جنان بن سلامة أول خليجية تحاضر في «السوربون»
الأحد / 08 / ربيع الأول / 1442 هـ الاحد 25 أكتوبر 2020 01:20
بقلم: د. عبدالله المدني - أستاذ العلاقات الدولية في مملكة البحرين abu_taymour@
المملكة العربية السعودية وشقيقتها دولة الكويت كانتا الدولتين الخليجيتين الوحيدتين اللتين أدخلتا اللغة الفرنسية ضمن مناهج التعليم العام كلغة ثانية تدرّس بدءا من المرحلة الثانوية. وعلى حين واصلت الكويت تدريس الفرنسية لطلبتها، فإن السعودية توقفت عن ذلك في عام 1970؛ بمعنى أن طلبة العام الدراسي 1969/ 1970 كانت آخر دفعة تتعلم هذه اللغة الجميلة. وبطبيعة الحال فإن طلاب تلك الحقبة ممن ذهبوا لإكمال تعليمهم الجامعي في فرنسا كانت الأمور ممهدة أمامهم بصورة أفضل من خريجي الثانوية الذين التحقوا بالجامعات الفرنسية في الثمانينات وما بعدها، لأنهم على الأقل كانوا ملمين بمبادئ اللغة والكثير من مفرداتها وعباراتها المتداولة.
وبحكم دراستي المرحلة الثانوية في السعودية، أتذكر أن الكتاب الفرنسي المقرر كان عبارة عن قصة عائلة «فينسان» الكندية التي يُنقل عمل ربها من مقاطعة كويبك (حيث اللغة الدارجة هي الفرنسية) إلى باريس، فيبدأ الرجل عملية السفر مع عائلته الصغيرة بكل ما يتضمنها من إجراءات الحجز والوصول والمرور بمكاتب الجوازات والجمارك، ثم التعرف على معالم العاصمة الفرنسية، فالبحث عن سكن مناسب وتأثيثه وشراء الحاجات التموينية من الأسواق والمتاجر المتخصصة، وصولا إلى البحث عن مصبغة لغسيل ملابسه وصالون حلاقة لقص شعره وصالة عرض سينمائية للترفيه عن أسرته، ومكتبة لشراء الصحف والمجلات والكتب، والذهاب في جولات إلى الريف، وغير ذلك. وفي كل هذه التنقلات كان الطالب يتعرف شيئا فشيئا على المزيد من المفردات والصيغ والعبارات وكيفية تصريف الأفعال.
شخصيا استفدت كثيرا من هذا الكتاب وعشقت من خلاله الفرنسية، قبل أن أعزز ما تعلمته من خلال الالتحاق بالكورسات الاختيارية الجامعية والتردد الدائم على صالات عرض الأفلام الفرنسية زمن دراستي في بيروت، ناهيك عن الدخول في حوارات بهذه اللغة مع العشرات من الطالبات والطلبة الكويتيين الذين كانت وزارة التربية والتعليم الكويتية وراء ابتعاثهم آنذاك لدراسة آداب اللغة الفرنسية في كلية بيروت الجامعية للبنات (الجامعة اللبنانية الأمريكية حاليا).
كانت تلك مقدمة للحديث عن المبتعثة الكويتية الدكتورة جنان بن سلامة التي تعد أول خليجية وكويتية تعمل كمحاضرة في جامعة السوربون الفرنسية العريقة الواقعة في الحي اللاتيني (تأسست سنة 1257م وتعد أول جامعة تمنح شهادة الدكتوراه وتمتاز بتخصصات التاريخ والشؤون الدولية والآداب والعلوم)، والتي ظهرت أخيراً في العديد من اللقاءات التلفزيونية تشكي حالها بألم وحرقة. فما هي قصتها؟
جنان مثال للفتاة الخليجية التي لا تعرف المستحيل وتقاوم بصبر ومثابرة معوقات الاغتراب وصعوبات اللغة وتحديات التحصيل العلمي العالي. وهي نموذج أيضا للفتاة الخليجية الواثقة من نفسها، الساعية لإثبات ذاتها، الطامحة لخدمة وطنها، المجبولة على المغامرة. ومن جهة ثالثة هي ضحية للبيروقراطية الإدارية والقوانين واللوائح التعسفية في جامعة وطنها مما حال دون توظيفها في المكان اللائق والمتوافق مع مؤهلاتها، دعك من عدم تكريمها وتقديرها على إنجازها الأكاديمي. أنه بالفعل صدمة وأمر محزن ومؤلم كما أفصحت بنفسها خلال ظهورها في حلقة تلفزيونية من «ديوان الملا» للإعلامي الكويتي القدير محمد أحمد الملا.
