ثقافة وفن

لاروشيل (مدينة الطفولة الثانية)

مدينة لاروشيل الفرنسية.

د. علي عتيق المالكي

بعد أن أنهيت دراستي للماجستير، كنت أطمح أن أكمل المشوار في إحدى الدول العربية، ولكن القدر كان يخبئ لي طريقاً آخر لم أكن أنتظره، حيث ذهبت إلى فرنسا في بداية شهر نوفمبر من عام 2006، وكنت حينها قد بدأت للتو العقد الثالث من عمري، وكنت أحمل في عقلي صوراً نمطية عن مدينة النور، وشيئاً من التاريخ تزوّدت به قبيل السفر، وكانت لغتي الإنجليزية في مستوى متواضع في بلدٍ يعتزّ كثيراً بلغته وثقافته. نعم كانت مغامرة! أجهل كل ما كان ينتظرني في بحرها، ولكنني سلمت نفسي طائعاً لأمواجها التي حملتني إلى محيطها الأطلسي..

كان من المفترض أن أبدأ دراستي للغة الفرنسية في باريس بحسب التسجيل الذي حصلت عليه من الملحقية الثقافية السعودية لإتمام إجراءات التأشيرة، ولكن جاءت لحظة التغيير من خلال الصديق العزيز الدكتور عبد الله الخطيب، الذي وصل باريس قبلي بأشهر قليلة ليشغل منصب الملحق الثقافي. أتذكّر حتى الآن كلماته لي حين أخبرني أنه لكي أتعلّم الفرنسية يجب عليّ أن أبتعد عن باريس، فالعواصم ليست المكان المناسب لتعلّم لغة البلد، وأضواء باريس المتداخلة من شأنها أن تصرفني عن امتلاك المصباح الأساسي الذي أحتاج إليه في مسيرتي العلمية ألا وهو اللغة. وهكذا حزمت حقيبة حلمي وطموحي إلى مدينةٍ لم أسمع بها من قبل وأجهل تماماً موقعها الجغرافي على خريطة فرنسا، كان أقصى ما عرفته حينها أنها مدينة ساحلية اسمها (لاروشيل) LA ROCHELLE، تقع على المحيط الأطلسي. لا أخفيكم أنّ معرفتي بوجود البحر قد بنت أولى جسور التواصل النفسي بيني وبين هذه المدينة، وهنا بدأت مرحلة أخرى في الرحلة، كانت مغامرة جديدة داخل المغامرة الكبرى.

تقع (لاروشيل) في غرب فرنسا، وهي تماثل في موقعها مدينة جدّة على البحر الأحمر، يُقال إنّ اسمها مستمدّ من ROCH وهي تعني الصخرة الصغيرة، ولعل من أقدم النصوص التي أتت على ذكرها في المدونة الأدبية الفرنسية كانت رواية (الفرسان الثلاثة) لألكسندر دوما، حين تحدّث عن حصار الوزير ريشيليو لها، وهذا الحصار لم يكن من نسج الخيال، فخلال الحروب الدينية التي مزّقت فرنسا في الفترة من عام 1562 حتى عام 1598 كانت (لاروشيل) مدينة معروفة بأنها بروتستانية، وقد انطلقت الجيوش الكاثوليكية لمحاصرتها في عام 1573، وعاد الوزير ريشيليو لمحاصرتها في عام1627، ودخلها لويس الثالث عشر بعد ذلك بعام. قبل ذلك التاريخ بنحو 20 سنة وفي عام 1608 هربت مجموعة من سكانها عبر المحيط ووصلت إلى كندا وأسست ما أصبح يُعرف حالياً بمقاطعة الكيبك، وهي أساس الثقافة الفرنسية هناك، وقد تم الاحتفال بمرور 400 عام على هذه الرحلة في عام 2008.

