علوم التراث.. وأسئلة اللمز والاستخفاف
الخميس / 05 / ربيع الثاني / 1442 هـ الجمعة 20 نوفمبر 2020 00:19
عبدالله الرشيد
كثيراً ما يوجه سؤال لمن يبحث في أخبار الأمم الماضية، ويعتني بدراسة التراث العربي، والتاريخ الإسلامي، فيقال له: «لماذا تغرق في الماضي؟ تلك أمم فانية قد خلت، لماذا تريد جرنا للقديم السحيق، والأمم من حولنا سبقتنا نحو المستقبل؟»، يتكرر هذا السؤال بتبرم من الماضي، وربما هربا منه، أو نظرة شك وريبة تجاهه باعتباره أحد الأسباب التي تعيق عن التقدم والانطلاق. حيث يرى أولئك الذين يطرحون هذا السؤال أن أحد عوامل تخلف العرب والمسلمين تكمن في انغلاقهم على ماضيهم بدلاً من المشاركة الفاعلة في الحاضر.
بنفس هذا المنطق قام المفكر المصري سلامة موسى باللمز والغمز والاستخفاف في جهود الأديب زكي مبارك ومؤلفاته في دراسة الأدب العربي القديم، ووصفه بالغارق في الماضي، المنغمس في أمر لا نفع له في الحاضر ولا قيمة، بل يجب أن نتجاوزه، ونعتني بالأدب الحديث ونطوره، بدلاً من «تضييع الوقت» في دراسة التراث العربي.
ما كان من زكي مبارك إلا أن شمر عن ساعد قلمه، وكتب مقالاً في الرد على موسى، والرد على أولئك الذين يتفقون معه في التقليل من أهمية العناية بالتراث العربي وعلوم الأدب ودراسة أصول الدين.
بدأ زكي مبارك مقاله بوخزة مباشرة في خاصرة موسى، حيث قال: «بينت للخصم الشريف سلامة موسى وجه الخطأ في ما ذهب إليه من الدعوة إلى الإقلال من العناية بالأدب العربي، وكانت حجتي أنه يُعنَى بالأدب الفرعوني مع أنه أدب مُوغِل في القدم، وأن الأستاذ عبدالقادر حمزة يبذل جهودًا عنيفة في شرح الأساطير الفرعونية، ولم يقل أحد إنه يضيع وقته في ما لا يفيد، فكيف يلام رجل مثلي إذا قَصَرَ عمره على درس الأدب العربي، مع أنه أدبٌ حيٌّ لا يزال يسيطر على أذواق الناس في المشرق والمغرب، وهو فوق ذلك يفسر غوامض النفس العربية التي تلقت الإسلام ونشرته في العالمين». (انظر: مقالة «الآداب الباقية»، منشور ضمن كتابه «الأسمار والأحاديث»).
يرى زكي مبارك، أن الدعوة التي تستخف من الاهتمام بعلوم الأدب العربي، وعلوم الشريعة وأصول الدين هي نظرة قاصرة جداً، ولا تعي أن هذه الثقافة حاضرة اليوم، حية بين أصقاع الملايين، فدراستها هي فهم للحاضر أكثر منه انغماسا في الماضي، يقول: «الباحث والمثقف أياً كان دينه، سواء كان يؤمن بالإسلام أو لا يؤمن، إلا أنه لا يستطيع أن ينكر أن الإسلام يسيطر على كثير من الشعوب، والباحث لا مفرَّ له من درس اللغة التي أُدِّيتْ بها مذاهب ذلك الدين، وهو يفعل ذلك علمًا إن لم يفعله تدينًا؛ أي أنه لا مندوحة من درس أصول ذلك الدين من النواحي اللغوية والتشريعية، والمسلم وغير المسلم في ذلك سواء؛ لأن العلم لا يوجب على العالم أن يؤمن بالإسلام قبل أن يدرس الإسلام، ولا يفرض عليه أن يعتنق المسيحية قبل أن يدرس المسيحية، وإنما يأتي الإيمان بعد الدرس، وقد لا يأتي أبدًا، فما أحسب صديقي سلامة موسى سيُسلم وإن سبق الناس إلى فهم القرآن!».
