أخبار

الهيمنة الليبرالية وعودة سياسات القوى العظمى ومؤسسات النظام الدولي

الأحادية القطبية الأمريكية وصعود الصين:

قراءة تحليلية: د. منصور المرزوقي * Dr_Almarzoqi@

ينقسم حديثي هنا إلى ثلاثة أقسام: القسم الأول يعالج الهيمنة الليبرالية، والقسم الثاني يناقش عودة سياسات القوى العظمى، والقسم الثالث يتحدث عن مؤسسات النظام الدولي.

الهيمنة الليبرالية

الحديث عن الأحادية القطبية الأمريكية هو حديث عن النظام الدولي بالضرورة. وكذلك الحال مع صعود الصين. فهذا الصعود لا يتم في الفضاء بل على الساحة الدولية. ولهذا، فمن المبرر، بل والضروري من ناحية منهجية، أن نتحدث عن النظام الدولي.

بشكل مختصر، يمكن الحديث عن النظام الدولي من خلال 3 عناصر:

أولاً: يتكون النظام الدولي من منظومة قيم (وقد تكون هذه القيم مكونة من الأفكار المحيطة بالسلام، وتلك المحيطة بدور الدبلوماسية في تحقيق السلام... كما قد تكون الجدليات الشيوعية أو الليبرالية... إلخ).

ثانياً: هذه القيم ولدت مجموعة من القواعد المكتوبة والأعراف، وكلاهما يلعب دوراً في تأطير سلوك الدول.

ثالثاً: المؤسسات الدولية التي تعمل وفق هذه القواعد والأعراف.

يلعب توازن القوى، سواءً كان على شكل التعددية القطبية أو الثنائية القطبية أو الأحادية القطبية، دوراً هاماً في نشأة هذه العناصر الثلاثة، وفي نموها، وكذلك تحولها، ومدى التزام الدول بها. وبهذا فهي موجودة بسبب توازن القوى، وفي نفس الوقت تقوم هذه العناصر الثلاثة بالتأثير في هذا التوازن.

ويساهم في تشكيل النظام الدولي عاملان رئيسيان: عدد الدول العظمى الموجودة على الساحة الدولية، والأيديولوجيا السياسية للدول المهيمنة.

إبان الحرب الباردة، كان النظام الدولي ثنائي القطبية: القطب الشرقي بقيادة الاتحاد السوفييتي والقطب الغربي بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية. انتظمت الغالبية العظمى من المواقف الدولية حيال القضايا الرئيسية على الساحة الدولية في أحد المعسكرين، كالحرب الكورية بين عامي 1950 و1953، والحرب في فيتنام ما بين عامي 1955 و1975.

لكن بعد سقوط الاتحاد السوفييتي عام 1991، استيقظت الولايات المتحدة الأمريكية على عالم هي القوة العظمى الوحيدة فيه. فتحول الحديث إلى الأحادية القطبية الأمريكية.

حول هذه اللحظة يجادل أحد المفكرين الأمريكيين بأنه مع صعود الديمقراطية الليبرالية الغربية -بعد تفكك الاتحاد السوفيتي (1991)- وصلت الإنسانية لنهاية التاريخ وغايته، بمعنى: نقطة النهاية للتطور الأيديولوجي للبشرية، وإضفاء الطابع العالمي على الديمقراطية الليبرالية الغربية باعتبارها الشكل النهائي لأي ترتيب سياسي يمكن أن يصل إليه البشر.

