البيضاني: ما قدمه المستشرقون يجب أن تعاد قراءته !
الجمعة / 23 / محرم / 1442 هـ الجمعة 11 سبتمبر 2020 04:37
حاوره/ علي فايع (أبها) alma3e@
تخصص في الهندسة، واعتنى باللغات قديمها وجديدها، له جهود كبيرة في نشرها والتعريف بها، إضافة إلى شغفه الكبير بالبحث عن أسرارها ومكنوناتها. تتضح غيرة الباحث نواف البيضاني على اللغة العربية في حواره مع «عكاظ»، إذ يؤكد أن ما قدمه المستشرقون يجب أن تعاد قراءته بوعي، على ضوء ما استجد من كشوفات علمية، فالمستشرقون يتفاوتون؛ منهم من يحركه التعصب الديني، فيزيغ عن النهج العلمي وقد يحرف، ويدلس، ومنهم من كان منصفاً محايداً.
البيضاني حذر من خطورة تسيّد ثقافة يقودها مشاهير شبكات التواصل الاجتماعي ممن برزوا في التجميل أو الأزياء أو الطبخ أو سواها؛ لأنهم يمثلون حالات خاصة أو استثنائية لا تحمل عمقاً ثقافياً.. وإلى نصّ الحوار:
• ما الذي يشغلك اليوم؟
•• أكثر ما يشغلني في الشأن الثقافي أن نرى تحولاً جذرياً في عمل مؤسساتنا الثقافية يجعلنا نلمس دورها في تغيير إيجابي نراه في الأجيال الناشئة، وهذا لا يتأتى دون تكاملها مع المؤسسات التعليمية والأسرة، يشغلني كثيراً نشر ثقافة القراءة وأهميتها وزيادة الوعي المجتمعي بها؛ وأتشوق إلى تلك الأيام التي نرى فيها ظاهرة القراءة في كل مكان؛ تشغل أوقات الانتظار وتشاهد في وسائل النقل العام، خاصة أن هنالك شبكة قادمة من قطارات الأنفاق، والقطارات والحافلات حيث تسهل القراءة، يشغلني تغيير الصورة النمطية السلبية عن المثقف، يشغلني كثيراً انتظار مشاريع بقدر مسؤوليتنا ومكانتنا: مجمع لغوي في مهد الفصحى حيث يجب أن يكون، معجم العربية الرقمي الموسوعي، موسوعة حرة عربية بحتة، مشروع ترجمة جبار من العربية وإلى العربية يوصل الصورة الإيجابية التي نريدها وينقل لنا الثقافة والعلوم التي نرتقي بها، معجم تاريخي للعربية يكمل ثغرات معجم الدوحة الكثيرة، مراكز بحوث لغوية، مراكز بحوث نقدية، مراكز بحوث أنسنية (علم الأنسنة) تهتم بحضاراتنا ولغتنا وآثارنا وتسوق لها بشكل مدروس وذكي، مشاريع توثق الموروث الشعبي وتدرسه.. الهموم كثيرة ومتشعبة ومثقلة بالشجن ولكن هذا عفو الخاطر.
• تجيد العديد من اللغات القديمة والحديثة، فكيف بدأ اهتمامك باللغات؟
•• بدأت مذ كنت في المرحلة الابتدائية، حين كنت أدمن مشاهدة برامج القناة السعودية الثانية، من الرسوم المتحركة إلى الوثائقيات، وكنت أكره أن أتابع البرامج التي لا تحوي ترجمة مرئية، ويزعجني كثيراً ألا أفهم ما أسمعه! فكانت البداية حينما علمني أخواي الكبيران مبادئ القراءة الإنجليزية، ثم بدأت بكتيب ما زلت أحتفظ بعنوانه «الترجمان الصحيح»، وتعلمت اللغة سريعا، وأدمنت مطالعة المعاجم، وأفادني كثيراً شغفي القرائي وفضولي المعرفي، وكانت الإنجليزية بوابة أتاحت لي تعلم لغات أخرى، بحكم توفر المصادر فيها لمن أراد تعلم أية لغة كانت حية أم ميتة. وهذا يقودني إلى ذكر حالة النقص الكبير في مكتباتنا في ما يخص مصادر تعلم اللغات الأخرى بالعربية، فغالب المتاح تجاري بحت، ويفتقر إلى العمق والفاعلية، والحداثة.
