ثقافة وفن

محمد جعفري يودع الأصدقاء والألم ويسكن ذاكرة القلوب

الجميل الذي رحل وهو يحلم بإعادة المسرح المدرسي

الراحل محمد جعفري رحمه الله.

«عكاظ» (جازان) Okaz_Online@

لأنه لا يشبه سوى قرية الخضراء التي بدأ بها مسيرته العملية، صنع محمد إبراهيم جعفري، الذي رحل عن عالمنا قبل أيام، ملحمة إنسانية، تجسد على أرض الواقع معنى التشبث بالحياة ومحبة الجمال.

محمد الذي يمكن اعتباره زمانياً من مواليد مدينة ضمد عام ١٩٧١ ومكانياً في بلدة ضمد، فإنه كائن إنساني خارج أطر الجغرافيا والتاريخ والزمان، وذلك بشهادة الجميع. التحق بابتدائية الملك فيصل في العام ١٩٧٨، وفي عام ١٩٨٤ التحق بالمعهد العلمي في ضمد، وبعدها مباشرة بعد 6 سنوات من الركض تخرج من المعهد العلمي سنة ١٩٩٠ متوجهاً إلى جامعة الملك سعود لدراسة تخصص علم النفس، ولكنه لم يكمل المشوار وتوجه بعدها مباشرة عام ١٩٩١ إلى جامعة أم القرى بمكة المكرمة متخصصاً في اللغة العربية والتي حصل منها على شهادة البكالوريوس سنة ١٩٩٥. وبعدها بأقل من عام أي في سنة ١٩٩٦ التحق بوزارة المعارف معلماً في قرية الخضراء، ليمضي هناك ١٠ سنوات من الشغف انتقل بعدها عام ٢٠٠٥ إلى مسقط رأسه ضمد معلماً في متوسطة أحمد بن حنبل وبعدها بسنتين وتحديداً عام ٢٠٠٧ كلف بالعمل وكيلاً لشؤون الطلاب في مدرسة أحمد بن حنبل. ثم بعد ذلك عام ٢٠١١ كلف بالعمل مشرفاً للنشاط في إدارة تعليم صبيا حتى رحيله المفجع. أما سيرة محمد الإنسانية – المرضية فهي أكثر أسطورية ففي عام ٢٠١٣ بدأت رحلته مع السرطان إلى أن تولاه الله بواسع رحمته يوم الاثنين الموافق ٢١ سبتمبر من العام 2020، ولكنه خلالها لم يرتهن للوهن والوجع بل صنع خلالها الكثير عندما أشرف على العديد من الأوبريتات التابعة لإدارة تعليم صبيا كمخرج منفذ حتى تم تكريمه من وزارة التعليم لقاء ما يقوم به من جهود تطويرية.

والجانب الأثير في شخصية محمد جعفري هي محبته للمسرح المدرسي ولطالما كان يحلم بهزيمة السرطان، ليتفرغ لمشروعه الكبير (إعادة المسرح المدرسي للواجهة).

هنا رفاق العمر وأصدقاء الحياة يبوحون ببعض القليل من كثير محمد جعفري الإنسان ومحب الحياة والفرح والأصدقاء.. فإلى التفاصيل:

له قلبُ (قِدّيس) !

علي مكي * ali_makki2@

جازان.. ٢٢ سبتمبر.. حيّ الخالدية في محافظة (ضمد).. الساعة الثانية ظهراً.. رائحة الموت تملأ المدينة.. هذه المرة كانت الرائحة مختلفة فيها نوع أو أثرٌ من شيء يشبه القداسة، وكأنّ الراحل هو أحد الشهداء، ولعلنا نحسبه كذلك. ألم يقل نبينا الكريم محمد صلى الله عليه وسلم: «المبطونُ من أمتي شهيد» أو كما قال عليه الصلاة والسلام.