مدينة (لاروشيل) متوسطة المساحة وتحيط بها القرى الصغيرة من جميع أطرافها، ونجد في شمالها جزيرة (دوريه) السياحية التي تضم مجموعة من القرى ويربطها بالأرض حبلٌ سري على شكل جسر طوله 3 كيلومترات حديث البناء، وهي ليست الجزيرة الوحيدة بل هناك كذلك جزيرة (دو أوليغورن)، بالإضافة إلى السجن القديم في المحيط (فورت بويارد)، الذي أصبح مسرحاً لبرنامج مسابقات تلفزيوني منذ سنوات. وفي الجنوب من المدينة تقع بلدة (شاتي ليون) المعروفة بشاطئها الأنيق. وهناك رواية تقول: إنّ اسمها جاء من بعض العرب الذين عبروا من خلالها ووصلوا إلى تخوم مدينة (بواتييه)، وقد لاحظوا جمال عيون نساء هذه البلدة، فأسموها (شاطئ العيون)، وعبر الزمن تحرّف الاسم وأصبح (شاتي ليون).

أبرز مكان في (لاروشيل) هو الميناء القديم LE VIEUX PORT، حيث هناك الملتقى الدائم للسكّان وللزوار وللسيّاح وللطلاّب، ولكن أبرز قاطنيه هو طائر النورس الذي يضفي حضوره على المكان لمسة موسيقية خاصة. يعجّ المكان بالمقاهي والمطاعم والحانات، فيمكن للزبائن تناول الشراب والطعام وهم يستمتعون بالمنظر الأخّاذ للبرجين اللذين تجاوز عمرهما الـ600 عام. وخلف المقاهي يقبع السوق القديم حيث تشتهر (لاروشيل) بالملح والأسماك وباقي المأكولات البحرية وخاصة المحار وبحلوى الكراميل، وليس ببعيد عن السوق يقع المركز الرئيس لانطلاق الحافلات وهي وسيلة المواصلات العامة الوحيدة، فهو قلب المدينة الذي تجتمع فيه شرايين الحركة التي تبدأ السادسة صباحاً وتتوقف الثامنة مساءً. ولعل هذا ما حدا بعدد من السكان وخاصةً الشباب باستخدام الدراجات حتى تكون لهم حرية الحركة خاصةً في الليل، ولأنها تمنحهم كذلك فرصة لممارسة الرياضة، فلا يكاد يخلو منها منزلٌ في المدينة. ويقع على الجانب الآخر من المدينة ثالث أكبر حوض أسماك في القارة الأوروبية وهو مقصدٌ سياحي هام.

المدينة تستقبل كذلك أعدادا كبيرة من السيّاح على مختلف فصول السنة الذين يقصدون بحرها وشواطئها ومعالمها التاريخية، وهو ما يجعل منها مدينة تعجّ بالحركة على مدار العام. وفي الصيف تتناثر مهرجانات مختلفة لعل من أبرزها مهرجان الفرانكفولي الذي يجمع ما بين العروض السينمائية والمسرحية والغنائية لفنانين من الدول الفرانكفونية المختلفة خلال شهر يوليو من كل عام، وهي الفترة التي ربما من المستحيل فيها الحصول على غرفة شاغرة في أي فندق إن لم يكن الشخص لديه حجزٌ مبكر في إحداها.