وهنا يجب أن ننوه إلى جذور هذه الفكرة، من الناحية الفلسفية، في مفهوم «الحداثة» وتبريرات الاستعمار. فعلى الرغم من صعوبة تعريف «الحداثة» إلا أن أحد أهم خصائصها إحالة مهمة بناء جسر ما بين ما هو كائن (حالة الإنسان الأخلاقية، مثلاً) وما يجب أن يكون إلى العقل البشري، عوضاً عن المصادر المقدسة. وهذا يعني من الناحية النظرية أن العقل قادر إلى الوصول إلى نقطة التطور المنشودة. وكذلك يوجد جذر استعماري للهيمنة الليبرالية يتمثل في اعتقاد الغرب بأنه محق في ديمقراطيته الليبرالية ويملك الحق في فرضها على العالم. فلقد كان الغرب قبل قرون يتصور أنه المركز وبقية العالم مجرد أطراف. ولا يمكن للأطراف أن تتطور إلا عبر الاتصال بالمركز. هكذا برر الغرب استعماره للدول والأمم التي «أتى لتطويرها». يقول رئيس الأساقفة الأفريقي توتو في هذا: «عندما جاء المبشرون إلى إفريقيا، كان لديهم الكتاب المقدس وكانت الأرض لدينا. قالوا: دعونا نصلي. فأغلقنا أعيننا. وعندما فتحناها كان الكتاب المقدس في يدنا والأرض في أيديهم».

وهنالك ما يسميه الأمريكيون (manifest destiny) وهذه العبارة التي صيغت في عام 1845 تعني أن الله كتب وقدر على الولايات وأمرها بتوسيع هيمنتها ونشر الديمقراطية والرأسمالية عبر قارة أمريكا الشمالية بأكملها. وهنا أتذكر عبارة مادلين أولبرايت: «نحن الأمة التي لا غنى عنها، نقف شامخين ونرى أبعد». فواشنطن ترى نفسها مثلما كانت الخنساء ترى أخاها صخراً: كأنه علم في رأسه نار!

وبعد سقوط الاتحاد السوفييتي، اتخذت الهيمنة الغربية بقيادة واشنطن على عاتقها مهمة إعادة تشكيل العالم كي يصبح نسخةً منها (recreat the world in its own image). بمعنى آخر: اتخذت الولايات المتحدة على عاتقها مهمة بناء نظام عالمي ليبرالي. وهذا ما يُقصد بالهيمنة الليبرالية. هنا أصبحت الهيمنة الليبرالية «استراتيجية كُبرى» (grand strategy) للولايات المتحدة.

من المهم أن نلاحظ أن الاستراتيجية الكبرى ليست هي السياسة الخارجية، وليست مرادفة لها. تعمل السياسة الخارجية على استخدام عدة أدوات (مثل الاقتصاد والقوة العسكرية) لحماية وتنمية المصالح، بينما تعمل الاستراتيجية الكبرى على تنظيم العلاقات السببية بين الأدوات (مثلاً: أثر استخدام الأداة العسكرية على إنهاك الأداة الاقتصادية وتأثير كل منهما على موارد الدولة من جهة وعلى ترتيب الأولويات بين الأهداف المنشودة).

بناءً على ما سبق، تكون الدولة المهيمنة في النظام العالمي ديمقراطية ليبرالية، ويسعى هذا النظام إلى تحقيق ثلاثة أهداف:

1- نشر الديمقراطية الليبرالية، كما هو بارز في مثال الثورات الملونة، البرتقالية في أوكرانيا والوردية في جورجيا، أو الثورات الفصلية، مثل «الربيع العربي».

2- تعزيز الانفتاح الاقتصادي، وقد ضغطت الدول الغربية بشراسة باتجاه فرض اتفاقيات على دول عدة وإلزامها بفتح أسواقها أمام الشركات الغربية (مثل ما فعلت في حروب الأفيون مع الصين في القرن التاسع عشر).

3- دمج المزيد من الدول في المزيد والمزيد من المؤسسات. فلقد تضاعف عدد المؤسسات الدولية والمواثيق الدولية.

الدولة الليبرالية المهيمنة لا تولي اهتماما لسياسة توازن القوى (السياسة الواقعية) لأنه لا توجد قوى أخرى.

ولدينا على الهيمنة الليبرالية مثال وهوعقيدة بوش (the Bush doctrine): حاول التعامل مع قضية الإرهاب وانتشار الأسلحة النووية واستقرار الشرق الأوسط عبر السعي إلى تحويل دول المنطقة إلى ديموقراطيات ليبرالية.