• ما قيمة العلوم الإنسانية في عالمنا اليوم؟
•• أعتقد أن أهميتها أكبر من أن يُتساءل عنها، سواء من الناحية السياسية، أو الثقافية، أو الاقتصادية، أو الدينية حتى!. فالعلوم الإنسانية كانت ولا تزال الشغل الشاغل للدول المتقدمة، فهي تسوق لثقافة معينة، وتنشر سلعة معينة، وتبشر بقيم معينة، وتنشر عقيدة معيّنة، وتُبنى إستراتيجيات دول ومنظمات عالمية بناء على دراساتها وتوصيات خبرائها. هذه العلوم لو كانت لها مراكز بحوث عندنا لكانت شركاتنا ومؤسساتنا في غنى عن دراسة غربية لا تمت لواقعنا المجتمعي والثقافي بصلة كبيرة، ولأُتيح للمخطط والمسوق والمسؤول دراسات محلية رصينة، يمكن أن يفيد منها بصور شتى.
• لماذا تتحفظ على ما قدمه لنا المستشرقون من كتب؟
•• ليست تحفظات بالمعنى البسيط للتحفظ، ولكن وجهة نظري أن ما قدمه المستشرقون يجب أن تعاد قراءته بوعي، وعلى ضوء ما استجد من كشوفات علمية، فالمستشرقون يتفاوتون؛ منهم من يحركه التعصب الديني، فيزيغ عن النهج العلمي وقد يحرف، ويدلس، وقد يدس السم في العسل، وهؤلاء يصنفون إلى صنفين؛ صنف متعصب جداً ومغمور، فهؤلاء لا حاجة إلى الاهتمام بهم أصلاً ولا لبعثهم من مرقدهم، وصنف متعصب وذكي، ولطرحه وجاهة عند الآخر وأحياناً عند بني جلدتنا، وهؤلاء يجب أن يدرسوا جيداً وأن يرد عليهم بإنصاف وبمنهج علمي يحترمه الجميع رغم تعصبهم، لكي لا نتهم بالتعصب مثلهم. ومنهم من كان منصفاً محايداً، ومثل هؤلاء من الإنصاف أن نشكر لهم صنيعهم، وأن نستغله لخلق صورة إيجابية وروابط ثقافية مع الآخر، خاصة أن هذا الصنف المنصف، لا نجد لآثارهم في الآلة الإعلامية الغربية إلا بصيصاً لا يذكر، فمن واجبنا أن نعيد بعثه هنالك بكل الطرق الممكنة، وهذا التحفظ الذي أزعم أنه عند كثيرين غيري، يولّد هاجساً ملحًاً بضرورة ترجمة النصوص القديمة في اللغات الميتة التي تتعلق بنا، ترجمة جديدة ومباشرة عن الأصل وعلى ضوء آخر المستجدات اللغوية وأن يترجمه المتخصصون من بني جلدتنا، وأن تكون لنا مراكز بحثية ومجلات محكمة تقيم هذه الترجمات والنصوص وتدرسها بتعمّق، وتخرج لنا بمادة علمية وثقافية وتاريخية نافعة؛ نفهم بها حضاراتنا دون وسيط، ونصحح بعض الأغاليط المنتشرة عنا، وأزعم أننا أقدر على فهم أسلافنا من غيرنا. وأزعم أن ثمة تفسيرات وتأويلات واستنتاجات غربية لنصوص موغلة في القدم في بلادنا العربية مغلوطة وغير موفقة وأحيانا عن تعمّد، وسنكتشف أن هنالك تفسيرات وتأويلات محلية تبزها موضوعيةً ومنطقاً، وترجح كفتها على تلك الغربية، والسبب هو العلاقة التاريخية والمحلية والامتداد الثقافي الذي بقي له حتى في موروثنا الشعبي وعقلنا الجمعي بقايا يمكن أن تسهم في فهم أدق وتفسيرات راجحة وهذا الأمر يلحظه المتأمل والمتدبّر في تلك النصوص.
