراحل تحولاتنا التنموية ونقول لهم (عليكم بالعافية) وأهلنا كانوا يرددون (اللهم أعطنا واعط منا). ولسنا بصدد العتب لبعضنا واللوم والتقريع، فالخطط والبرامج المستقبلية تحتاج مجموعات عمل وطنية مؤهلة ومبدعة، والشباب السعودي المُعد إعداداً جيداً أثبت جدارته وسيثبتها أكثر كلما منحناه الثقة.
ليس ببعيد عنا الزمن النابض حياةً بسواعد سعودية تبنت ثقافة الإنتاج وأبدعت في الزراعة والرعي والتجارة والاحتطاب والنقل والبناء والنجارة والذبح والسلخ وبيع كل المستلزمات الضرورية والتحسينية والحلاقة والختان وحتى الخدمة في المنازل، إما وفق آلية تبادل المنافع أو بأجرة، وكان القرويون والقرويات يخدمون بعضا في المزارع والبيوت بكل تباهٍ ورفعة رأس.
واشتهرت في القرى ظاهرة الإرضاع بحكم أن النساء ينطلقن للعمل بعد ولادتهن بأيام وتوكل أمر إرضاع صغيرها لأقرب جاراتها، ولذا تجد لأحدنا أمهات عدة ممن كان لهن الفضل في حضانته لساعات يومية أحيانا تغدو نهاراً.
جيلي ومن سبقه إبان الفترة الدراسية يعود من المدرسة وقبل تناول وجبة الغداء يؤدي واجباته العملية زراعة ورعياً وخدمة لبيته وبعض موظفي وأساتذة تلك المرحلة، يبدل ملابسه في السيارة كونه يحتفظ بثوب الشغل تحت المرتبة ولا يروح البيت ولا يتغدى بل يحوّل في مزرعته ويبدأ العمل حرثا وجنيا وغرسا وقطفا حتى المغرب ثم يتناول طعامه بعد المغرب ويصلي العشاء وينام لينطلق بمحصوله للسوق بعد صلاة الفجر ثم يلتحق بالدوام.
حياة الإنتاج كرامة للنفس وبهجة للروح وتعزيز للقدرات وعفة لليد، كما أن أزمنة الإنتاج نادرة الجرائم بل لا تكاد تُذكر، خصوصا السرقات والتزوير والتهريب وتلويث الأطعمة والأشربة، كما أن المودة بين أفراد المجتمع قائمة، والنفوس مرتاحة، بحكم تفريغ الطاقات السلبية أولاً بأول بتعفية الأرض أو نقل الحجارة أو مطاردة الأغنام، وكل إنسان منهم يباتُ مستشعراً راحة البال والضمير، وكما في الأثر (مَنْ بات كالاً من عمل يده بات مغفوراً له).
من أخطاء الماضي إهمالنا للمهن والحرف، وترويج مصطلح (العيب) والاستعابة من موروث الأسلاف، وإيكال البعض مهنة أهله لوافد إمّا (متقن) فيثري منها وهذا نادر أو (غشيم) يتعلّم فينا، وبعض الصنايعية دخلوا حالة من النرجسية فيغضب لو نسبته لمهنته وحرفته التي مارسها قبله آباء فضلاء وأجداد كرام، واستعاض بالاقتراض من البنوك التمويلية الصناعية وسلّم الخيط والمخيط للعمالة وكبّر المخدة مكتفياً بوضع اسمه على اللوحة مسبوقاً أحياناً بلقب شيخ!
ربما أمّنت مواردنا القائمة على الريع النفطي في ما مضى حياة رخاء، لكنها جلبت معها متاعب جمة على مستوى صحتنا وثقافتنا وتركيبتنا المجتمعية وأخلاقنا، ناهيكم عن تأثير الوافدين على اقتصادنا بالمبالغ التي تحول للخارج في عقود مضت بما يوازي ميزانيات مليارية، ولعلنا استفدنا من الدروس وسلّمنا بمقولة (لا يبني الديار إلا أهلها).
