زوايا متخصصة

موضي البسام.. امرأة بألف رجل

آل البسام في لقائهم السنوي الـ 28 بالمنامة عام 2019.

بقلم: د. عبدالله المدني - أستاذ العلاقات الدولية في مملكة البحرين abu_taymour@

عائلة البسام النجدية السعودية المتحدرة من القصيم، التي تعود أصولها إلى قبيلة تميم من ذرية عقبة بن ريس بن زاخر، الذي ينتهي اسمه بنزار بن معد بن عدنان، عائلة أشهر من نار على علم. فأعلامها كثر وذكرها في تاريخ المملكة العربية السعودية ومنطقة الخليج العربي متكرر، وأفرادها انتشروا منذ القدم خارج الحدود السعودية في العراق والشام والبحرين والكويت والإمارات العربية المتحدة، بل منهم من وصل إلى بلاد الهند والسند واستقر بها وبرز فيها تجارياً واجتماعياً. ولم يقتصر أعلامها على الرجال فحسب، إنما برز من بينهم النساء أيضا.

ولعل أشهر نساء آل البسام ذِكراً في تاريخ المنطقة هي السيدة موضي بنت عبدالله بن حمد العبدالقادر البسام، التي ارتبط اسمها بمثل متداول في القصيم ونجد هو «لي جاك ولد سمه موضي» كناية عن تفوقها على الرجال لجهة الشجاعة والإقدام في الملمات والمبادرة إلى أعمال الغوث والبر والإحسان. لقد كتب الكثيرون عنها وعن سيرتها ومآثرها. من هؤلاء: الباحثة الدكتورة دلال بنت مخلد الحربي في كتابها «نساء شهيرات من نجد» الصادر في عام 1998 عن دارة الملك عبدالعزيز، ومنهم أستاذنا القدير المؤرخ محمد بن عبدالرزاق القشعمي في الملحق الثقافي لجريدة الجزيرة السعودية (26/‏12/‏2015)، ومنهم الدكتور أحمد بن عبدالعزيز البسام في كتابه «المحسنة موضي العبدالله البسام»؛ علاوة على ما ذكره عنها عيد اليحيى في برنامجه التلفزيوني «على خطى العرب» من قناة العربية الفضائية.

مواليد عنيزة

لا ندري متى ولدت موضي على وجه التحديد، لكن المؤكد أنها ولدت في مدينة عنيزة التي وصفها الرحالة اللبناني أمين الريحاني في كتابه الأثير «ملوك العرب» بـ«باريس نجد»، في سنة يرجح أنها عام 1263 أو عام 1270 للهجرة، ابنة وحيدة لوالديها. كان ميلادها في أسرة البسام كما قلنا التي قرر مؤسسها حمد البسام (توفي 1792م) الاستقرار في عنيزة من بعد أن ترك جده القاضي وعالم الدين الشيخ أحمد بن محمد بن عبدالله بن بسام بن عقبة (توفي 1631م) بلدته أوشيقر في سنة 1602م للعمل قاضيا في مدن نجدية أخرى مثل ملهم والقصب والعيينة. وفي عنيزة، التي صارت موطنا لآل البسام، اشتغل حمد البسام بالتجارة مع أبنائه إبراهيم وعبدالقادر وسليمان ومحمد وعبدالرحمن وعبدالعزيز، واستطاع مع أبنائه وأحفاده أن يبرز تجارياً واجتماعياً ويصبح من كبار أثرياء القصيم. وكان من بين هؤلاء الأبناء عبدالقادر البسام (جد موضي الأكبر).

وقتذاك لم تكن هناك في عنيزة مدارس نظامية، لكن ذلك لم يمنع موضي، التي تيتمت بفقد والدها في سن صغيرة، من الالتحاق بالكتاتيب التقليدية المتاحة لتحفظ القرآن الكريم وتنال قسطاً من العلوم الشرعية ومبادئ القراءة تحت رعاية والدتها «هيا الناصر السعدي» وتوجيه «عبدالله العبدالرحمن البسام» الذي عين وكيلاً عليها.