في جوهرها، الهيمنة الليبرالية هي استراتيجية كبرى مراجعاتية (revisionist grand strategy): فعوضاً عن أن تسعى الولايات المتحدة إلى مجرد الحفاظ على توازن القوى في المناطق الرئيسية (مثل أوروبا والخليج العربي وشرق آسيا)، فإنها تلتزم بإعادة ترتيب البُنى الجيوسياسية في العالم.

الهيمنة الليبرالية فشلت لعدة أسباب من أهمها: أن محاولة فرض الديموقراطية استثار الحميات القومية لدى الدول والشعوب، وكذلك لأن هذه الهيمنة الليبرالية تقوم على نبذ الآخر المختلف والانتقاص منه: يجب أن يصبح الجميع ديموقراطياً ليبرالياً وإلا لصار متخلفاً وبلا أخلاق. كما أن تحولات النظام الدولي تعمل على العودة إلى سياسات القوى العظمى.

عودة سياسات القوى العظمى

يجادل بعض الخبراء أن تحول النظام الدولي إلى التعددية القطبية سيجبر الولايات المتحدة على تغيير استراتيجيتها الكبرى من الهيمنة الليبرالية إلى «التوازن عن بعد» (off-shore balancing): ستتخلى واشنطن عن الجهود الطموحة لإعادة تشكيل العالم وستركز على الحفاظ على الهيمنة الأمريكية في الغرب، ومواجهة أي دولة تسعى إلى الهيمنة في المناطق ذات الأهمية بالنسبة لواشنطن: أوروبا وشمال شرق آسيا والخليج العربي.

وهذا يعني اعتماد الولايات المتحدة أكثر فأكثر على القوى الإقليمية للحفاظ على مصالحها، مع اقتسام المنافع والمسؤوليات مع هذه القوى الإقليمية.

وبناءً عليه، يجب أن يكون الهدف الرئيسي للولايات المتحدة في أوروبا وشمال شرق آسيا هو الحفاظ على توازن القوى الإقليمي بحيث تظل أقوى دولتين في كل من المنطقتين؛ روسيا والصين، منهكتين وقلقتين للغاية بشأن جيرانهما بما لا يسمح لأي منهما بالتوسع في الغرب: والذي هو ميدان هيمنة واشنطن (وفق عقيدة، أو مبدأ، منرو).

ومن ضمن القوى المرشحة بقوة للسعي لتحدي القوة الأمريكية: الصين. ويجادل بعض الخبراء بأن الصين لديها استراتيجيتها الكبرى الخاصة بها.

تنتهج الصين استراتيجية كبرى تجمع بين عناصر التوازن الداخلي و«التوازن الناعم» الخارجي (external soft balancing).

تهدف استراتيجية التوازن الداخلي إلى زيادة القوة النسبية للصين من خلال التنمية الاقتصادية والتحديث العسكري، في حين أن استراتيجية التوازن الناعم مصممة للحد من أو عرقلة مبادرات السياسة الأمريكية التي تعتبر ضارة بالمصالح الصينية.

وتلك العرقلة يمكن أن تتم من خلال الجهود الدبلوماسية في المؤسسات متعددة الأطراف (وهذا يهمنا في ما يتعلق بأهمية ودور مؤسسات النظام الدولي). وكذلك من خلال الشراكات الثنائية (مثل ما نرى في سياق الاتفاقية الصينية الإيرانية المزمع عقدها).

المنطق الاستراتيجي هو الحفاظ على بيئة خارجية مستقرة للصين للتركيز على النمو الاقتصادي وتراكم القوة النسبية - دون إثارة رد قوي من الولايات المتحدة. وهنا نتذكر مقولة الرئيس الصيني تشياو بينق: «كن متأنياً، ولا تظهر قوتك». (hide your strength, bide your time).

ولكن على المدى الطويل، من المرجح أن تتحول الصين القوية والمزدهرة إلى موقف أكثر شراسةً في الشؤون الخارجية.

