كتاب ومقالات

غيّبته الصحوة وأرجعته الوسطية

نجيب يماني

كتب الأستاذ مشعل السديري «الشرق الأوسط» عن فضيلة الستر وأهميته في حياة الفرد والمجتمع. وهي فضيلة إسلامية غُيّبت 30 عاماً من حياتنا بفعل الصحوة مع غيرها من الفضائل الإسلامية الأخرى، كان سدنتها والقائمون عليها يبحثون عن الفضائح ويتشممون أخبارها ويأخذون الناس بالشبهات دون تحوّط أو خوف من الله، وكانوا يتباهون بفضح الناس ومطاردتهم وكشف أستارهم وتضخيم عدد الفضائح والزيادة في أرقامها ونشرها في وسائل الإعلام مهما صغرت. حتى قيّض الله لهذا الوطن من أعاد للإسلام وسطيته وللمجتمع أمنه وأمانه. وأعلنها الأمير محمد «نريد أن نعيش حياة طبيعية.. حياة تترجم ديننا السمح وعاداتنا وتقاليدنا الطيبة».

من قصص الستر النبوية الجميلة هذه القصة (اختصم سعد بن أبي وقاص وعبد بن زمعة إلى رسول الله في وليد الجارية زمعة وحملها من عتبة بن أبي وقاص، فقال سعد هذا ابن خالي أوصاني بأخذه وقال عبد بن زمعة هذا أخي وُلد على فراش أبي، فقضى رسول الله بينهما بقولته المشهورة «الولد للفراش»، بمعنى أن نسب الولد يلحق صاحب الفراش، أي من كانت المرأة فراشاً له بعقد نكاح أو مِلك يمين، فقضى بالغلام أن يلحق بزمعة في النسب، وإن كان عليه الصلاة والسلام قد علم أنه ليس من زمعة بل هو ابن لعتبة حقيقة وصدقاً).

يوضّح ذلك أيضاً قوله عليه الصلاة والسلام «واحتجبي عنه يا سودة»، ومعنى ذلك أن هذا الغلام ليس بأخ لسودة حقيقة، ولذلك أمرها عليه الصلاة والسلام أن تحتجب عنه، وإن كان قد قضى أنه أخوها حكماً.

وقد ذكر (البخاري) أنه لم يرها حتّى توفيت، وهذا الحكم النبوي يوضح أهمية الستر والصون للأعراض ومنع القيل والقال وشيوع الفاحشة في المؤمنين.

فهذه الحادثة تدل على مقصد من أكبر مقاصد الشريعة في الستر والصون، ولو قضى رسول الله بغير هذا وقضى بالغلام لعتبة وهو ابنه حقيقة لانتشرت الفاحشة وشاعت.

يقول ابن تيمية في (الفتاوى)، إن الفجور أمر باطن لا يُعلم ويجب ستره لا إظهاره، كما قال رسول الله وللعاهر الحجر، وكما يُقال (بفيك الكثلب وبفيك الأثلب)، أي عليك أن تسكت عن إظهار الفجور فإن الله يبغض ذلك. ويرى أبو حنيفة بأنه لا بأس إذا زنى الرجل بالمرأة فحملت منه أن يتزوجها ويستر عليها والولد ولده، وهذا من باب الستر والصون ومنع شيوع الفاحشة وانتشار اللغط والقيل والقال ونشر المنكرات بين المسلمين، كما كان يحدث أيام الصحوة.

إن من قواعد الشريعة الإسلامية الأخذ بأسباب الستر وحمل تصرفات الناس وأحوالهم على الصلاح وحسن الظن بهم.

إن الذنب ما دام مستوراً فمصيبته على صاحبه، فالأصل براءة الذمة والصلاح وحسن الطوية، وهو الأصل في التعامل بين الناس بل هو اليقين الذي لا ينبغي لأحد من الناس أن يرفعه بالشك والظنون وهي أكثر ما تحمل في طياتها الآثام.

يقول نبي الأمة ادرأوا الحدود بالشبهات، وهذه قاعدة يتفرع عليها وجوب الأخذ بأسباب الستر والصون وحمل تصرفات الناس على الصلاح والتقوى، ولئن يخطئ المرء في الحكم بالبراءة على أحد من الناس خير له من أن يخطئ في الحكم عليه.

إن الزنا لا يتحقّق إلاّ بأربعة شهود وفي ذلك تحقيق لمعنى الستر المندوب إليه.

يقول رسول الله «من رأى عورة فسترها كان كمن أحيا موؤودة»، ويقول لهزال: «.. لو كنت سترته بثوبك..»، موضحاً نبي الرحمة أنه يُستحب لمن بيده الأمر أن يلقّن المقر الرجوع عن إقراره لقوله لماعز «لعلّك تزوجتها أو وطئتها بشبهة..»، يلقنه ما يكون ذكره دارئاً للحد، وكما قال عليه السلام للسارق الذي جِيء به إليه: أسرقت وما أخاله سرق.

مثل هذه الأحكام حفظت كرامة الإنسان وسمعته وألّفت بين قلوب المجتمع. فمن تتبع عورة مسلم توعّده الله بالفضيحة والخذلان، يقول رسول الله: «أيُّها الناس من ارتكب شيئاً من هذه القاذورات فاستتر فهو في ستر الله». كما يأمرنا عليه الصلاة والسلام بأن ندرأ الحدود بالشبهات فلأن نخطئ في العفو خيرٌ من أن نخطئ في العقوبة.

صورٌ جميلةٌ رسمها نبي الرحمة لأمته في ضرورة تحري الستر والأخذ بأسبابه وأخذ الناس باللين والرفق بدلاً من التهجّم عليهم وتتبع عوراتهم. والتعدي على حقوقهم وواجباتهم التي أقرّها الدين وكفلتها لهم الأنظمة، ولنعلم جميعاً أن الدين لا يهدمه شيء كما تهدمه قوة الغلو والتطرف والتعصب.

يقول الحق سبحانه وتعالى {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ}. وقد عمّت هذه الآية صور العفو كلها وليس في القرآن آية أجمع لمكارم الأخلاق منها. فالعفو في الزلّات والهنّات الصغيرة يسترها والعقاب يعلنها وقد يكون فيه تحريض عليها، فالعُصاة موجودون منذ عهد الرسالة، وقد ابتلي المجتمع في وقت مضى ببعض الشباب المتحمسين الذين لم يفهموا رسالة الإسلام بوضوحها الساطع فهاجموا المجتمع وأخذوا الناس بالشبهات والشدة وسوء الظن وتغافلوا عن سماحة التشريع وأبواب الستر المشرعة أمامهم.

كاتب سعودي

nyamanie@hotmail.com