أهل البحر
تتحدر جنان من أسرة بن سلامة التي تنتشر في كل دول الخليج العربية الست دون استثناء، والتي يرجع نسبها إلى آل بن علي من العتوب من قبيلة عنزة. وطبقا لما ذكرته الأستاذة فوزية صالح الرومي في كتابها «تاريخ نزوح العائلات الكويتية»، فإن عائلة بن سلامة نزحت إلى الكويت في بداية القرن الثامن عشر ميلادي وسكنت مع أبناء عمومتها من عائلة الدرباس وعائلة الحديد في بقعة ساحلية مرتفعة بالقرب من «نقعة الغنيم». وأضافت فوزية الرومي أن المنتسبين للعائلة عرفوا بأنهم من أهل البحر، حيث برز منهم العديد من النواخذة الذين امتلكوا السفن الشراعية أو احترفوا الغوص على اللؤلؤ فسافروا إلى موانئ الخليج والبصرة وشرق أفريقيا وبلاد الهند والسند في حقبة ما قبل اكتشاف النفط، كما برزت منهم في الحقبة التالية شخصيات عملت في القطاع الحكومي والخاص لعل أهمهم نبيل بن خلف بن سلامة وهو حفيد النوخذة المعروف سعيد بن سلامة، علما بأن نبيل تولى منصب مدير عام بالشركة الوطنية للإتصالات وعضو مجلس إدارتها سنة 1997، قبل أن يحمل حقيبة المواصلات في الفترة من 2009 إلى 2011م.
اختيار فرنسا
ولدت جنان بنت حامد بن بدر بن سلامة في العاصمة الكويت في الرابع عشر من أكتوبر 1984، ابنة لوالدها الموظف في وزارة الأوقاف، ولأم من أسرة الرفاعي، وكان ترتيبها الثاني ضمن ستة أبناء. أكملت مراحل تعليمها العام في مدرسة العديلية للبنات (مدرسة شريفة العوضي حاليا)، حيث مارست هوايات على رأسها السباحة والغوص، وهي الهواية التي استمرت معها بعدما كبرت إلى درجة أنها أصبحت مدربة للغوص على غرار أجدادها من النواخذة. وعلى الرغم من توجهاتها العلمية، إلا أنها اختارت أثناء مرحلة دراستها الثانوية المسار الأدبي. وحينما تخرجت من الثانوية بتفوق لافت تمثل في حصولها على نسبة 96%، خيّرتها وزارة التربية والتعليم بين الابتعاث إلى الولايات المتحدة أو المملكة المتحدة أو فرنسا. وقتها أرادت الذهاب إلى الولايات المتحدة، لكنها عدلت عن رأيها لأنها وجدت كل الطلبة الكويتيين المبتعثين يذهبون إلى هناك أو إلى بريطانيا. وبمعنى آخر أرادت التميز، فاختارت فرنسا مكانا لدراسة البكالوريوس، رغم علمها المسبق أن ما تعلمته من اللغة الفرنسية في الثانوية قليل ولن يسعفها كثيرا، وبالتالي تُحملها الدراسة في فرنسا أعباء إضافية. لم تكترث بهذا العائق المتوقع كثيرا كونها تربت على روح المغامرة والثقة بالنفس.
وهكذا سافرت إلى فرنسا والتحقت بجامعة «فرانش كونتيه» بمدينة بيزانسون (مدينة تاريخية تقع شرق فرنسا وهي مسقط رأس فيكتور هوجو) للتخصص في علوم اللغة والإعلام، فنالت منها درجة البكالوريوس دون أدنى إخفاق أو تأخر، متجاوزة بنجاح عوامل الوحدة، والاغتراب، واختلاف العادات، وصعوبة التخاطب اليومي، وقسوة المناخ، واختلاف نظام التعليم في فرنسا عن الموجود في الكويت (يتبع نظام التعليم الكويتي النظام الأمريكي المعتمد على المناهج بينما يعتمد نظام التعليم الفرنسي على البحث العلمي وثقافة الطالب في المادة واعتماده على نفسه في الوصول إلى المصادر المعرفية)، علاوة على عامل النظرة العنصرية لها كفتاة مسلمة محجبة.