على عكس الاتحاد السوفييتي الذي لم يكن قوة اقتصادية، تبرز الصين كقوة اقتصادية عظمى. وخلافاً للاقتصاد السوفييتي الذي لم يكن متداخلاً مع اقتصادات الولايات المتحدة وأوروبا، لا يكاد يوجد متجر في الغرب إلا ويزخر بمنتجات الصين.

ولهذا، جاء السعي الغربي لتقليل الترابط الاقتصادي مع الصين كأحد أهم التحركات الاستراتيجية، كما يتضح من الموقف الغربي من هوايي وتقنية الجيل الخامس.

وتمثل مبادرة الحزام والطريق عنواناً للقوة الاقتصادية الصينية وتداخلها مع العالم. ومبادرة الصين 17+1، مع دول شرق ووسط أوروبا، من بحر البلطيق شمالاً وحتى منطقة البلقان جنوباً، ماثلةٌ للعيان.

وينظر الغرب لهذه المبادرات الاقتصادية على أنها مقدمة لهيمنة صينية على مناطق نفوذ الغرب تقليدياً. وما هي إلا مسألة وقت حتى يتحول هذا التمدد الاقتصادي إلى تمدد عسكري. فلقد تحولت المساعدات الصينية لسيريلانكا إلى ديون. ومع تراكمها، سلمت كلومبو ميناءً استراتيجياً لبكين لمدة 99 سنة.

ولن يدخر الغرب جهداً لعرقلة الصعود الصيني. فلقد وَقَعَتْ في نوفمبر 2018 هجمات إرهابية استهدفت القنصلية الصينية في كراتشي، التي لا تبعد كثيراً عن ميناء جوادر الباكستاني. يجب أن نتذكر أن هذا الميناء الاستراتيجي المطل على بحر العرب، يربطه خط مستقيم بكاشقار في منطقة تشين جيانق الصينية. وهي بالمناسبة المنطقة التي يسكنها أشقاؤنا المسلمون اليوغور، والذين «رقت لهم قلوب الغرب» مؤخراً. ولهذا قامت الصين بالتعاقد مع الجيش الباكستاني لتوفير بضعة آلاف من الجنود لحماية الممر بين كاشقار وجوادر، إذ يتمتع هذا الممر بأهمية استراتيجية كبرى للصين ومبادرة الحزام والطريق.

هنا يمكننا فهم ما يُسمى بـ«عقد اللؤلؤ» الصيني (string of pearls)، وهو عبارة عن قواعد بحرية عسكرية تنتشر في المحيط الهندي (سيريلانكا وبنغلادش) وبحر العرب (باكستان) والبحر الأحمر (جيبوتي)، والخليج العربي (إيران، بعد إتمام الصفقة بين بكين وطهران). ونظرية عقد اللؤلؤ تشير إلى مجموعة من مواطئ الأقدام الصينية، والتي تجمع بين الحضور التجاري والاقتصادي والعسكري، ويربطها خطوط بحرية، تمتد من الصين وحتى بورتسودان في البحر الأحمر.

مؤسسات النظام الدولي

بناءً على ما سبق، يتضح ارتفاع فرص أن تكون مؤسسات النظام الدولي ساحة رئيسية للصراعات بين القوى الكبرى، مما قد يتسبب في ثلاثة أمور:

أولاً: دفع مؤسسات النظام الدولي باتجاه عدم الفاعلية، بشكل يفوق مستويات الحرب الباردة.

ثانياً: عرقلة الأنشطة القائمة حالياً، سواءً من قبل دولة الإمارات العربية المتحدة أو من دول البريكس، الساعية لإصلاح مؤسسات النظام الدولي، مثل مجلس الأمن.

ثالثاً: من المرجح أن ينعكس ضعف فاعلية مؤسسات النظام الدولي بشكل سلبي على القضايا في المستوى الإقليمي، كقضايا الشرق الأوسط.

* (مدير مركز الدراسات الاستراتيجية بمعهد الأمير سعود الفيصل للدراسات الدبلوماسية)