• لماذا يتحسس العديد من رواد شبكات التواصل الاجتماعي من الثقافة الحجازية؟
•• لما ظهرت موجة منصات التواصل الاجتماعي، سنحت فرصة لا يمكن ألا تستغل من قبل من لم تتح لهم فرصة لنشر طرحهم وثقافتهم. والظاهرة في حد ذاتها إيجابية ومثرية، ونشرت كثيراً من الطرح الجميل، وساهمت في مزيد وعي بالثقافات المحلية الفرعية، التي غالباً ما كانت تهمش من قبل القنوات الإعلامية والثقافية لسبب أو لآخر وغالباً أسباب غير منطقية. لكن المحزن أن هنالك من المتعصبين من كلا الطرفين من استغل هذا لنشر سمومه، ولبث الفرقة، ولممارسة التنمر الثقافي والعنصري في أبشع صوره. ولكن مؤخراً ظهرت قوانين وتنظيمات تنظم النشر الرقمي بأنواعه، وتحارب التعصب والتنمر، والجرائم الرقمية، ما يجعلنا نتفاءل بأن هذا الطرح المسيء مصيره الزوال، والقارئ المميز يبحث عن الطرح الموضوعي والمعلومة المفيدة، ولا يتوقف كثيراً عند الطرح المتعصب والمتشنّج.
• ما القيمة التي يمكن أن يضيفها مجمع للغة العربية في السعودية؟
•• بل ما القيم التي سيضيفها!. المجمع سيكون رد اعتبار لمهد العربية الفصحى الذي حرم من أخذ دوره الطبيعي ليكون مركزاً للغة والاهتمام بها، وتنسيق التعريب. وسيكسب مكانة إسلامية كبيرة بحكم قداسة المكان، وارتباط الفصحى تاريخيّا به، وبحكم مكانة المملكة العربية السعودية، وسيكون للمجمع دور في توحيد الجهود المشتتة، التي -شخصياّ- أرى أن المجامع الموجودة ومكتب تنسيق التعريب لم توفق في جمعها، بل ما زالت لا تحسن الوصول إلى الجمهور، ولا يسهل الوصول إلى مخرجاتها ومطبوعاتها، ولا نكاد نرى لها وجوداً في حياتنا. حتى حساباتهم في منصات التواصل الاجتماعي تفشل في التواصل الفعَّال. هذا المجمع نتأمل منه أن يكون مجمعاً فاعلاً يلم الشتات، ويتواصل مع الجمهور، ويسد فراغاً كبيراً في مجالات خدمة الهُوية اللغوية. سيكون لهذا المجمع دور فاعل في تعريب ما يستجد بطريقة سريعة وفعالة، وسيسهم في نشرها وتعميمها بالتعاون مع المجامع العربية، وبحكم مكانة المملكة سيكون له قبول كبير وتأثير إيجابي. لا أستطيع تعديد كل القيم التي يمكن أن يضيفها هكذا مجمع. ولكن المهم أن نراه على أرض الواقع وأتمنى أن يكون ذلك قريباً.
• بما أنك عضو في مجمع اللغة العربية الافتراضي، لماذا يعترض كثير من اللغويين على هذا المجمع؟
•• أعتقد أن كثيراً من الاعتراضات مردها تصورات سلبية مسبقة، بعضها حسن النية من باب التوجس والخوف على اللغة الفصحى، بحكم تركيز المجمع على الموروث اللغوي اللهجي، وبعضها سوء فهم واضح كما في قضية رسم صوت القيف أو القاف المعقودة. والمجمع في عمله يحاول ربط اللهجات بلغتنا الفصحى ويقوم بجمع الفوائت وله نشاط ملحوظ في تعريب المصطلحات وكان له حساب فرعي للتعريب كنت أديره وكان مبادرة شخصية عربنا من خلالها عديد المصطلحات، ثم علق الحساب من قبل منصة تويتر دون سبب يذكر!. والمجمع حقيقة خلق تفاعلاً عجيباً من الأهواز إلى الأطلسي، وفي حسابه مادة لغوية وثقافية وأنسنية ثرة يمكن أن تخرج منها دراسات عديدة. وجهود الدكتور عبدالرزاق الصاعدي واهتمامه بإدارة الحساب تذكر فتشكر، وقد أخرج المجمع مجلدين من الفوائت وهي أولى مخرجاته اللغوية المتميزة. ووجود اعتراضات أمر طبيعي وصحي.. وفي نهاية المطاف فكل هذا التفاعل والنقد سيثري الساحة اللغوية التي كانت شبه راكدة.