عصر الثلاثاء الماضي كنتُ في مقبرة مدينتي «ضمد» برفقة المئات الذين حضروا من كافة أنحاء منطقة جازان ومن خارجها أيضاً، كلهم جاؤوا من أجل توديع رجل عظيم أجمع كل من عرفه على محبته وطيبته وصدقه وروحه الواسعة الكريمة ونبله الذي لا يُحدّ، فليس لنبل «أبي وسام» نهاية أبداً لأنه مفتوحٌ على البذل والعطاء والسخاء وألق النور الذي يشعّ من ابتسامته الصافية كمياه النبع الكريم.

بعد وصول جثمانه الكريم إلى المقبرة سمعت أحدهم يقول لشخص مجاور له «أسكن بالقرب من هذا المكان منذ عشر سنوات، لم أر يوماً جنازة بمثل هذا الجمع اللافت حتى قبل (كورونا)! ووجدتني أتدخل وأزرع نفسي بينهما قائلاً: إنه «محمد»! ومن هو مثل «محمد جعفري» إنساناً وأخاً وصديقاً وصاحباً تُشترى رفقته وتُمنح من أجلها كل الأسباب، بمنتهى الرضا والطمأنينة والراحة، مهما علا وبلغ شأنها؟

وكنتُ قبيل دفنه قد ألقيتُ عليه النظرة الأخيرة وهو مسجىً مثل فارس وطني عظيم حارب وقاتل «السرطان» بشراسة تقطرُ صبراً ورضا وبسالة لا تخلو من حبّ الحياة بكل موجوداتها المفتوحة على التعدد والتنوع حتى في آلامها وإحباطاتها وإنكساراتها. كان «أبو وسام» سيداً وعلامة فارقة في تقبل كل ذلك مجاهداً ومتمسكاً بالأمل وقاهراً لليأس بكل أرتاله وأسلحته الخبيثة التي لم تسلبه، لحظةً أو هنيهة، نقاء سريرته.. ولم تغلق لقلبه، الناصع كالوردة، باباً أو شرفة يدخل منها كل من عرفهم وعرفوه ليغتسلوا في هذا المحيط الطاهر، كأنما كان له قلب قِدّيس وروح (صوفية) لا تغربُ إشراقتها المتجددة ولا يزول لمعانها الأصيل! ووجدتُ وجهه المسافر في نواحي الأبدية يضيءُ ويتلو كل آيات هذا القبس النورانيّ الذي يسكنُ داخله الشفيف مثل (فُلٍّ) يعبقُ برائحة المسك في روحه كليلِ (صبيا)!

رحمك الله يا صديقي وجبر مصابنا في رحيلك، ونحن الذين «وُلدنا لنتدرّب على اللعب البريء بالكلمات. ولم نكترث للموت الذي تَدقّه النساء الجميلات، كحبة جوز، بكعوب أحذيتهن العالية». ومثلما قال الراحل محمود درويش مؤبناً صديقه الراحل ممدوح عدوان، رحمهما الله، أخاطبك يا أجمل الأصدقاء وأنبلهم وأكرمهم يا راحلنا العظيم: يا أيها الجعفريّ، أيها المتعالي على التعالي، أيها العالي من فرط ما انحنيتَ بانضباط (عاشق) أمام (رديمة فُلّ)! فإلى الهناء الأبديّ المستدام في جنة الخالق الكريم تحفك رحمته ورضوانه وأُنسُ القرب من جلاله الكبير!

* كاتب وصحافي سعودي

الرجل المقاتل

الحُسين معافا * alhussainmoafa@

أمثال «محمد جعفري» لا يودَّعون يوم صعودهم إلى الرفيق الأعلى، بل يستقبَلون شأن الصالحين، لأنهم أبد الدهر خالدون وفي ضمائر الأجيال يسكنون.

ما أن تلمح ذاكرتي أبا وسام إلاّ وأراه مبتسماً مصافحاً شخصاً ما بحب ونقاوة، هذا الرجل المحمل بتعب الإنسان ومكابدته منذُ اللحظة الأولى التي خطا فيها نحو العيش إلى التفاتته الأخيرة، كان ينتزع سعادته وفرحه من الحياة انتزاعاً، عاش يصطاد الفرح بالأصدقاء والحب ومطاردة الشغف والسفر والقراءة ومساعدة المتعثرين والموهوبين، صانعا للبهجة، كريماً إلى حد الإحراج والخجل، كلما خفتت داخل رجل شمعة أمل أشعل بحكمته عشرات الشموع، لم يستسلم للمرض ولا لوخزات الإبر والمسكنات، قاتل حتى ساعاته الأخيرة، كان يمضي تجاه نور إلهي، معلقاً بحبل المشيئة والرضا، قانعاً ومتمسكاً وراضياً.