خطوة «السوربون»
خطوتها التالية كانت مواصلة تعليمها في فرنسا لنيل درجة الماجستير في تخصصها آنف الذكر، فخاطبت وزارة التربية والتعليم في بلدها بعد أن استوفت كافة شروط حصولها على منحة. وحينما جاءتها المنحة فضلت أن تنتقل للدراسة في جامعة السوربون لأن الأخيرة أكثر تطورا من الجامعات الفرنسية الأخرى لجهة مادة تخصصها في مرحلة الماجستير وهي «اللغة الفرنسية وعلوم الحاسوب مع الجمع بينهما لفهم علاقة الإنسان بالآلة واستخراج المعلومة بشكل سريع». هنا واجهتها أولى العقبات والتي تمثلت في عدم وجود اتفاقية بين الكويت وجامعة السوربون بحسب ما أخبرها الملحق الثقافي الكويتي في باريس الذي طلب منها العدول عن فكرة الدراسة في السوربون والبحث عن جامعة أخرى، خصوصا أن العديد من الطلبة الكويتيين الذين التحقوا بالسوربون لم ينجحوا في مواصلة دراستهم على حد قول الملحق.
ما حدث بعد ذلك هو أن جنان أصرت على اختيارها، حتى لو اضطرت لمواصلة دراستها على نفقتها، وقالت لنفسها لأجرب التسجيل في برنامج الماجستير بجامعة السوربون، فإن قبلوني كان بها وإلا سوف أبحث عن البديل. كان عدد المتقدمين للبرنامج آنذاك 35 طالبا وطالبة من مختلف الجنسيات، لكن من نجح منهم كانوا ستة طلبة فقط، إحداهن جنان بن سلامة. وقتها قيل لها إن القبول سهل لكن التخرج والنجاح صعب في السوربون، فلم تخف ولم تكترث لهذه الأقاويل المحبطة، إيماناً منها أن الخوف يقضي على كل طموح وعدم الخوف يولد العزيمة والثقة بالنفس.
رحلة الماجستير
أكملت برنامج الماجستير لتبدأ بعدها مباشرة مرحلة الدكتوراه التي باشرتها على نفقتها الخاصة، حيث لم تحصل على منحة حكومية من بلدها هذه المرة رغم تفوقها السابق. هنا أيضا واجهتها عقبات جديدة منها أن تكاليف السكن والدراسة والمعيشة في مدينة أوروبية مثل باريس باهظة جدا، فتغلبت على المشكلة بمساندة أهلها ومعارفها الكثر. ومنها صعوبات استخراج تراخيص الإقامة، حيث لا يعطى الطالب الأجنبي في فرنسا تأشيرة إقامة مفتوحة إلى حين إنهاء مهمته العلمية كما في الولايات المتحدة الأمريكية. ومنها أن عدد المتقدمين لبرنامج الدكتوراه كان نحو 150 طالبا وطالبة (كانت هي الفتاة الخليجية الوحيدة بينهم) فكان عليها أن تثبت للسوربون جدارتها وأحقيتها لخوض معركة الدكتوراه، وقد نجحت في تخطي المتقدمين مع ثلاثة آخرين فقط وتمّ قبولها للبدء في متطلبات نيل الدكتوراه. هذا ناهيك عن أن أحد أساتذتها في هذه المرحلة كان يهوديا يتعامل مع الطلبة العرب والمسلمين بعنصرية فجة، ويحاول إحباطهم، لكنها استطاعت ترويضه من خلال تحقيق تفوق لافت في مادته، الأمر الذي جعله يتعامل معها بأسلوب حضاري بعيدا عن التمييز والمواقف المسبقة. إلى ذلك واجهتها مشكلة صعوبة الدراسة والبحث لأن كل مادة دراسية كانت تتطلب البحث في ما لايقل عن ستة مراجع، لكنها بالإرادة والتصميم والعمل البحثي اليومي المتواصل من السادسة صباحا وحتى الثامنة مساء تغلبت على هذا العائق، وذلك طبقا لما قالته في حوار صحفي مع جريدة الأنباء الكويتية (23 /7 /2016).
مشروعها لنيل الدكتوراه بدأ لغويا بحتا لكنها قررت لاحقا أن تضيف إليه جانبا علميا تمثل في علم الحاسوب ثم بعدا اقتصاديا تمثل في دراسة متغيرات الأسعار ولاسيما ما يتعلق منه بأسعار النفط والمواد الغذائية. كان منطلقها هو فكرة أن دراسة التقارير من جانب لغوي واستخراج المعلومات من الحاسوب بسرعة فائقة لا يجدي نفعا إنْ لم يرافقه تحليل لما وراء مادة التقرير من أحداث وظروف تتعلق بالمكان والزمان.
