ثقافة وفن

الرميحي: الخليج ليس نفطاً.. والمؤامرة شعار العاجزين

قال إن واقع الطرح الفكري الراهن لا يسر

محمد الرميحي

علي الرباعي (الكويت - هاتفياً) Al_ARobai@



يعد الدكتور محمد غانم الرميحي عالِماً من علماء الاجتماع العرب. والحوار معه يعطي صورة غير نمطية للمثقف الخليجي الملتزم بقضايا عروبته، والمبشر بالمجتمع المدني المؤنسن، وبدولة المؤسسات، والمباهي بأي استحقاق يناله مواطن أو شعب في وطنه.

لا يقطع السياقات، ولا تستخفه الشعارات، يؤمن أستاذ علم الاجتماع في جامعة الكويت بالعمل ويتفاعل مع الدراسات، ويضبط المسافة بين المثقف والصديق المُحب. درس المجتمعات، وحلل السلوكيات، وقيّم دور المؤسسات، وتصدى بشجاعة للخرافة والجمود والتقليدية، ما بين الأكاديمي ورئيس التحرير والكاتب نعيش مع روح متفائلة وعقل متفتح ونفس متسامية ومتسامحة، وإلى نص الحوار:

• بماذا تصف قراءة البعض للواقع العربي؟

•• قراءة الواقع العربي المتداولة غير موضوعية، بحكم الانحياز الأيديولوجي أو العاطفي. يطمح العربي شأن غيره من الشعوب لتطلعات واستحقاقات منها الحرية والتنمية والمشاركة السياسية، ومن الضروري أن نؤسس آليات للنقد والتطوير والتحديث من الداخل وبتوافق جميع القوى الوطنية بما فيها القوة الناعمة، للوصول بمجتمعاتنا لأرقى المواقع بين البشرية.

• ما هو ردك على المسكونين بهاجس المؤامرة؟

•• الظاهرة السياسية والاجتماعية تتولد من حراك مجتمعي وزيادة وتنامي الوعي ولا أرجح هاجس (المؤامرة)؛ كونها تفسيرات العاجزين الذين لا يقرأون ما يدور حولهم بآليات الفحص والتمحيص والمقاربات. ما يثار ناشئ عن طموحات مشروعة ومطالب حقيقية تقودها المكونات المجتمعية، ولربما تُمنى بالفشل أو تؤول إلى الصراع غير المؤطر، ولكن الدول العربية معنية بخلق قنوات لسماع صوت الناس من خلال ممثلين حقيقيين لهم.

• كيف ترى حضور الإسلام السياسي؟•• ما عزز حضوره هو إخفاق دولة المؤسسات أو غيابها، ورفض أي شكل للتعبير السلمي والثقافي والفكري الممكن والخلاق، والمنتمي لوطنه، ما أدى إلى نتائج كارثية بتنامي الجماعات المنظمة تحت الأرض وفوق الأرض والتي اتخذت من (الدِّين) شعاراً لها، وستاراً تخفي به نواياها المكشوفة والمنكشفة، والعاجزة عن مخادعتنا تحت مظلة المقدس.

• لماذا لم ننجح في التخلص من التعصب؟•• التعصب (صنو) الجهل والتجهيل، ومن لوازم تنحيته إعادة النظر في منظومة التعليم العربي، والعمل على برامج إعلام ذات مضمون تثقيفي يسهم في توعية العقل العربي، ويحول دون اختطاف الجماعات الدينية للشعوب بتفسيرات غيبية، وركوبهم موجة (القبلية والطائفية) والحاجة قائمة للدولة المدنية العادلة التي يتساوى فيها الجميع حقوقاً وواجبات، وذهاب الإعلام للترفيه الخالي من المضامين المعززة لهوية المواطن غاية في الخطورة.

• ما خطورة الأيديولوجيا على المجتمع؟

•• الشعوب تُدار بالسوسيولوجيا وليس بالطرح الأيديولوجي، نعلم أن العلاقة بيننا وبين خالقنا خاصة تضبطها وتحكمها مشاعرنا. والعلاقة بالمجتمع وبالآخرين عامة تحكمها قوانين وأنظمة وتشريعات دول، والمؤسسات الإدارية للدول تحتاج إلى استيعاب المجتمعات، وفهم العصر، ورفع شأن ومكانة العلم لتحييد (الخرافة) وتعزيز حضور دولة القانون والمواطنة.