يعلق زكي مبارك على نقطة مهمة ترد كثيراً عند بعض المثقفين الحداثيين، الذين يظنون أن العناية بالتراث العربي لها غايات دينية، وتلك نظرة أخرى قاصرة نبعت من النظرة المثالية للتاريخ، والقراءة الدينية للحضارة الإسلامية، وكأنها حالة دينية متجسدة في الماضي، وليست صورة إنسانية حيوية متنوعة لها امتداداتها كغيرها من المجتمعات، يقول مبارك: «إن لدراسة الأدب العربي غايات أخرى غير تلك الغايات الدينية، وأبدأ فأنقض حجة الأستاذ سلامة موسى؛ إذ يرى أن غاية الأدب هي توجيه الحياة الاجتماعية، وأن الأدب الحديث أنفع دائمًا من الأدب القديم؛ لأنه أقرب ولأنه يصلح للحياة التي نعيشها تمام العيش، أما الأدب القديم فيتحدث عن حياة مضت وانقضت، ولم يبق ما يوجب أن نتلفت إلى ما كان فيها من محاسن وعيوب.
ماذا تريد أيها الصديق؟
أتحسب أن الأدب لا غاية له إلا توجيه الحياة الاجتماعية؟
عَدِّ عن هذا، فالأدب كما يكون ضربًا من الإصلاح، يكون نوعًا من الوصف، وهو وثيقة تسجَّل فيها مظاهر الحياة الاجتماعية، وقد يصير دستورًا تخضع له الحياة الاجتماعية.
فإن كنت في ريب من ذلك فراجع كتب الأدب في القديم والحديث، وستراها سِجِلَّات دُوِّنَتْ فيها أزمات القلوب والنفوس والعقول، ستراها نماذج وصفية قبل أن تراها شرائع وقوانين».
يختم زكي مبارك حديثه معلقاً على نقطة شديدة الأهمية تجاه أولئك الذين يحاكمون الماضي بمعايير اليوم، ويحكمون عليه وفقاً لأخلاقيات الحاضر، فلا يستطيعون أن يروا الصورة كاملة، ويعجزوا عن فهم الماضي ورؤية جوانب العظمة والإبداع والإنجاز فيه، لأنهم انشغلوا بمحاكمته أخلاقياً بمعايير الزمن الراهن، «فلو نظرنا إلى الأهرام بعين سلامة موسى لرأيناها سُبَّةً في تاريخ مصر، والفراعنة الذين بَنَوها فعلوا ما فعلوا في غيبة البرلمان، في عهد «نسيم» ذلك الزمان، وإلا فكيف يمكن لحكومةً برلمانية أن ترضى بتسخير الفلاحين جميعًا في إقامة بناء لا تدخله شمس ولا هواء، ولا يصلح إلا للأموات؟
ومع هذا فمن ذا الذي ينكر أن الأهرام من بقية السِّحر في مصر، وأنها عنوان ما كان في هذا الوادي من عناصر القوة في الأبدان والعقول والأذواق؟».
ALRrsheed@
بنفس هذا المنطق قام المفكر المصري سلامة موسى باللمز والغمز والاستخفاف في جهود الأديب زكي مبارك ومؤلفاته في دراسة الأدب العربي القديم، ووصفه بالغارق في الماضي، المنغمس في أمر لا نفع له في الحاضر ولا قيمة، بل يجب أن نتجاوزه، ونعتني بالأدب الحديث ونطوره، بدلاً من «تضييع الوقت» في دراسة التراث العربي.
ما كان من زكي مبارك إلا أن شمر عن ساعد قلمه، وكتب مقالاً في الرد على موسى، والرد على أولئك الذين يتفقون معه في التقليل من أهمية العناية بالتراث العربي وعلوم الأدب ودراسة أصول الدين.
بدأ زكي مبارك مقاله بوخزة مباشرة في خاصرة موسى، حيث قال: «بينت للخصم الشريف سلامة موسى وجه الخطأ في ما ذهب إليه من الدعوة إلى الإقلال من العناية بالأدب العربي، وكانت حجتي أنه يُعنَى بالأدب الفرعوني مع أنه أدب مُوغِل في القدم، وأن الأستاذ عبدالقادر حمزة يبذل جهودًا عنيفة في شرح الأساطير الفرعونية، ولم يقل أحد إنه يضيع وقته في ما لا يفيد، فكيف يلام رجل مثلي إذا قَصَرَ عمره على درس الأدب العربي، مع أنه أدبٌ حيٌّ لا يزال يسيطر على أذواق الناس في المشرق والمغرب، وهو فوق ذلك يفسر غوامض النفس العربية التي تلقت الإسلام ونشرته في العالمين». (انظر: مقالة «الآداب الباقية»، منشور ضمن كتابه «الأسمار والأحاديث»).