في نهاية المطاف، وبعد جهد جهيد، حققت ما تمنته فنالت درجة الدكتوراه بدرجة الإمتياز عن أطروحة دمجت فيها ما بين علم اللغويات واستخراج المعلومات عن طريق استخدام الخوارزميات في الذكاء الصناعي، ليضمها البروفيسور الفرنسي المشرف على أطروحتها إلى مختبرات الأبحاث العلمية في علم الحاسوب واللغويات. وكان حصولها على الدكتوراه بعد موافقة هيئة المحلفين على أطروحتها، حيث جرى منحها الدرجة في حفل أقيم في باريس على مسرح Theatre Le Trianon.
وقتها تمنت جنان أن تعود إلى الكويت للاستقرار فيها وللمساهمة بعلمها وخبرتها في تطوير بعض البرامج المفيدة للشركات والمؤسسات ووزارات الدولة الكويتية، كما راودتها فكرة الالتحاق بجامعة الكويت للتدريس وتطبيق طرق تعليم اللغة الفرنسية وأساليب البحث العلمي المتقدمة.
الوظيفة في فرنسا.. حاربت التمييز وقادت التغيير
غير أنها علمت أن السوربون تقدم كل عام وظيفة للراغبين من داخل الجامعة أو من خارجها، ورغم علمها المسبق باستحالة حصولها على تلك الوظيفة في ظل وجود عدد كبير من المتقدمين، وفي ظل منح الأولوية للمتقدمين من الجنسية الفرنسية، إلا أن روح المغامرة دفعتها لخوض التنافس. كانت أحد الشروط للحصول على تلك الوظيفة هو الإتيان بثلاث تزكيات، فجاءتهم بخمس تزكيات، وعليه تمّ ترشيحها للوظيفة. غير أن الإشكالية تمثلت في كونها امرأة محجبة فتمّ إبلاغها بضرورة إخضاعها لاختبار علمي وأكاديمي وبناء على نتائج الاختبار سيتم تحديد قبولها من عدمه. وهنا أيضا لم تستسلم وخاضت بثبات الاختبار المطلوب والذي لم يكن سوى الطلب منها بتدريس 200 طالب لتقييم قدرتها على إلقاء محاضرات أمام هذا الجمع الكبير وبحضور بعض الأساتذة.
في هذا السياق نقلت «الأنباء» (مصدر سابق) عنها قولها: «كانت التجربة صعبة ولكن قمت بخوض التجربة ونجحت، وحاليا أقوم بتدريس مناهج علمية لطلبة البكالوريوس في جامعة السوربون في مادة (طرق البحث البرمجية الحديثة لاستخراج المعلومات وتحليلها لغويا)، وكانت فرصة عظيمة بأن أحصل على مسؤولية قيادية في التغيير، وقد حضرت اجتماعات منذ فترة قريبة في الجامعة لتحديد المناهج الدراسية التي سأقوم بتدريسها العام القادم، وتم ترشيحي لتدريس مناهج في مرحلة الماجستير وليس فقط في مرحلة البكالوريوس». وبهذا توجت بلقب «أول امرأة خليجية تحاضر في السوربون».
في عام 2017، عادت جنان إلى وطنها الكويت من بعد رحلة علم وعمل في باريس استغرقت 15 سنة متواصلة، وهي مكللة بأعلى الشهادات من إحدى أعرق الجامعات الأوروبية. كان شعورها وقتذاك أنها خلقت من أجل خدمة وطنها وناسها وأهلها، وبالتالي فلا بد من الكويت وإنْ طال الغياب. أول عمل قامت به بعد عودتها كان الاتصال بجامعة الكويت بحثا عن عمل في قسم اللغة الفرنسية بكلية الآداب كي تعطي لطلبة هذا القسم عصارة علمها وتجربتها، لكن المفاجأة كانت رفض الجامعة لتعيينها، رغم حاجتها لها، مكتفية بقبولها كمعلمة منتدبة. في أسباب الرفض -طبقاص لما قالته في برنامج ديوان الملا التلفزيوني- عدم وجود أبحاث منشورة لها، وهو سبب لم تقل به جامعة السوربون العريقة حينما وظفتها كمحاضرة ضمن طاقمها الأكاديمي. تقول جنان، التي ما زالت تتواصل مع جامعة السوربون لإطلاق مشروعات جديدة عن بعد (مثل تدريس اللهجة الكويتية للراغبين)، إنها اتصلت بجهات رسمية وأكاديمية كثيرة في بلدها من أجل إنصافها لكنها وصلت إلى طريق مسدود لأن كل جهة تلقي المسؤولية على الأخرى.