• اطلعتُ على دراسة صدرت حديثاً، تشير إلى أنّ عدد الآلهات المرتبط بأسماء نسائية قبل 2500 سنة، يفوق عدد الرجال قبل أن يحدث انقلاب أزاح النساء عن مكانتهن السابقة.. هل يمكن للغات القديمة خدمة هذه الفكرة أو نفيها؟
•• إن صدق حدسي، فالدراسة التي تشير إليها، تلمح إلى بلاد الإغريق تحديداً. والأساطير اليونانية تروي لنا أن اليونان عبدوا 12 إلهاً؛ هي تلك المسماة آلهة الأولمپ، وكان منها 6 آلهات، وهذه الآلهات تفردن بالأمور الإيجابية فهن آلهة المنزل، والخصب، والزواج، والجمال، وفوائد الفلاحة والفكر، بينما الرجل المسكين كلف بشؤون سلبية كالحرب والشهوة، والسلاح، والعالم السفلي، والموت! وعبادة الأنثى طقس وثني قديم، في حضارات عديدة نذكر منها في الهندوسية الأم الإلهية دُرا Durga، واسمها في السنسكريتية يعني التي لا تقهر. بل تسللت هذه العقيدة الوثنية حتى إلى النصرانية الكاثوليكية حيث تعبد مريم عليها السلام كأم للرب. وبدأت هذه الفكرة تبرز كثيراً كجزء من الزحف النسوي المريب غربياً ومحلياً، وخرجت أعمال أدبية منوعة تخدم هذه الفكرة وتروج لها؛ ومن أبرزها رواية دان براون «شفرة دا ڤنتشي». وأما اللغات فلن تخدمها كثيراً فاللغات بشكل عام ذكورية النزعة، والفكرة في حد ذاتها أي فكرة أن النساء كن محور العبادة فكرة متأخرة حدثت بعد فساد العقائد السماوية وتفشي الجهل بها وتسيد الوثنية لبرهة من الزمن.
• الدكتور سعيد السريحي يقول: وَيْل لنا من ثقافة قادمة روادها خبراء التجميل والأزياء والطبخ وأنت تدعو إلى أن يكون لنا مطبخنا الذي يجب أن يسوّق.. كيف يمكن الجمع بين رؤيتين متناقضتين؟
•• أظن ما أدعو إليه لا يتعارض مع كلام الدكتور، فأنا أتفق معه في خطورة تسيّد ثقافة يقودها مشاهير شبكات التواصل الاجتماعي ممن برزوا في التجميل أو الأزياء أو الطبخ أو سواها؛ لأنهم يمثلون حالات خاصة أو فلنقل استثنائية لا تحمل عمقاً ثقافياً، وليس لديها رسالة ثقافية تمثل ثقافة البلد. أما ما دعوت له وأظنك تقصد ما ورد خلال مقابلة لي سابقة، فمختلف تماماً. فما أنادي به هو أنّ لدينا مطبخاً عربياً وسعودياً عريقاً فيه أكلات تجاوز عمرها عشرات القرون، ويحسن بنا تسويقها وتصديرها للآخر محملة بعمق ورسالة ثقافية هادفة. فالبيتزا والبرجر حينما وردتنا لم تأت فرادى بل أتت محملة بدلالات ورسائل ثقافية بل وحتى لغوية وسلوكية. فالمطبخ وسيلة اختراق ثقافي فعّال يجب استغلاله.
• الدكتور حمزة المزيني لا يرى أفضلية للغة العربية على بقية اللغات ويعدّ القول بالتفضيل تضليلاً.. ما رأيك ؟
•• هذا الرأي ليس خاصاً بأبي فارس ولكنه رأي الإجماع العلمي في الأوساط اللسانية. والسبب وراء ذلك أنه ليست هنالك آلية علمية منصفة ومتفق عليها يمكن من خلالها تفضيل لغة على أخرى. هل سنفاضل بين اللغات بناء على عدد المفردات! وهنا إشكالية تعريف الكلمة، هل سنفاضل بين اللغات من خلال القدرة على التعبير عن الأفكار، وهنا الإجماع العلمي أن كل اللغات قادرة على التعبير عن الأفكار كل بطريقتها، بعضها موجز وبعضها مسهب، لكن كلها تستطيع التعبير عن كل الأفكار. هل سنفاضل بينها من حيث عدد المتحدثين، وهل هذا المعيار منصف وموضوعي! الخلاصة أن التفاضل صعب في غياب آلية منصفة وموضوعية. ولكن هل اللغات متساوية ومتشابهة في كل شيء نقول لا: فهي تختلف من حيث عدد المتحدثين، من حيث سهولة وصعوبة تعلمها في المتوسط العام، تختلف من حيث نظم كتابتها، تختلف نحوياً، وصرفياً، تختلف من حيث امتلاكها لنتاج أدبي كبير، إلخ. ولو تساءلنا هل هنالك تفضيل من أي نوع، نقول نعم يمكننا القول إنّ هنالك تفضيلاً خارج المنظومة العلمية: فهنالك لغة تفضل في الوسط التجاري لانتشارها وكثرة متحدثيها مما يسهل التواصل التجاري. ولكن يبقى موضوع غياب معيار وآلية تفضيل متفقاً عليه علمياً.