آن أوان اعتمادنا على أنفسنا وتأسيس ثقافة العمل وإعلاء شأن المهن وتكريم الحرفيين ماديا ومعنويا وطرح مئات المهن ضمن المهن الممولة، وتصنيفها ضمن الوظائف برواتب مجزية بل ومغرية، ولن أتذمر شخصياً من توجه ابني للدراسة التقنية واختيار مهنة السباكة مثلاً، أو تخصص ابنتي في الكهرباء، وكذلك الأحفاد والحفيدات. ولا أغفل ما نحن بصدده من إنتاج معرفي ومهاري تضطلع به مدارسنا وجامعاتنا وكلياتنا التقنية.
معظم أو كل شعوب العالم يعتمدون على أنفسهم في كل ما يتصل باحتياجاتهم وكمالياتهم عدا الضرورات التي لا غنى عن استقدام المختصين بها، ونحن لو اعتنينا بذواتنا وتبنينا مع دولتنا سياسة تمكين المواطنين فلربما خلال عقد واحد نعود لمجتمع إنتاج وتتقلص أعداد العمالة الوافدة. حينها لن نخشى خيانة ولا نخاف غدراً ولا نتوجس من عبث ولا نُصاب بتسمم ولا نتعرض لأخطاء فادحة كون أبناء وبنات الوطن سيعملون بقلوبهم وعقولهم وأيديهم ومشاعرهم بمحبة وانتماء، وهذا ما سيوسع الفارق بين الشرب باليمين، والشرب من أيدي الآخرين.
كاتب سعودي
Al_ARobai@
سبقت هذه الطفرة المباغتة وغير المتدرجة، أزمنة كان المواطن السعودي سيّد موقفه في كل شأن من شؤون حياته، والمرأة صنو الرجل في ذلك، إذ ليس هناك عجز عن أداء المهام الجسام ولو نسبياً فالحاجة أم الاختراع، ولا صعب ولا مستحيل أمام إرادة الحياة.
تحنُّ أجيال من الرعيل الخمسيني لتلك الأيام التي كانت فيها صحة إنسان القرية جيدة بحكم النشاط البدني الإجباري، كون المعيشة اليومية تقوم على رب الأسرة وزوجته وأولاده بمن فيهم الأطفال، وما زلتُ أذكر بإكبار دور ابن قريتنا الراحل محمد عبدالله الفقيه -رحمه الله- في تمديد أسلاك الكهرباء في منازلنا الشعبية عام ١٣٩٥ هجرية بجهود ذاتية.
اندفعنا مع الطفرة للاستقدام غير المقنن فزاد عدد الوافدين دون انتباه لما يترتب على ذلك من خلل في التركيبة السكانية وخطر على الهوية وإضعاف لغتنا العربية باللغات الوافدة التي غدونا نردد مصطلحاتها بشيء من الإعجاب والتباهي، ولربما كان استقدام البعض عبثيا أو محاباة لبعض الوافدين العاملين لديه أو أسرهم، أو استرزاقا بالفيز، والبعض تجاوز حاجته من العمالة المنزلية الثابتة والمتحولة وعمالة المؤسسات الحقيقية والوهمية.
لسنا حسادا لأي جنسية شاركتنا ولا تزال تشاركنا في مكاسب مراحل تحولاتنا التنموية ونقول لهم (عليكم بالعافية) وأهلنا كانوا يرددون (اللهم أعطنا واعط منا). ولسنا بصدد العتب لبعضنا واللوم والتقريع، فالخطط والبرامج المستقبلية تحتاج مجموعات عمل وطنية مؤهلة ومبدعة، والشباب السعودي المُعد إعداداً جيداً أثبت جدارته وسيثبتها أكثر كلما منحناه الثقة.
ليس ببعيد عنا الزمن النابض حياةً بسواعد سعودية تبنت ثقافة الإنتاج وأبدعت في الزراعة والرعي والتجارة والاحتطاب والنقل والبناء والنجارة والذبح والسلخ وبيع كل المستلزمات الضرورية والتحسينية والحلاقة والختان وحتى الخدمة في المنازل، إما وفق آلية تبادل المنافع أو بأجرة، وكان القرويون والقرويات يخدمون بعضا في المزارع والبيوت بكل تباهٍ ورفعة رأس.
واشتهرت في القرى ظاهرة الإرضاع بحكم أن النساء ينطلقن للعمل بعد ولادتهن بأيام وتوكل أمر إرضاع صغيرها لأقرب جاراتها، ولذا تجد لأحدنا أمهات عدة ممن كان لهن الفضل في حضانته لساعات يومية أحيانا تغدو نهاراً.