وأخيرا، فإن نصيحة جنان لبنات جنسها من الكويتيات اختصرتها في النص التالي (بتصرف): «كل إنسان يستطيع تحقيق الإنجاز ويمكنه تحقيق حلمه بالتحدي والإصرار والعزيمة والإرادة والمثابرة، لذا أنصح جميع الفتيات بالسعي لتحقيق أحلامهن بالعلم والإرادة. ولابد لمن يريد الذهاب إلى فرنسا تعلم اللغة الفرنسية والتمكن منها للتعامل مع الشعب الفرنسي لأن الحياة فيها صعبة، لاسيما أن الشعب الفرنسي متحفظ نوعا ما».
وبحكم دراستي المرحلة الثانوية في السعودية، أتذكر أن الكتاب الفرنسي المقرر كان عبارة عن قصة عائلة «فينسان» الكندية التي يُنقل عمل ربها من مقاطعة كويبك (حيث اللغة الدارجة هي الفرنسية) إلى باريس، فيبدأ الرجل عملية السفر مع عائلته الصغيرة بكل ما يتضمنها من إجراءات الحجز والوصول والمرور بمكاتب الجوازات والجمارك، ثم التعرف على معالم العاصمة الفرنسية، فالبحث عن سكن مناسب وتأثيثه وشراء الحاجات التموينية من الأسواق والمتاجر المتخصصة، وصولا إلى البحث عن مصبغة لغسيل ملابسه وصالون حلاقة لقص شعره وصالة عرض سينمائية للترفيه عن أسرته، ومكتبة لشراء الصحف والمجلات والكتب، والذهاب في جولات إلى الريف، وغير ذلك. وفي كل هذه التنقلات كان الطالب يتعرف شيئا فشيئا على المزيد من المفردات والصيغ والعبارات وكيفية تصريف الأفعال.
شخصيا استفدت كثيرا من هذا الكتاب وعشقت من خلاله الفرنسية، قبل أن أعزز ما تعلمته من خلال الالتحاق بالكورسات الاختيارية الجامعية والتردد الدائم على صالات عرض الأفلام الفرنسية زمن دراستي في بيروت، ناهيك عن الدخول في حوارات بهذه اللغة مع العشرات من الطالبات والطلبة الكويتيين الذين كانت وزارة التربية والتعليم الكويتية وراء ابتعاثهم آنذاك لدراسة آداب اللغة الفرنسية في كلية بيروت الجامعية للبنات (الجامعة اللبنانية الأمريكية حاليا).
كانت تلك مقدمة للحديث عن المبتعثة الكويتية الدكتورة جنان بن سلامة التي تعد أول خليجية وكويتية تعمل كمحاضرة في جامعة السوربون الفرنسية العريقة الواقعة في الحي اللاتيني (تأسست سنة 1257م وتعد أول جامعة تمنح شهادة الدكتوراه وتمتاز بتخصصات التاريخ والشؤون الدولية والآداب والعلوم)، والتي ظهرت أخيراً في العديد من اللقاءات التلفزيونية تشكي حالها بألم وحرقة. فما هي قصتها؟
جنان مثال للفتاة الخليجية التي لا تعرف المستحيل وتقاوم بصبر ومثابرة معوقات الاغتراب وصعوبات اللغة وتحديات التحصيل العلمي العالي. وهي نموذج أيضا للفتاة الخليجية الواثقة من نفسها، الساعية لإثبات ذاتها، الطامحة لخدمة وطنها، المجبولة على المغامرة. ومن جهة ثالثة هي ضحية للبيروقراطية الإدارية والقوانين واللوائح التعسفية في جامعة وطنها مما حال دون توظيفها في المكان اللائق والمتوافق مع مؤهلاتها، دعك من عدم تكريمها وتقديرها على إنجازها الأكاديمي. أنه بالفعل صدمة وأمر محزن ومؤلم كما أفصحت بنفسها خلال ظهورها في حلقة تلفزيونية من «ديوان الملا» للإعلامي الكويتي القدير محمد أحمد الملا.