البيضاني حذر من خطورة تسيّد ثقافة يقودها مشاهير شبكات التواصل الاجتماعي ممن برزوا في التجميل أو الأزياء أو الطبخ أو سواها؛ لأنهم يمثلون حالات خاصة أو استثنائية لا تحمل عمقاً ثقافياً.. وإلى نصّ الحوار:
• ما الذي يشغلك اليوم؟
•• أكثر ما يشغلني في الشأن الثقافي أن نرى تحولاً جذرياً في عمل مؤسساتنا الثقافية يجعلنا نلمس دورها في تغيير إيجابي نراه في الأجيال الناشئة، وهذا لا يتأتى دون تكاملها مع المؤسسات التعليمية والأسرة، يشغلني كثيراً نشر ثقافة القراءة وأهميتها وزيادة الوعي المجتمعي بها؛ وأتشوق إلى تلك الأيام التي نرى فيها ظاهرة القراءة في كل مكان؛ تشغل أوقات الانتظار وتشاهد في وسائل النقل العام، خاصة أن هنالك شبكة قادمة من قطارات الأنفاق، والقطارات والحافلات حيث تسهل القراءة، يشغلني تغيير الصورة النمطية السلبية عن المثقف، يشغلني كثيراً انتظار مشاريع بقدر مسؤوليتنا ومكانتنا: مجمع لغوي في مهد الفصحى حيث يجب أن يكون، معجم العربية الرقمي الموسوعي، موسوعة حرة عربية بحتة، مشروع ترجمة جبار من العربية وإلى العربية يوصل الصورة الإيجابية التي نريدها وينقل لنا الثقافة والعلوم التي نرتقي بها، معجم تاريخي للعربية يكمل ثغرات معجم الدوحة الكثيرة، مراكز بحوث لغوية، مراكز بحوث نقدية، مراكز بحوث أنسنية (علم الأنسنة) تهتم بحضاراتنا ولغتنا وآثارنا وتسوق لها بشكل مدروس وذكي، مشاريع توثق الموروث الشعبي وتدرسه.. الهموم كثيرة ومتشعبة ومثقلة بالشجن ولكن هذا عفو الخاطر.
• تجيد العديد من اللغات القديمة والحديثة، فكيف بدأ اهتمامك باللغات؟
•• بدأت مذ كنت في المرحلة الابتدائية، حين كنت أدمن مشاهدة برامج القناة السعودية الثانية، من الرسوم المتحركة إلى الوثائقيات، وكنت أكره أن أتابع البرامج التي لا تحوي ترجمة مرئية، ويزعجني كثيراً ألا أفهم ما أسمعه! فكانت البداية حينما علمني أخواي الكبيران مبادئ القراءة الإنجليزية، ثم بدأت بكتيب ما زلت أحتفظ بعنوانه «الترجمان الصحيح»، وتعلمت اللغة سريعا، وأدمنت مطالعة المعاجم، وأفادني كثيراً شغفي القرائي وفضولي المعرفي، وكانت الإنجليزية بوابة أتاحت لي تعلم لغات أخرى، بحكم توفر المصادر فيها لمن أراد تعلم أية لغة كانت حية أم ميتة. وهذا يقودني إلى ذكر حالة النقص الكبير في مكتباتنا في ما يخص مصادر تعلم اللغات الأخرى بالعربية، فغالب المتاح تجاري بحت، ويفتقر إلى العمق والفاعلية، والحداثة.
• ما قيمة العلوم الإنسانية في عالمنا اليوم؟
•• أعتقد أن أهميتها أكبر من أن يُتساءل عنها، سواء من الناحية السياسية، أو الثقافية، أو الاقتصادية، أو الدينية حتى!. فالعلوم الإنسانية كانت ولا تزال الشغل الشاغل للدول المتقدمة، فهي تسوق لثقافة معينة، وتنشر سلعة معينة، وتبشر بقيم معينة، وتنشر عقيدة معيّنة، وتُبنى إستراتيجيات دول ومنظمات عالمية بناء على دراساتها وتوصيات خبرائها. هذه العلوم لو كانت لها مراكز بحوث عندنا لكانت شركاتنا ومؤسساتنا في غنى عن دراسة غربية لا تمت لواقعنا المجتمعي والثقافي بصلة كبيرة، ولأُتيح للمخطط والمسوق والمسؤول دراسات محلية رصينة، يمكن أن يفيد منها بصور شتى.