فاجعة العائلة

وحينما كبرت قليلا وحان موعد تزويجها، قرر وكيلها أن يزوجها في العقد الأخير من القرن الثالث عشر الهجري لابنه الأكبر عبدالرحمن بن عبدالله العبدالرحمن البسام، الذي كان يعمل بالتجارة مع والده، فأنجبت للأخير ستة أولاد (ابنين وأربع بنات). وتشاء الأقدار أن يرحل زوجها عن الدنيا في عام 1902، فسعت إلى تربية أولادها وتنشئتهم تنشئة صالحة مستخدمة في ذلك ما كان متوفرا لديها من خيرات. غير أن القدر تدخل مرة أخرى ففجعت بوفاة أكبر أبنائها حمد، ثم فجعت بوفاة ابنتيها حصة ولولوة في يوم واحد خلال سنة الرحمة، لتتوفى البنتان الأخريان مضاوي ونورة بعد ذلك بسنوات عدة. تلك الفواجع المتتالية وما تمخض عنها من آلام وأحزان شكلت دافعاً قوياً لديها كي تنصرف -مذاك- إلى الأعمال الخيرية، دونما اكتراث أو خشية من فقر محتمل. كان هدفها الوحيد هو إغاثة الملهوفين ومساعدة المحتاجين وجبر خواطر الفقراء والمظلومين كي يترحموا على من فقدتهم ويدعوا لهم بالغفران.

العمة موضي

ومما ذكر في سيرتها أنها عاصرت أحداثاً جساماً وتقلبات سياسية ومعارك حربية تاريخية، فلم يزدها ذلك إلا قوة وصلابة وعزيمة واستمراراً في أعمال البر والإحسان، حتى صارت مضرباً للأمثال ووصلت شهرتها إلى قادة وملوك وأمراء عصرها، بدليل أن الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود طيب الله ثراه (توفي عام 1953) كان حريصا على زيارتها للسلام عليها كلما مرّ بعنيزة، بل كان ينعتها بـ«العمة موضي» احتراماً وتقديراً لها، ثم بدليل أن جلالته كتب إلى مسؤولي وأمراء المناطق خطابا في عام 1335 للهجرة قال فيه: «إن أسرة عبدالله العبدالرحمن البسام وحمولتهم طوارف لنا ومن أعز طوارفنا». أما الملك الراحل سعود بن عبدالعزيز (توفي عام 1969) فقد تزوج في عام 1934 حينما كان ولياً للعهد من حفيدة موضي (ابنة ابنتها) مضاوي بنت سليمان العبدالله البسام المولودة سنة 1917م والتي أنجبت للملك سعود ابنه الأمير عبدالرحمن الأول.

من الأحداث التاريخية التي عاصرتها موضي ولعبت دورا فيها، «معركة الصريف» المشهورة التي دارت رحاها في مارس عام 1901م في الصريف (شمال شرقي مدينة بريدة القصيمية) بين جيش حاكم الكويت السابع الشيخ مبارك بن صباح الصباح الملقب بمبارك الكبير (توفي عام 1915) وجيش أمير حائل عبدالعزيز بن متعب بن عبدالله آل رشيد (توفي عام 1906)، التي تلقى فيها الطرف الأول هزيمة نكراء تسببت في تفرق جنود حاكم الكويت في بلدات القصيم. وعلى الرغم من أن عنيزة كانت -آنذاك- تابعة لحائل وبالتالي تحت سلطة آل رشيد، إلا أن موضي قامت باستضافة وإيواء نحو 400 من جنود آل صباح المهزومين سرا في بيوتها، وأمدتهم بما يحتاجون إليه من طعام وشراب. ولما خفت مطاردتهم من قبل جيش آل رشيد أخذت في إعادتهم إلى الكويت بعد أن أعدت لهم الرواحل، على دفعات بمجموعات صغيرة حتى لا يلفت إليهم النظر.