أهل البحر
تتحدر جنان من أسرة بن سلامة التي تنتشر في كل دول الخليج العربية الست دون استثناء، والتي يرجع نسبها إلى آل بن علي من العتوب من قبيلة عنزة. وطبقا لما ذكرته الأستاذة فوزية صالح الرومي في كتابها «تاريخ نزوح العائلات الكويتية»، فإن عائلة بن سلامة نزحت إلى الكويت في بداية القرن الثامن عشر ميلادي وسكنت مع أبناء عمومتها من عائلة الدرباس وعائلة الحديد في بقعة ساحلية مرتفعة بالقرب من «نقعة الغنيم». وأضافت فوزية الرومي أن المنتسبين للعائلة عرفوا بأنهم من أهل البحر، حيث برز منهم العديد من النواخذة الذين امتلكوا السفن الشراعية أو احترفوا الغوص على اللؤلؤ فسافروا إلى موانئ الخليج والبصرة وشرق أفريقيا وبلاد الهند والسند في حقبة ما قبل اكتشاف النفط، كما برزت منهم في الحقبة التالية شخصيات عملت في القطاع الحكومي والخاص لعل أهمهم نبيل بن خلف بن سلامة وهو حفيد النوخذة المعروف سعيد بن سلامة، علما بأن نبيل تولى منصب مدير عام بالشركة الوطنية للإتصالات وعضو مجلس إدارتها سنة 1997، قبل أن يحمل حقيبة المواصلات في الفترة من 2009 إلى 2011م.
اختيار فرنسا
ولدت جنان بنت حامد بن بدر بن سلامة في العاصمة الكويت في الرابع عشر من أكتوبر 1984، ابنة لوالدها الموظف في وزارة الأوقاف، ولأم من أسرة الرفاعي، وكان ترتيبها الثاني ضمن ستة أبناء. أكملت مراحل تعليمها العام في مدرسة العديلية للبنات (مدرسة شريفة العوضي حاليا)، حيث مارست هوايات على رأسها السباحة والغوص، وهي الهواية التي استمرت معها بعدما كبرت إلى درجة أنها أصبحت مدربة للغوص على غرار أجدادها من النواخذة. وعلى الرغم من توجهاتها العلمية، إلا أنها اختارت أثناء مرحلة دراستها الثانوية المسار الأدبي. وحينما تخرجت من الثانوية بتفوق لافت تمثل في حصولها على نسبة 96%، خيّرتها وزارة التربية والتعليم بين الابتعاث إلى الولايات المتحدة أو المملكة المتحدة أو فرنسا. وقتها أرادت الذهاب إلى الولايات المتحدة، لكنها عدلت عن رأيها لأنها وجدت كل الطلبة الكويتيين المبتعثين يذهبون إلى هناك أو إلى بريطانيا. وبمعنى آخر أرادت التميز، فاختارت فرنسا مكانا لدراسة البكالوريوس، رغم علمها المسبق أن ما تعلمته من اللغة الفرنسية في الثانوية قليل ولن يسعفها كثيرا، وبالتالي تُحملها الدراسة في فرنسا أعباء إضافية. لم تكترث بهذا العائق المتوقع كثيرا كونها تربت على روح المغامرة والثقة بالنفس.
وهكذا سافرت إلى فرنسا والتحقت بجامعة «فرانش كونتيه» بمدينة بيزانسون (مدينة تاريخية تقع شرق فرنسا وهي مسقط رأس فيكتور هوجو) للتخصص في علوم اللغة والإعلام، فنالت منها درجة البكالوريوس دون أدنى إخفاق أو تأخر، متجاوزة بنجاح عوامل الوحدة، والاغتراب، واختلاف العادات، وصعوبة التخاطب اليومي، وقسوة المناخ، واختلاف نظام التعليم في فرنسا عن الموجود في الكويت (يتبع نظام التعليم الكويتي النظام الأمريكي المعتمد على المناهج بينما يعتمد نظام التعليم الفرنسي على البحث العلمي وثقافة الطالب في المادة واعتماده على نفسه في الوصول إلى المصادر المعرفية)، علاوة على عامل النظرة العنصرية لها كفتاة مسلمة محجبة.
خطوة «السوربون»
خطوتها التالية كانت مواصلة تعليمها في فرنسا لنيل درجة الماجستير في تخصصها آنف الذكر، فخاطبت وزارة التربية والتعليم في بلدها بعد أن استوفت كافة شروط حصولها على منحة. وحينما جاءتها المنحة فضلت أن تنتقل للدراسة في جامعة السوربون لأن الأخيرة أكثر تطورا من الجامعات الفرنسية الأخرى لجهة مادة تخصصها في مرحلة الماجستير وهي «اللغة الفرنسية وعلوم الحاسوب مع الجمع بينهما لفهم علاقة الإنسان بالآلة واستخراج المعلومة بشكل سريع». هنا واجهتها أولى العقبات والتي تمثلت في عدم وجود اتفاقية بين الكويت وجامعة السوربون بحسب ما أخبرها الملحق الثقافي الكويتي في باريس الذي طلب منها العدول عن فكرة الدراسة في السوربون والبحث عن جامعة أخرى، خصوصا أن العديد من الطلبة الكويتيين الذين التحقوا بالسوربون لم ينجحوا في مواصلة دراستهم على حد قول الملحق.