يرى زكي مبارك، أن الدعوة التي تستخف من الاهتمام بعلوم الأدب العربي، وعلوم الشريعة وأصول الدين هي نظرة قاصرة جداً، ولا تعي أن هذه الثقافة حاضرة اليوم، حية بين أصقاع الملايين، فدراستها هي فهم للحاضر أكثر منه انغماسا في الماضي، يقول: «الباحث والمثقف أياً كان دينه، سواء كان يؤمن بالإسلام أو لا يؤمن، إلا أنه لا يستطيع أن ينكر أن الإسلام يسيطر على كثير من الشعوب، والباحث لا مفرَّ له من درس اللغة التي أُدِّيتْ بها مذاهب ذلك الدين، وهو يفعل ذلك علمًا إن لم يفعله تدينًا؛ أي أنه لا مندوحة من درس أصول ذلك الدين من النواحي اللغوية والتشريعية، والمسلم وغير المسلم في ذلك سواء؛ لأن العلم لا يوجب على العالم أن يؤمن بالإسلام قبل أن يدرس الإسلام، ولا يفرض عليه أن يعتنق المسيحية قبل أن يدرس المسيحية، وإنما يأتي الإيمان بعد الدرس، وقد لا يأتي أبدًا، فما أحسب صديقي سلامة موسى سيُسلم وإن سبق الناس إلى فهم القرآن!».
يعلق زكي مبارك على نقطة مهمة ترد كثيراً عند بعض المثقفين الحداثيين، الذين يظنون أن العناية بالتراث العربي لها غايات دينية، وتلك نظرة أخرى قاصرة نبعت من النظرة المثالية للتاريخ، والقراءة الدينية للحضارة الإسلامية، وكأنها حالة دينية متجسدة في الماضي، وليست صورة إنسانية حيوية متنوعة لها امتداداتها كغيرها من المجتمعات، يقول مبارك: «إن لدراسة الأدب العربي غايات أخرى غير تلك الغايات الدينية، وأبدأ فأنقض حجة الأستاذ سلامة موسى؛ إذ يرى أن غاية الأدب هي توجيه الحياة الاجتماعية، وأن الأدب الحديث أنفع دائمًا من الأدب القديم؛ لأنه أقرب ولأنه يصلح للحياة التي نعيشها تمام العيش، أما الأدب القديم فيتحدث عن حياة مضت وانقضت، ولم يبق ما يوجب أن نتلفت إلى ما كان فيها من محاسن وعيوب.
ماذا تريد أيها الصديق؟
أتحسب أن الأدب لا غاية له إلا توجيه الحياة الاجتماعية؟
عَدِّ عن هذا، فالأدب كما يكون ضربًا من الإصلاح، يكون نوعًا من الوصف، وهو وثيقة تسجَّل فيها مظاهر الحياة الاجتماعية، وقد يصير دستورًا تخضع له الحياة الاجتماعية.
فإن كنت في ريب من ذلك فراجع كتب الأدب في القديم والحديث، وستراها سِجِلَّات دُوِّنَتْ فيها أزمات القلوب والنفوس والعقول، ستراها نماذج وصفية قبل أن تراها شرائع وقوانين».
يختم زكي مبارك حديثه معلقاً على نقطة شديدة الأهمية تجاه أولئك الذين يحاكمون الماضي بمعايير اليوم، ويحكمون عليه وفقاً لأخلاقيات الحاضر، فلا يستطيعون أن يروا الصورة كاملة، ويعجزوا عن فهم الماضي ورؤية جوانب العظمة والإبداع والإنجاز فيه، لأنهم انشغلوا بمحاكمته أخلاقياً بمعايير الزمن الراهن، «فلو نظرنا إلى الأهرام بعين سلامة موسى لرأيناها سُبَّةً في تاريخ مصر، والفراعنة الذين بَنَوها فعلوا ما فعلوا في غيبة البرلمان، في عهد «نسيم» ذلك الزمان، وإلا فكيف يمكن لحكومةً برلمانية أن ترضى بتسخير الفلاحين جميعًا في إقامة بناء لا تدخله شمس ولا هواء، ولا يصلح إلا للأموات؟
ومع هذا فمن ذا الذي ينكر أن الأهرام من بقية السِّحر في مصر، وأنها عنوان ما كان في هذا الوادي من عناصر القوة في الأبدان والعقول والأذواق؟».
ALRrsheed@