كانت دراستي للغة في معهد تجاري في حي المينيم LES MINIMES الحديث نسبياً، وكان يضم جزءاً خاصاً بتعليم اللغات المختلفة ومنها اللغة العربية، توقعت في بداية الدراسة أن نقضي أسبوعا أو أسبوعين في دراسة الحروف والأرقام ثم الضمائر أي طريقة التدريس الكلاسيكية، ولكنني تفاجأت أننا بدأنا بالمحادثات المباشرة، كنا جميعنا من السعوديين، وهو الأمر الذي كان له أثرٌ إيجابي محدود من خلال تسهيل عملية الشرح لبعضنا البعض، وآخر سلبي ملحوظ تمثّل في تعطيل عملية التواصل والاتصال باللغة بسبب انشغال البعض بالتواصل باللغة الأم، وكان لا بد حينها من المجازفة بالوحدة على التجمعات التي كان ضررها أكثر من نفعها، وتفرغت حينها للذهاب للدراسة بالمكتبة الرئيسية في المدينة بالإضافة إلى محاولة تكوين صداقات مع الفرنسيين، وهو الأمر الذي لم يكن بالهين خاصةً في بدايته. وقد بلغ بي الأمر أن سافرت بعد شهر من وصولي إلى (لاروشيل) في رحلة طلابية إلى أمستردام، في وقت لم أكن أعرف اللغة الفرنسية جيدا وفقدت حصيلتي المتواضعة من اللغة الإنجليزية، وهو ما سهّل عليّ بعد ذلك عقد صداقات مختلفة مع طلاّب من جنسيّات مختلفة.

أمّا في ما يتعلّق بالسكن فقد سكنت لدى سيدة عجوز تجاوزت الستين من عمرها تدعى (كريستين)، فاجأتني بأنها ما زالت تحتفظ بدفاترها وهي في المرحلة الابتدائية وخاصة كراسات الرسم، وكذلك صورها وصور والديها، وأنا بالكاد أحتفظ بصورة لي من الصف الخامس الابتدائي لأنها كانت موجودة على الملف الدراسي. كانت كريستين من المدافعات دوماً عن حقوق المرأة، وكانت مؤمنة باستقلاليتها، كانت فعلاً تمثيلاً حياً لأفكار فترة الستينات والسبعينات التي تبنتها شخصيات ثقافية من أبرزهن سيمون دو بيفوار، وكانت كريستين كذلك من المتمسكات بالثقافة والتقاليد الفرنسية.

في جامعة (لاروشيل) التي تضمّ كليات خاصة بالعلوم الإنسانية والطب والحقوق درست فصلاً دراسياً من أجل تطوير لغتي الفرنسية – التي ما زالت وستظل في حالة تحديث مستمر – وكنت أحضر بعض محاضرات الأدب كطالب مستمع، وكم استغربت من همّة الطلاب ومثابرتهم، ففي حين كنا نتذمر ونحن في الجامعة من بحث صغير مكوّن من بضع صفحات، كنت أرى الأستاذ يكلّف الطلاب ببحث طويل ومعقّد يعتمد على مجموعة من الكتب الضخمة دون أدنى تذمر منهم، وكان البحث يقسّم عليهم على شكل جزئيات ومجموعات، وتتم مناقشته علناً أثناء المحاضرات.

كنت وما زلت أزور (لاروشيل) كل عام تقريباً، وفي إحدى المرات سألني أحد أساتذتي في جامعتها عن سبب تكرار زيارتي لها رغم أن علاقتي الدراسية بها قد انتهت، فقلت له: أتيتُ إلى هذه المدينة ولم أكن أعرف شيئاً عن فرنسا ولا عن العالم الغربي سوى بعض المعلومات السطحية، ولكنني هنا تعلمت اللغة كأداة تواصل مع الناس ومع الثقافة ومع الحياة بشكل عام، وتعرّفت من خلالها كذلك على ثقافات أخرى مع الطلبة الذين أتوا من زوايا العالم المختلفة، واكتشفت أنماطاً مختلفة للحياة وأساليب جديدة للتفكير ورؤية الواقع. كل هذا يجعلني أرى أنّ (لاروشيل) ليست مجرّد مدينة درست بها! بل هي مدينة طفولة ثانية! فهي لم تعلمني اللغة فقط، بل علمتني الحياة بأشكال جديدة لم أكن لأحصل عليها حتى لو قرأت آلاف الكتب. كانت (لاروشيل) فعلاً ولادة جديدة فتحت لي آفاقاً من الرؤية المتعددة لهذا العالم.