جيلي ومن سبقه إبان الفترة الدراسية يعود من المدرسة وقبل تناول وجبة الغداء يؤدي واجباته العملية زراعة ورعياً وخدمة لبيته وبعض موظفي وأساتذة تلك المرحلة، يبدل ملابسه في السيارة كونه يحتفظ بثوب الشغل تحت المرتبة ولا يروح البيت ولا يتغدى بل يحوّل في مزرعته ويبدأ العمل حرثا وجنيا وغرسا وقطفا حتى المغرب ثم يتناول طعامه بعد المغرب ويصلي العشاء وينام لينطلق بمحصوله للسوق بعد صلاة الفجر ثم يلتحق بالدوام.
حياة الإنتاج كرامة للنفس وبهجة للروح وتعزيز للقدرات وعفة لليد، كما أن أزمنة الإنتاج نادرة الجرائم بل لا تكاد تُذكر، خصوصا السرقات والتزوير والتهريب وتلويث الأطعمة والأشربة، كما أن المودة بين أفراد المجتمع قائمة، والنفوس مرتاحة، بحكم تفريغ الطاقات السلبية أولاً بأول بتعفية الأرض أو نقل الحجارة أو مطاردة الأغنام، وكل إنسان منهم يباتُ مستشعراً راحة البال والضمير، وكما في الأثر (مَنْ بات كالاً من عمل يده بات مغفوراً له).
من أخطاء الماضي إهمالنا للمهن والحرف، وترويج مصطلح (العيب) والاستعابة من موروث الأسلاف، وإيكال البعض مهنة أهله لوافد إمّا (متقن) فيثري منها وهذا نادر أو (غشيم) يتعلّم فينا، وبعض الصنايعية دخلوا حالة من النرجسية فيغضب لو نسبته لمهنته وحرفته التي مارسها قبله آباء فضلاء وأجداد كرام، واستعاض بالاقتراض من البنوك التمويلية الصناعية وسلّم الخيط والمخيط للعمالة وكبّر المخدة مكتفياً بوضع اسمه على اللوحة مسبوقاً أحياناً بلقب شيخ!
ربما أمّنت مواردنا القائمة على الريع النفطي في ما مضى حياة رخاء، لكنها جلبت معها متاعب جمة على مستوى صحتنا وثقافتنا وتركيبتنا المجتمعية وأخلاقنا، ناهيكم عن تأثير الوافدين على اقتصادنا بالمبالغ التي تحول للخارج في عقود مضت بما يوازي ميزانيات مليارية، ولعلنا استفدنا من الدروس وسلّمنا بمقولة (لا يبني الديار إلا أهلها).
آن أوان اعتمادنا على أنفسنا وتأسيس ثقافة العمل وإعلاء شأن المهن وتكريم الحرفيين ماديا ومعنويا وطرح مئات المهن ضمن المهن الممولة، وتصنيفها ضمن الوظائف برواتب مجزية بل ومغرية، ولن أتذمر شخصياً من توجه ابني للدراسة التقنية واختيار مهنة السباكة مثلاً، أو تخصص ابنتي في الكهرباء، وكذلك الأحفاد والحفيدات. ولا أغفل ما نحن بصدده من إنتاج معرفي ومهاري تضطلع به مدارسنا وجامعاتنا وكلياتنا التقنية.
معظم أو كل شعوب العالم يعتمدون على أنفسهم في كل ما يتصل باحتياجاتهم وكمالياتهم عدا الضرورات التي لا غنى عن استقدام المختصين بها، ونحن لو اعتنينا بذواتنا وتبنينا مع دولتنا سياسة تمكين المواطنين فلربما خلال عقد واحد نعود لمجتمع إنتاج وتتقلص أعداد العمالة الوافدة. حينها لن نخشى خيانة ولا نخاف غدراً ولا نتوجس من عبث ولا نُصاب بتسمم ولا نتعرض لأخطاء فادحة كون أبناء وبنات الوطن سيعملون بقلوبهم وعقولهم وأيديهم ومشاعرهم بمحبة وانتماء، وهذا ما سيوسع الفارق بين الشرب باليمين، والشرب من أيدي الآخرين.
كاتب سعودي
Al_ARobai@