زوجته آمنة بنت محمد التي ظلت وستظل كفاً ممتدة بلا نهاية لأسرتها، دائماً ما يشعرها أن «النساء نجوم تضيء وتنطفئ وهي السماء» وقفا جنباً إلى جنب في أشد المآزق وأكثرها قساوة ووجعاً، فلا أحد يستطيع أن يقيس وجع غيره، لكن الجميع كانوا قادرين أن يشيروا نحو من هو أكثر ألماً.

دائماً ما يحضر أبو وسام مع الناس أفراحهم وأحزانهم وهو في شدة مرضه ووجعه، يخرج متوشحاً روحه وملامحه محفوفاً بتلك الابتسامة التي يعرفها الجميع، طاوياً وجعه داخله، كلما وخزه ألم من جسده أخفاه عن العالم ومضى، لم يكن سبب حضوره سيارته التي كان يقودها مضطراً ومتحاملاً ولا الصحبة والرفاق، إنما الحب فقط الذي كان يوصله.. رحمك الله يا أبا وسام.

* شاعر سعودي

ورقة ذات بهاء باذخ

إبراهيم زولي * izooli@

الراحل محمد جعفري من الأسماء القليلة في منطقة جازان التي عشقت المسرح باكراً. كنت أزوره في منزله ونحن في المرحلة المتوسطة أواسط الثمانينات من القرن الماضي، كان يقيم مسرحاً من إحدى غرف البيت، ويصنع لها ستارة، ويدعو أترابه وأصدقاءه من أبناء الحارة ليمثلوا معه.

محمد، كان أحد نجوم المسرح المدرسي خلال المرحلة الابتدائية بالمدرسة الفيصلية في ضمد، عندما كان النشاط الطلابي والمسرح المدرسي في أزهى مراحله. كانت تقام الحفلات الختامية آنذاك بمصاحبة آلة العود ويشارك بها فنانون أمثال صالح خيري وطلال جبلي، ثم انتكست الأوضاع عقب ذلك لأسباب لم يعد يجهلها أحد.

الأستاذ محمد جعفري، كان يقوم بتأليف الأعمال، ويخرجها، ويمثّل بعض أدوارها، ثمّ تطوّر هذا الهوس بالمسرح إلى الجامعة، فكان يصنع من غرفته في السكن الجامعي مسرحاً، ويستضيف جيرانه من الغرف الأخرى، ليشاركوه هذا العشق.

تمّ تعيينه فيما بعد مشرفاً للنشاط المسرحي في إدارة تعليم صبيا، حيث قام بإخراج عدة مسرحيات شاركت في المهرجان الوطني للتراث والثقافة، الجنادرية، وبعضها في وزارة التعليم بالرياض، ممثّلة لمنطقة صبيا التعليمية.

وقبل عدة سنوات، خاض الراحل محمد، حرباً لا هوادة فيها، مع داء شرس وخبيث، داء، لم يكن يملك لمواجهته غير إيمانه وأمله بالله، وإرادته التي انتصرت في عدة مواجهات له مع هذا المرض.

خلال الأشهر الأولى من إصابته أجريت له عملية في مستشفى الملك فيصل التخصصي استمرت زهاء سبع ساعات، وفي اليوم التالي أفاق بابتسامة ندية أمام وجوه مرافقيه، وقام بالاتصال على بعض أصدقائه ليطمئنهم على صحته.

لله ما أجملك يا صديقي، حتى في تلك الساعات الحرجة كنت تعلّم محبيك معنى الشجاعة والصبر، أيّة قوة كنت تدرع بها يومذاك غير ثقتك بالله، وإرادتك التي لم أكن أتصوّر أن لها كل هذا البهاء، البهاء الذي ينشر ضياءه على الغرباء قبل ذوي القربى والأصدقاء. كنت تعلّمنا، دون ضجيج وجلبة، أن الحياة لا تفرّط في محبيها، وأنت كنت واحداً من عشاقها الكبار.