ما حدث بعد ذلك هو أن جنان أصرت على اختيارها، حتى لو اضطرت لمواصلة دراستها على نفقتها، وقالت لنفسها لأجرب التسجيل في برنامج الماجستير بجامعة السوربون، فإن قبلوني كان بها وإلا سوف أبحث عن البديل. كان عدد المتقدمين للبرنامج آنذاك 35 طالبا وطالبة من مختلف الجنسيات، لكن من نجح منهم كانوا ستة طلبة فقط، إحداهن جنان بن سلامة. وقتها قيل لها إن القبول سهل لكن التخرج والنجاح صعب في السوربون، فلم تخف ولم تكترث لهذه الأقاويل المحبطة، إيماناً منها أن الخوف يقضي على كل طموح وعدم الخوف يولد العزيمة والثقة بالنفس.
رحلة الماجستير
أكملت برنامج الماجستير لتبدأ بعدها مباشرة مرحلة الدكتوراه التي باشرتها على نفقتها الخاصة، حيث لم تحصل على منحة حكومية من بلدها هذه المرة رغم تفوقها السابق. هنا أيضا واجهتها عقبات جديدة منها أن تكاليف السكن والدراسة والمعيشة في مدينة أوروبية مثل باريس باهظة جدا، فتغلبت على المشكلة بمساندة أهلها ومعارفها الكثر. ومنها صعوبات استخراج تراخيص الإقامة، حيث لا يعطى الطالب الأجنبي في فرنسا تأشيرة إقامة مفتوحة إلى حين إنهاء مهمته العلمية كما في الولايات المتحدة الأمريكية. ومنها أن عدد المتقدمين لبرنامج الدكتوراه كان نحو 150 طالبا وطالبة (كانت هي الفتاة الخليجية الوحيدة بينهم) فكان عليها أن تثبت للسوربون جدارتها وأحقيتها لخوض معركة الدكتوراه، وقد نجحت في تخطي المتقدمين مع ثلاثة آخرين فقط وتمّ قبولها للبدء في متطلبات نيل الدكتوراه. هذا ناهيك عن أن أحد أساتذتها في هذه المرحلة كان يهوديا يتعامل مع الطلبة العرب والمسلمين بعنصرية فجة، ويحاول إحباطهم، لكنها استطاعت ترويضه من خلال تحقيق تفوق لافت في مادته، الأمر الذي جعله يتعامل معها بأسلوب حضاري بعيدا عن التمييز والمواقف المسبقة. إلى ذلك واجهتها مشكلة صعوبة الدراسة والبحث لأن كل مادة دراسية كانت تتطلب البحث في ما لايقل عن ستة مراجع، لكنها بالإرادة والتصميم والعمل البحثي اليومي المتواصل من السادسة صباحا وحتى الثامنة مساء تغلبت على هذا العائق، وذلك طبقا لما قالته في حوار صحفي مع جريدة الأنباء الكويتية (23 /7 /2016).
مشروعها لنيل الدكتوراه بدأ لغويا بحتا لكنها قررت لاحقا أن تضيف إليه جانبا علميا تمثل في علم الحاسوب ثم بعدا اقتصاديا تمثل في دراسة متغيرات الأسعار ولاسيما ما يتعلق منه بأسعار النفط والمواد الغذائية. كان منطلقها هو فكرة أن دراسة التقارير من جانب لغوي واستخراج المعلومات من الحاسوب بسرعة فائقة لا يجدي نفعا إنْ لم يرافقه تحليل لما وراء مادة التقرير من أحداث وظروف تتعلق بالمكان والزمان.
في نهاية المطاف، وبعد جهد جهيد، حققت ما تمنته فنالت درجة الدكتوراه بدرجة الإمتياز عن أطروحة دمجت فيها ما بين علم اللغويات واستخراج المعلومات عن طريق استخدام الخوارزميات في الذكاء الصناعي، ليضمها البروفيسور الفرنسي المشرف على أطروحتها إلى مختبرات الأبحاث العلمية في علم الحاسوب واللغويات. وكان حصولها على الدكتوراه بعد موافقة هيئة المحلفين على أطروحتها، حيث جرى منحها الدرجة في حفل أقيم في باريس على مسرح Theatre Le Trianon.