أم المساكين

إلى ما سبق يذكر التاريخ لموضي مواقف بطولية أخرى تمثلت في الإحسان إلى من أساء إليها وإلى أسرتها وقت الملمات والمجاعات والكوارث الطبيعية. فمثلا خلال السنة المعروفة بـ«سنة الجوع» في عام 1909 حينما عانت نجد وتعرض أهلها للقحط الشديد راحت -بمساعدة بعض النسوة- تخرج من مخزونها من التمر كميات كبيرة لتوزعيها بشكل يومي منتظم على الفقراء والمساكين، بطريقة لا تهدر كرامة المتلقي، فأطلق عليها اسم «أم المساكين».

أما في سنة الرحمة التي صادفت عام 1919م أي بُعيد انتهاء الحرب العالمية الأولى، فقد اجتاح الجزيرة العربية، وخصوصا منطقة نجد، وباء الكوليرا الذي نجمت عنه وفيات كثيرة كان من بينها نحو ألف وفاة من الرجال والنساء في عنيزة وحدها. هنا أيضا لعبت موضي دوراً إنسانياً كبيراً ومشهوداً لجهة تجهيز أكفان الموتى ودفع نفقات غسلهم وحفر قبورهم.

ومما كتبه عنها الأستاذ محمد بن عبدالرزاق القشعمي، نقلاً عما ورد في كتاب «المحسنة موضي العبدالله البسام» آنف الذكر، أن ما ساعد موضي على البذل والعطاء هو أنها كانت على قدر كبير من اليسار، لأنها اختصت بثلث تركة والدها الذي كان صاحب محل تجاري في جدة، ومالكاً للعقارات ومضارباً في عنيزة. كما أن والدة موضي كانت أيضاً على قدر من اليسار؛ كونها ورثت ثُمن تركة زوجها التاجر، وكونها حرصت على تنمية أموالها عن طريق المضاربة. وهكذا أصبحت موضي تنفق على أبنائها من مال أبيهم بينما راحت تنفق على أعمال البر والإحسان في أوقات الشدائد من مالها الخاص.

يا الخيرة موضي البسام

كثيرون هم من كتبوا مشيدين بمناقب وتاريخ موضي البسام ومنهم علامة الجزيرة الشيخ حمد الجاسر (توفي عام 2000)، والأديب السعودي المعروف عبدالله بن خميس (توفي 2011)، والشاعر والمؤرخ السعودي عبدالله بن بليهد (توفي 1957)، والإعلامي الشاعر حمد بن عبدالله القاضي. ومن خارج السعودية الكاتب الكويتي بجريدة «الجريدة» باسم اللوغاني، والكاتب الكويتي بجريدة القبس خالد محمد صقر المعوشرجي الذي قال: «هذه المرأة تستحق أن يخلد اسمها في تاريخ الكويت بإطلاقه على شارع أو مدرسة امتناناً لدورها الكبير في إسعاف وإنقاذ مجموعة من أهل الكويت في حرب الصريف».

ومن الذين نظموا القصائد فيها الشاعر القصيمي محمد العبدالعزيز العبيدالله الذي قال:

يا الخيرة موضي البسام

يا مفخرتنا بها الديره

على عنيزة تراك وسام

من طيب الأفعال والسيره

الطيب لو قسموه أقسام

حطوك بأول مشاويره

لو راح لك كم عام وعام

الطيب ما راح تذكيره

يوم ان طير المجاعة حام

والجوع لجّت مناشيره

لولاك ما ظن حيٍّ قام

جيتي من الله بتدبيره

يفداك من هو قليل ارحام

ما داخلت نفسه الغيره

على المساكين والأيتام

رداه دايم وتقصيره

حقك علينا وفا واكرام

مير العرب يالله الخيره

هذا صدودٍ وذا لوّام

وذاك همه دنانيره

والمال لو جمّعوه أكوام

ما طوّل العمر تكثيره

لا راح يومٍ من الأيام

يشوف شره عقب خيره

دنياك هذي وهَمْ وأحلام

ما يجهل العقل تعبيره

أجرك على الواحد العلام

تدرين ما ينفِعِك غيره

تلقين حسن العمل قدام

يوم الخلايق بها ذيره

عساك في روضةٍ وأنعام

في جنةٍ كلها نيره

«لي جاك ولد سَمَّه موضي»