الكثيرون من مريديك، وأنا أولهم، لقّنتهم، كلماتك الحسنی؛ أن من أحب الحياة، حتما، ستبادله الحياة حباً بحب وشوقاً بشوق وجمالاً بجمال أزهى.

سلام عليك يا حبيبي وسندي.

سلام عليك حيث أنت الآن تتنزه في أعالي السماوت، وتمدد قامتك بين سهوب الحياة الآخرة، تتنزه سليماً معافى، دون جرعات كيماوية، ودون ألم كان يفتك بجسدك ولا نرى على ملامحك غير الابتسامة، والوجه البشوش.

بغيابك يا محمد تسقط ورقة ذات بهاء باذخ من شجرة العمر، بغيابك يا أجمل الأصدقاء، يا أيها المضيء كالفرائض والنذور، أقف عارياً أمام الخرائب، وحيداً في مواجهة مرارة الفقد، لا أصدق أنني لن أصافحك مرة أخرى، ولن نحزم حقائبنا سوياً للسفر، غير أن ما أصدقه وأؤمن به أن عربات النسيان لن تمحو وجهك من ذاكرتي، ولن تسكت عواصف الليل صدى ضحكتك وكلماتك، وستظل خطواتك تتوسط شارع قلبي.

فلنرفع أكفّنا للسماء، ونلهج بصوت واحد: يا الله، اغفر لمحمد، وأسكنه الفردوس الأعلى مع الصديقين والشهداء وحسن أولئك رفيقا.

* شاعر سعودي

زيارة أخيرة وضيافة لن تتم

وائل سعيد *

لم يعجبني تجهمك في أول مرة تقابلنا، كنت مستاءً على حسب ما بدا لي استياء غير مبرر. في المرة التالية، لم يبدُ على ملامحك أدنى أثر لجهامة، ابتسامتك الطفولية كانت بالفعل تملأ وجهك، وتفاجأت بأنك ستغادر القاهرة صباح الغد، فقد انتهت الأيام السبعة، مدة إجازتك.

معظم زيارتك للقاهرة لم تتجاوز الأسبوع، في زيارتك الأخيرة، تصادف أني كنت في الإسكندرية بأحد المهرجانات كنا نستعد للعام الجديد، ما حال دون لقائنا. «على فكرة» أتذكر جيدا عدم ارتياحك للرقم 2020 لم تفصح عما شعرت به وقتها ونحن نستبشر خيرا بالعام المميز، كم كنت على حق يا أبا وسام!

فيما بعد، عرفت من زولي بعلتك، وعرفت سبب تجهمك الذي أسأت الظن به في البداية، كانت إحدى النوبات الشرسة قد ألمت بك. ما علينا، ستسألني طبعاً عن الرواية، أعتذر منك يا صديقي، الحكاية التي انتهيت منها لم تنته مني بعد، ما لبث أن انفتح النص على مصراعيه. أظنك تتذكر جيداً يوم زيارتنا لمسرح أحداث الرواية في ذلك المقهى التاريخي بوسط البلد، كم كنت سعيداً جداً حين أعجبك ما نشر منها لدرجة رغبتك في زيارة المكان.

نحن متعادلان إذاً، أنا لم أنته من روايتي، وأنت لن تستقبلني كما وعدتني حين لم يتح لنا مقابلة أخيرة. أما الآن، فأنت أدرى مني بما ألم بنا جميعاً، لزمنا جحورنا إلى أن تنكشف الغمة، وتعود الأمور لمجاريها، بوسعنا أن نتقابل تحت سماء القاهرة، أنا وزولي ومكي وكل أحبابك في انتظارك، أمامنا الشاي بالنعناع ومياه بالمورد وشيشة سالكة لن يستطيع دخانها بعد الآن، أن يؤرق صدرك.

كتب الجعفري على صفحته الشخصية في يناير من هذا العام «أن يكون لك أصدقاء، يعني أنك غني..!! –مثل لاتيني-»..

* روائي وصحافي مصري