• لماذا تتحفظ على ما قدمه لنا المستشرقون من كتب؟
•• ليست تحفظات بالمعنى البسيط للتحفظ، ولكن وجهة نظري أن ما قدمه المستشرقون يجب أن تعاد قراءته بوعي، وعلى ضوء ما استجد من كشوفات علمية، فالمستشرقون يتفاوتون؛ منهم من يحركه التعصب الديني، فيزيغ عن النهج العلمي وقد يحرف، ويدلس، وقد يدس السم في العسل، وهؤلاء يصنفون إلى صنفين؛ صنف متعصب جداً ومغمور، فهؤلاء لا حاجة إلى الاهتمام بهم أصلاً ولا لبعثهم من مرقدهم، وصنف متعصب وذكي، ولطرحه وجاهة عند الآخر وأحياناً عند بني جلدتنا، وهؤلاء يجب أن يدرسوا جيداً وأن يرد عليهم بإنصاف وبمنهج علمي يحترمه الجميع رغم تعصبهم، لكي لا نتهم بالتعصب مثلهم. ومنهم من كان منصفاً محايداً، ومثل هؤلاء من الإنصاف أن نشكر لهم صنيعهم، وأن نستغله لخلق صورة إيجابية وروابط ثقافية مع الآخر، خاصة أن هذا الصنف المنصف، لا نجد لآثارهم في الآلة الإعلامية الغربية إلا بصيصاً لا يذكر، فمن واجبنا أن نعيد بعثه هنالك بكل الطرق الممكنة، وهذا التحفظ الذي أزعم أنه عند كثيرين غيري، يولّد هاجساً ملحًاً بضرورة ترجمة النصوص القديمة في اللغات الميتة التي تتعلق بنا، ترجمة جديدة ومباشرة عن الأصل وعلى ضوء آخر المستجدات اللغوية وأن يترجمه المتخصصون من بني جلدتنا، وأن تكون لنا مراكز بحثية ومجلات محكمة تقيم هذه الترجمات والنصوص وتدرسها بتعمّق، وتخرج لنا بمادة علمية وثقافية وتاريخية نافعة؛ نفهم بها حضاراتنا دون وسيط، ونصحح بعض الأغاليط المنتشرة عنا، وأزعم أننا أقدر على فهم أسلافنا من غيرنا. وأزعم أن ثمة تفسيرات وتأويلات واستنتاجات غربية لنصوص موغلة في القدم في بلادنا العربية مغلوطة وغير موفقة وأحيانا عن تعمّد، وسنكتشف أن هنالك تفسيرات وتأويلات محلية تبزها موضوعيةً ومنطقاً، وترجح كفتها على تلك الغربية، والسبب هو العلاقة التاريخية والمحلية والامتداد الثقافي الذي بقي له حتى في موروثنا الشعبي وعقلنا الجمعي بقايا يمكن أن تسهم في فهم أدق وتفسيرات راجحة وهذا الأمر يلحظه المتأمل والمتدبّر في تلك النصوص.
• لماذا يتحسس العديد من رواد شبكات التواصل الاجتماعي من الثقافة الحجازية؟
•• لما ظهرت موجة منصات التواصل الاجتماعي، سنحت فرصة لا يمكن ألا تستغل من قبل من لم تتح لهم فرصة لنشر طرحهم وثقافتهم. والظاهرة في حد ذاتها إيجابية ومثرية، ونشرت كثيراً من الطرح الجميل، وساهمت في مزيد وعي بالثقافات المحلية الفرعية، التي غالباً ما كانت تهمش من قبل القنوات الإعلامية والثقافية لسبب أو لآخر وغالباً أسباب غير منطقية. لكن المحزن أن هنالك من المتعصبين من كلا الطرفين من استغل هذا لنشر سمومه، ولبث الفرقة، ولممارسة التنمر الثقافي والعنصري في أبشع صوره. ولكن مؤخراً ظهرت قوانين وتنظيمات تنظم النشر الرقمي بأنواعه، وتحارب التعصب والتنمر، والجرائم الرقمية، ما يجعلنا نتفاءل بأن هذا الطرح المسيء مصيره الزوال، والقارئ المميز يبحث عن الطرح الموضوعي والمعلومة المفيدة، ولا يتوقف كثيراً عند الطرح المتعصب والمتشنّج.