ومن القصص الأخرى التي رواها القشعمي في مقاله بصحيفة الجزيرة (مصدر سابق) من تلك التي ما برح كبار السن يرددونها إلى اليوم؛ أنه حينما تعرضت عنيزة لأمطار غزيرة عام 1322هـ تهدمت وتضررت منازل كثيرة، فسارعت موضي إلى مساعدة المتضررين الذين كان من بينهم حامل بيرق عنيزة «عايد الصقيري». والأخير كان وقتها بحاجة ماسة إلى خشب الأثل وجريد النخل لإصلاح بيته، فأشار أحدهم عليه بطلب العون من موضي؛ كونها لا ترد صاحب طلب، لكن الرجل تردد بسبب مشاركته سابقا في نهب بعض بيوت آل البسام يوم دخول الملك عبدالعزيز إلى عنيزة وضمها في عام 1904، فشجعه أحدهم بقوله: «إن العمة موضي ذات خلق فاضل ولن تمتنع عن مساعدتك بسبب ذلك الموقف». وما حدث بعد ذلك هو أن الصقيري ذهب فعلا إلى منزل موضي على استحياء، وعندما فتحت له الخادمة طلب مقابلتها قائلا: «قولوا للعمة لا تغطى أنا بتغطى» أي قولوا لها لا تحتجب فأنا من يجب أن يحتجب، إشارة إلى خجله من عمله السابق.

قابلت موضي طلب الصقيري بأريحية، وحولته إلى مزرعتها ليأخذ كامل حاجته من خشب الأثل وجريد النخل، فأصبح يدعو لها ويشيد بها في المجالس وقال قولته المشهورة التي أصبح الكل يتناقلها «لي جاك ولد سمه موضي». وملخص القصة أنه في إحدى زيارات الملك عبدالعزيز لعنيزة تندر أحدهم بسؤال الصقيري: إذا جاك ولد ماذا تسميه؟ فرد عليه فورا «أسميه موضي»، فضحك الملك وقال: «تستاهل بنت عبدالله والنعم بها وليت النساء مثلها».

وقد استرسل الدكتور أحمد بن عبدالعزيز البسام في كتابه عن سيرة موضي معدداً مناقبها وسارداً أعمالها الجليلة فأتى على ذكر ما كانت تقوم به من أعمال عتق الرقاب. ومن أمثلتها أنها أعتقت رقبة جاريتها «مبروكة» واشترت لها منزلاً تقيم به، علما بأن الجارية قامت لاحقاً بتوقيف البيت على أعمال البر ووكلت موضي بتنفيذ ذلك. ومن أمثلتها الأخرى أنها كانت تعامل كل جواريها معاملة طيبة وتزوجهن إنْ رغبن في ذلك، فقد زوجت إحداهن من شخص تركها وسافر عنها إلى البحرين وانقطعت أخباره عنها لمدة طويلة فتألمت موضي لوضعها وحاولت التخفيف عنها من خلال شراء هدايا لها من وقت إلى آخر على أنها هدايا مرسلة من زوجها الغائب في البحرين، وهو ما أدخل السرور والفرح إلى قلب الزوجة ومنحها الأمل في قرب رجوع بعلها.

ورغم تقدمها في السن، إلا أن موضي استمرت في رعاية المحتاجين والفقراء إلى أن انتقلت إلى جوار ربها في عام 1944م عن عمر تجاوز التسعين. وقد قدر الله لها أن تعيش لرؤية حفيديها عبدالرحمن وحمد ابني ولدها إبراهيم. وقد تركت خلفها بعد وفاتها وصيتها بضرورة تنفيذ عدد من مشاريع الخير والبر والإحسان ومنها: تسبيل ثلاثة قدور كبيرة لانتفاع المحتاجين منها، وعشاء للفقراء في كل جمعة من جُمع رمضان، وقربة ماء تخرج كل سنة في الصيف، وعتق رقاب عدد من جواريها، وغير ذلك.