وقتها تمنت جنان أن تعود إلى الكويت للاستقرار فيها وللمساهمة بعلمها وخبرتها في تطوير بعض البرامج المفيدة للشركات والمؤسسات ووزارات الدولة الكويتية، كما راودتها فكرة الالتحاق بجامعة الكويت للتدريس وتطبيق طرق تعليم اللغة الفرنسية وأساليب البحث العلمي المتقدمة.
الوظيفة في فرنسا.. حاربت التمييز وقادت التغيير
غير أنها علمت أن السوربون تقدم كل عام وظيفة للراغبين من داخل الجامعة أو من خارجها، ورغم علمها المسبق باستحالة حصولها على تلك الوظيفة في ظل وجود عدد كبير من المتقدمين، وفي ظل منح الأولوية للمتقدمين من الجنسية الفرنسية، إلا أن روح المغامرة دفعتها لخوض التنافس. كانت أحد الشروط للحصول على تلك الوظيفة هو الإتيان بثلاث تزكيات، فجاءتهم بخمس تزكيات، وعليه تمّ ترشيحها للوظيفة. غير أن الإشكالية تمثلت في كونها امرأة محجبة فتمّ إبلاغها بضرورة إخضاعها لاختبار علمي وأكاديمي وبناء على نتائج الاختبار سيتم تحديد قبولها من عدمه. وهنا أيضا لم تستسلم وخاضت بثبات الاختبار المطلوب والذي لم يكن سوى الطلب منها بتدريس 200 طالب لتقييم قدرتها على إلقاء محاضرات أمام هذا الجمع الكبير وبحضور بعض الأساتذة.
في هذا السياق نقلت «الأنباء» (مصدر سابق) عنها قولها: «كانت التجربة صعبة ولكن قمت بخوض التجربة ونجحت، وحاليا أقوم بتدريس مناهج علمية لطلبة البكالوريوس في جامعة السوربون في مادة (طرق البحث البرمجية الحديثة لاستخراج المعلومات وتحليلها لغويا)، وكانت فرصة عظيمة بأن أحصل على مسؤولية قيادية في التغيير، وقد حضرت اجتماعات منذ فترة قريبة في الجامعة لتحديد المناهج الدراسية التي سأقوم بتدريسها العام القادم، وتم ترشيحي لتدريس مناهج في مرحلة الماجستير وليس فقط في مرحلة البكالوريوس». وبهذا توجت بلقب «أول امرأة خليجية تحاضر في السوربون».
في عام 2017، عادت جنان إلى وطنها الكويت من بعد رحلة علم وعمل في باريس استغرقت 15 سنة متواصلة، وهي مكللة بأعلى الشهادات من إحدى أعرق الجامعات الأوروبية. كان شعورها وقتذاك أنها خلقت من أجل خدمة وطنها وناسها وأهلها، وبالتالي فلا بد من الكويت وإنْ طال الغياب. أول عمل قامت به بعد عودتها كان الاتصال بجامعة الكويت بحثا عن عمل في قسم اللغة الفرنسية بكلية الآداب كي تعطي لطلبة هذا القسم عصارة علمها وتجربتها، لكن المفاجأة كانت رفض الجامعة لتعيينها، رغم حاجتها لها، مكتفية بقبولها كمعلمة منتدبة. في أسباب الرفض -طبقاص لما قالته في برنامج ديوان الملا التلفزيوني- عدم وجود أبحاث منشورة لها، وهو سبب لم تقل به جامعة السوربون العريقة حينما وظفتها كمحاضرة ضمن طاقمها الأكاديمي. تقول جنان، التي ما زالت تتواصل مع جامعة السوربون لإطلاق مشروعات جديدة عن بعد (مثل تدريس اللهجة الكويتية للراغبين)، إنها اتصلت بجهات رسمية وأكاديمية كثيرة في بلدها من أجل إنصافها لكنها وصلت إلى طريق مسدود لأن كل جهة تلقي المسؤولية على الأخرى.
وأخيرا، فإن نصيحة جنان لبنات جنسها من الكويتيات اختصرتها في النص التالي (بتصرف): «كل إنسان يستطيع تحقيق الإنجاز ويمكنه تحقيق حلمه بالتحدي والإصرار والعزيمة والإرادة والمثابرة، لذا أنصح جميع الفتيات بالسعي لتحقيق أحلامهن بالعلم والإرادة. ولابد لمن يريد الذهاب إلى فرنسا تعلم اللغة الفرنسية والتمكن منها للتعامل مع الشعب الفرنسي لأن الحياة فيها صعبة، لاسيما أن الشعب الفرنسي متحفظ نوعا ما».