• ما القيمة التي يمكن أن يضيفها مجمع للغة العربية في السعودية؟
•• بل ما القيم التي سيضيفها!. المجمع سيكون رد اعتبار لمهد العربية الفصحى الذي حرم من أخذ دوره الطبيعي ليكون مركزاً للغة والاهتمام بها، وتنسيق التعريب. وسيكسب مكانة إسلامية كبيرة بحكم قداسة المكان، وارتباط الفصحى تاريخيّا به، وبحكم مكانة المملكة العربية السعودية، وسيكون للمجمع دور في توحيد الجهود المشتتة، التي -شخصياّ- أرى أن المجامع الموجودة ومكتب تنسيق التعريب لم توفق في جمعها، بل ما زالت لا تحسن الوصول إلى الجمهور، ولا يسهل الوصول إلى مخرجاتها ومطبوعاتها، ولا نكاد نرى لها وجوداً في حياتنا. حتى حساباتهم في منصات التواصل الاجتماعي تفشل في التواصل الفعَّال. هذا المجمع نتأمل منه أن يكون مجمعاً فاعلاً يلم الشتات، ويتواصل مع الجمهور، ويسد فراغاً كبيراً في مجالات خدمة الهُوية اللغوية. سيكون لهذا المجمع دور فاعل في تعريب ما يستجد بطريقة سريعة وفعالة، وسيسهم في نشرها وتعميمها بالتعاون مع المجامع العربية، وبحكم مكانة المملكة سيكون له قبول كبير وتأثير إيجابي. لا أستطيع تعديد كل القيم التي يمكن أن يضيفها هكذا مجمع. ولكن المهم أن نراه على أرض الواقع وأتمنى أن يكون ذلك قريباً.
• بما أنك عضو في مجمع اللغة العربية الافتراضي، لماذا يعترض كثير من اللغويين على هذا المجمع؟
•• أعتقد أن كثيراً من الاعتراضات مردها تصورات سلبية مسبقة، بعضها حسن النية من باب التوجس والخوف على اللغة الفصحى، بحكم تركيز المجمع على الموروث اللغوي اللهجي، وبعضها سوء فهم واضح كما في قضية رسم صوت القيف أو القاف المعقودة. والمجمع في عمله يحاول ربط اللهجات بلغتنا الفصحى ويقوم بجمع الفوائت وله نشاط ملحوظ في تعريب المصطلحات وكان له حساب فرعي للتعريب كنت أديره وكان مبادرة شخصية عربنا من خلالها عديد المصطلحات، ثم علق الحساب من قبل منصة تويتر دون سبب يذكر!. والمجمع حقيقة خلق تفاعلاً عجيباً من الأهواز إلى الأطلسي، وفي حسابه مادة لغوية وثقافية وأنسنية ثرة يمكن أن تخرج منها دراسات عديدة. وجهود الدكتور عبدالرزاق الصاعدي واهتمامه بإدارة الحساب تذكر فتشكر، وقد أخرج المجمع مجلدين من الفوائت وهي أولى مخرجاته اللغوية المتميزة. ووجود اعتراضات أمر طبيعي وصحي.. وفي نهاية المطاف فكل هذا التفاعل والنقد سيثري الساحة اللغوية التي كانت شبه راكدة.