• ما واقع علم الاجتماع في محيطنا العربي والإسلامي؟

•• علم الاجتماع العربي عالة على دراسات الغرب وترجمة ما كتب وألف، ولم يصل إلى تفسير أصيل في قراءة الظواهر الاجتماعية والسياسية والثقافية المرتبطة بتطورالمجتمع، كون الحريات الأكاديمية ضعيفة أو منعدمة في معظم الدول العربية، والتعليم في حالة ضعف. يفترض أن تكون المدرسة مصدر إشعاع وتنوير، لا فضاءً لاستقبال الضغوط الاجتماعية، والمؤسف أن (العالِم) في ثقافتنا العربية، هو الذي تحصل شيئا من (الفقه) وبعضا من (العلوم البحتة أو النظرية والتطبيقية) ولا يتبادر إلى الذهن أن العالِم هو المتضلّع من العلوم الاجتماعية والإنسانية كونها الأصل. ومع هذا الغياب الفكري لأهمية العلوم الاجتماعية، كيف لنا أن نقدم حلولا لمشكلات مجتمعاتنا دون معرفة أصيلة ودون مراكز بحوث اجتماعية تُمول من الدولة وتعمل جديا على طرح حلول مستقبلية.

• إلى أين يمضي عالمنا العربي؟

•• سؤال كبير، ومرهق، لربما تتعذر الإجابة عنه، بحكم أن الحروب خلّفت جيلاً كاملاً بلا تعليم، والشعوب غير القادرة على القراءة والكتابة مرنة في الوقوع ببراثن الحروب والنزاعات في المجتمعات العربية التي قد تتحول إلى حروب (أهلية) وبعضها (طائفية) من جهة، إضافة إلى الضغوط الاقتصادية التي ستفرز نتائج سلبية على المجتمعات، وحتى على مجتمعات الوفرة إن لم تعد ترتيب نفسها منذ الآن، وليتنا نعزز مساحات السؤال والتفكير ونكتفي من التلقين الذي أفضى بنا للتكفير.

• هل يمكن القول بأن لدينا مفكرين؟

•• أخشى من الإجابة بنعم أو لا. واقع الطرح الفكري الراهن لا يسر، بحكم غياب الحريات بمعناها العام ولذا لا نستطيع الجزم بتوفر نتاج فكري، وكثير من المبدعين والمبدعات العرب يقدمون طرحاً فكرياً مستنيراً خارج (السور العربي) وبعض الجهات والمؤسسات العربية تقدم بعضا من الفكر، ولكن لم نشهد إلا ترجمات وليست أعمالا أصيلة وإن توفرت فهي قليلة، ومعظم ما يتم نشره من كتب لا يتجاوز التراث إلا قليلا، والقليل منها يبحث الفكري، المحكوم بشعار (منعته الرقابة) التي ما زالت ملازمة لنا حتى بعد كل هذه الثورة التقنية.

• ما مآل «داعش» وأخواتها؟

•• «داعش» هي من ردات الفعل على التثقيف والتوعية الحضارية بدين الإسلام، والتغذية الراجعة بالتراث المشوب بكثير من الدس والمخاطر، زد على ذلك ظروفا إقليمية ضاغطة مثل التدخل الإيراني في المنطقة. وهناك من قرأ ظاهرة «داعش» و«القاعدة» قراءة سياسية محضة، وهي تحتاج إلى قراءة اجتماعية، سياسية ولم يتم ذلك حتى الآن. والحديث عنها باعتبارها نتيجة لعبة سياسية مؤامراتية أراه خارج التحليل المنطقي. لقد دخل بعضنا في الصراع في أفغانستان (بعد الاحتلال السوفيتي) دون إستراتيجية خروج، وشجعت بعض الدول على ذلك الدخول، فكانت النتيجة ارتداد الوقود إليها وعليها، ذلك أمر يحتاج إلى نقاش مطوّل ومطور، وإلى إعمال فكر في جماعات الإسلام السياسي كونها أنتجت في نهاية المطاف «القاعدة وداعش وأخواتها» وليس ببعيد استنساخ نماذج أشد وأبشع.

• أين بلغ الصراع بين الحداثة والتقليدية؟

•• الصراع بين (العقل الديني والحداثي) نتاج عراك طويل وتبني أيديولوجية تغري أربابها بالصراع على السلطة، وبحكم أن الدولة العربية الحديثة إثر الحرب العالمية الثانية لم تتحول إلى دولة مدنية حديثة وعادلة، فكان هذا الصراع. العقل الديني تجمد سياسيا عند تجارب تاريخية ضاربة في القيدومة، ولم تتهيأ له فرص النقد الموضوعي من داخله، وفشل العقل الحداثي في استيعاب أهمية الدين في المجتمع، وبسبب غياب ساحة حرة للنقاش والتفاعل، تمترست كل جماعة (بمدافعها الثقيلة) من جهة، وتمسك القلق على هويته بالجمود ولو كان يؤدي إلى التخلف من جهة مقابلة، وتدخلت بعض الدول في إذكاء هذا الصراع، والميل إلى هذا الجانب، وإلى ذلك الجانب بحسب ظروف المراحل.

• متى يمكننا الانتصار للتجديد المفيد؟

•• حين نأمن، وينتهي الخوف، قال لي (جورج طرابيشي) في باريس «لو كنت مسلما لاستطعتُ أن أكتب بعمق أكثر ولكني مسيحي وخشيت أن يخطئ البعض فهمي». هذا التخوف من مفكر (كمثال) يدلُ على غياب حرية التفكير والتعبير في الفضاء العربي الثقافي، والروائي أمين معلوف قال «لو بقيت في لبنان لما استطعت أن أكتب كلَ ما كتبت»، ونحن نتحدث عن لبنان التي تتمتع بسقفِ معقول من الحريات، فما ظنك بالآخرين.

• لماذا تورط مثقفون في الطرح السياسي؟

•• المثقف شخصية اعتبارية ناقدة يلفت انتباه القوى المجتمعية إلى ما يراه خطأ ويدلل عليه ويحذر منه، وليس مطلوبا منه أن يكون سياسيا لأنه لن ينجح وربما فقد قيمته الثقافية، لكن لا مانع من كون المثقف له موقف ورأي يعبّر عنه إن أُتيحت له فرصة ولم يسئ أو يخالف نظام وطنه.

• هناك من يسأل عالم الاجتماع عن الحل؟

•• علينا إعادة النظر في دور (المدرسة)، فمنذ عقود بعيدة كانت المدرسة مصدر إشعاع نسبي، وغدت اليوم مكان استقطاب لمشكلات المجتمع، ليست هناك جدية كافية في الاهتمام بنوعية التعليم، لدينا آلاف الصفحات عن خبرة عدد من دول العالم التي وظفت التعليم لتطوير (رأس المال البشري الوطني) فيما نعاني (شكلية) التعليم في مجتمعاتنا في ظل تفشي الشهادات المزورة، وربط الشهادة بالوظيفة إلى آخر أمراض التعليم، وفرض التعليم المنفصل بين الطلاب والطالبات، وسطحية بعض المعلمين وتدني أجورهم. وللعلم فإن تفوّق المجتمعات من تفوّق التعليم وعوار المجتمع من عوار التعليم.

• متى يمكننا الاستفادة من التراث؟

•• علينا أن (نغربل التراث) ونعيد الزيارة إليه، والتمييز بدقة بين تراثين أحدهما أصيل ومثبت للشخصية القومية، والهوية الوطنية، وآخر خادع ومُعَوِّق كونه ركام ممارسات خاطئة، تستمد كينونتها وأهميتها المضللة من القبول بها واستمراء البعض لها. علينا إعادة دراسة التراث العربي والإسلامي، وقبول العقلي منه ونقد اللاعقلي (وهو كثير) والأخذ بعين الاعتبار مسألة (تغير الزمن)، لا يمكننا أن نعيش تطورات القرن الـ21 بعقلية الماضي وطريقته في حل المشكلات.

• هل من إشكالات تهدد الهوية الوطنية؟

•• إشكالية الهوية في نظري هي إشكالية مفتعلة تطورت مع تشعب (الفكر الإسلامي السياسي)، لست مع قول (لدينا خصوصية)، فهذا مناف للمنطق الإنساني لأن كل البشر متساوون، ونحن نلتقي مع البشرية جمعاء، ومن الطبيعي أن نتفاعل معها. فالخلاف هنا لم يعد دينيا أو عرقيا بل مصالح متبادلة. فالهوية لها مدلولها المكاني بما في ذلك داخل الدولة الواحدة، والاختلاف اختلاف في هامش ثقافي طبيعي متاح للجميع.

• من سيحقق حلم الوحدة العربية؟

•• التنافس في تقديم نموذج حضاري للدولة الوطنية العادلة، بوجه ناصع، وهذه الدولة العربية يمكن لها أن تتعاون مع بقية الدول وتستفيد من التجارب وتعزز المصالح بعيدا عن القمع والاستحواذ والتسلط.

• ماذا نحتاج خليجياً؟

•• التحرر من الضغوط الاجتماعية والبيروقراطية، وإعادة النظر في منطلقات وآليات الاتحاد.

• ما انطباعك عن الإصلاحات والتغيرات الثقافية والاجتماعية في المملكة؟

•• أنا متفائل بما يحدث في السعودية من تطور، وأزعم أن التراكم الكمي الذي حصل في السعودية من تعليم، وإدارة، واقتصاد، يتحول اليوم إلى تراكم كيفي، هناك تحولات اجتماعية حميدة ومستحقة.

• هل ما زلت على قناعتك بأن الخليج ليس نفطاً؟

•• عنيت بكتابي (الخليج ليس نفطا)، أننا مجتمعات بشرية، كانوا أهلنا قبل النفط، وكنا بعد، وسيبقى أولادنا وأحفادنا، وشرحت في الكتاب صعود الحداثة في الخليج والتوازن الذي تم بينها وبين الواقع المحافظ، على أنها تجربة يمكن النظر إليها من خلال التحول (الحميد) تحت ظروف عالية المخاطر.

• بماذا تحلم اليوم؟

•• إصلاح التعليم بجدية حقيقية وتغليب لغة الفكر والعقل واختيار القيادات الثقافية الحقيقية والمفيدة والفاعلة في طبيعة إنتاجها الإبداعي وتنقية المجتمع من الخرافة التراثية والاجتماعية بل وحتى السياسية.