• اطلعتُ على دراسة صدرت حديثاً، تشير إلى أنّ عدد الآلهات المرتبط بأسماء نسائية قبل 2500 سنة، يفوق عدد الرجال قبل أن يحدث انقلاب أزاح النساء عن مكانتهن السابقة.. هل يمكن للغات القديمة خدمة هذه الفكرة أو نفيها؟
•• إن صدق حدسي، فالدراسة التي تشير إليها، تلمح إلى بلاد الإغريق تحديداً. والأساطير اليونانية تروي لنا أن اليونان عبدوا 12 إلهاً؛ هي تلك المسماة آلهة الأولمپ، وكان منها 6 آلهات، وهذه الآلهات تفردن بالأمور الإيجابية فهن آلهة المنزل، والخصب، والزواج، والجمال، وفوائد الفلاحة والفكر، بينما الرجل المسكين كلف بشؤون سلبية كالحرب والشهوة، والسلاح، والعالم السفلي، والموت! وعبادة الأنثى طقس وثني قديم، في حضارات عديدة نذكر منها في الهندوسية الأم الإلهية دُرا Durga، واسمها في السنسكريتية يعني التي لا تقهر. بل تسللت هذه العقيدة الوثنية حتى إلى النصرانية الكاثوليكية حيث تعبد مريم عليها السلام كأم للرب. وبدأت هذه الفكرة تبرز كثيراً كجزء من الزحف النسوي المريب غربياً ومحلياً، وخرجت أعمال أدبية منوعة تخدم هذه الفكرة وتروج لها؛ ومن أبرزها رواية دان براون «شفرة دا ڤنتشي». وأما اللغات فلن تخدمها كثيراً فاللغات بشكل عام ذكورية النزعة، والفكرة في حد ذاتها أي فكرة أن النساء كن محور العبادة فكرة متأخرة حدثت بعد فساد العقائد السماوية وتفشي الجهل بها وتسيد الوثنية لبرهة من الزمن.
• الدكتور سعيد السريحي يقول: وَيْل لنا من ثقافة قادمة روادها خبراء التجميل والأزياء والطبخ وأنت تدعو إلى أن يكون لنا مطبخنا الذي يجب أن يسوّق.. كيف يمكن الجمع بين رؤيتين متناقضتين؟
•• أظن ما أدعو إليه لا يتعارض مع كلام الدكتور، فأنا أتفق معه في خطورة تسيّد ثقافة يقودها مشاهير شبكات التواصل الاجتماعي ممن برزوا في التجميل أو الأزياء أو الطبخ أو سواها؛ لأنهم يمثلون حالات خاصة أو فلنقل استثنائية لا تحمل عمقاً ثقافياً، وليس لديها رسالة ثقافية تمثل ثقافة البلد. أما ما دعوت له وأظنك تقصد ما ورد خلال مقابلة لي سابقة، فمختلف تماماً. فما أنادي به هو أنّ لدينا مطبخاً عربياً وسعودياً عريقاً فيه أكلات تجاوز عمرها عشرات القرون، ويحسن بنا تسويقها وتصديرها للآخر محملة بعمق ورسالة ثقافية هادفة. فالبيتزا والبرجر حينما وردتنا لم تأت فرادى بل أتت محملة بدلالات ورسائل ثقافية بل وحتى لغوية وسلوكية. فالمطبخ وسيلة اختراق ثقافي فعّال يجب استغلاله.
• الدكتور حمزة المزيني لا يرى أفضلية للغة العربية على بقية اللغات ويعدّ القول بالتفضيل تضليلاً.. ما رأيك ؟
•• هذا الرأي ليس خاصاً بأبي فارس ولكنه رأي الإجماع العلمي في الأوساط اللسانية. والسبب وراء ذلك أنه ليست هنالك آلية علمية منصفة ومتفق عليها يمكن من خلالها تفضيل لغة على أخرى. هل سنفاضل بين اللغات بناء على عدد المفردات! وهنا إشكالية تعريف الكلمة، هل سنفاضل بين اللغات من خلال القدرة على التعبير عن الأفكار، وهنا الإجماع العلمي أن كل اللغات قادرة على التعبير عن الأفكار كل بطريقتها، بعضها موجز وبعضها مسهب، لكن كلها تستطيع التعبير عن كل الأفكار. هل سنفاضل بينها من حيث عدد المتحدثين، وهل هذا المعيار منصف وموضوعي! الخلاصة أن التفاضل صعب في غياب آلية منصفة وموضوعية. ولكن هل اللغات متساوية ومتشابهة في كل شيء نقول لا: فهي تختلف من حيث عدد المتحدثين، من حيث سهولة وصعوبة تعلمها في المتوسط العام، تختلف من حيث نظم كتابتها، تختلف نحوياً، وصرفياً، تختلف من حيث امتلاكها لنتاج أدبي كبير، إلخ. ولو تساءلنا هل هنالك تفضيل من أي نوع، نقول نعم يمكننا القول إنّ هنالك تفضيلاً خارج المنظومة العلمية: فهنالك لغة تفضل في الوسط التجاري لانتشارها وكثرة متحدثيها مما يسهل التواصل التجاري. ولكن يبقى موضوع غياب معيار وآلية تفضيل متفقاً عليه علمياً.