ثقافة وفن

الرملي لـ عكاظ:«بنت دجلة».. الأصعب والأكثر حرفيّة

قال إن آراء الغذامي ارتجالية وغير موضوعية

حاوره: علي فايع alma3e@

الحديث مع الأديب والأكاديمي (العراقي /‏ الإسباني) محسن الرملي، الذي يكتب باللغتين العربية والإسبانية في الأدب لا يُملّ، إذ عمل في الصحافة الثقافية منذ 1985، وله عشرات المواد المنشورة في الصحافة العربية والإسبانية والأمريكولاتينية، إضافة إلى كونه مترجم العديد من الأعمال الأدبية بين اللغتين العربية والإسبانية، وله ما يزيد على 30 إصدارا تنوعت بين القصة والشعر والمسرحية والترجمات والرواية، كما ترجمت أغلب أعماله إلى أكثر من لغة، وشارك في الكثير من المهرجانات والمؤتمرات الدولية، كما شارك في تأسيس وإدارة دار ومجلة «ألواح» الثقافية الفكرية في إسبانيا 1997. يعمل حالياً أستاذاً في جامعة سانت لويس الأمريكية في مدريد، ويتلقف متابعوه وقراؤه أعماله الروائية باحتفاء كبير، مع أنه يتمنّى أن يكون شاعراً أفضل منه كروائي، لأنّ الشعر كما يقول روح الأدب!

العديد من القضايا والآراء في هذا الحوار الخاص بـ«عكاظ».. فإلى نصّ الحوار:

• دعنا نبدأ من الكيفية التي تشكّل فيها وعيك الكتابي؟

•• لا أبالغ إذا قلت بأنه قد تشكل عندي حتى قبل أن أعرف القراءة والكتابة، فقد شُغفت حباً بالكتب منذ رأيتها أول مرة بين أيدي إخوتي وأبي، فكنت آخذها منهم وأردد أصواتاً أتظاهر من خلالها أنني أقرأ، وحين يمنحوني كتاباً قديماً كنت أرسم على الحاشيات الفارغة فيها، متظاهراً بالكتابة، لذا غيّر أبي تسجيل ميلادي سنة واحدة كي أدخل المدرسة قبل بلوغ السن القانوني، وهكذا، منذ تعلمت القراءة والكتابة لم أكف عن ممارستهما أبداً، حتى وأنا جندي في الجيش داخل الدبابة وتحت القصف، وكان الدور الأكبر في تشجيعي على ذلك وتنظيمه وإنضاجه هو أخي الكاتب الراحل حسن مطلك.

• المتابع لأعمالك الروائية يلحظ أنك ما زلت مصاباً بداء العراق، متى يمكنك التخلص من هذا؟

•• كان هذا الأمر يقلقني فعلاً إلى حد قريب، ولكن من خلال تفحص تجارب الأصدقاء والزملاء الكُتاب، ممن هم من ثقافات وبلدان مختلفة ويعيشون في بلدان غير بلدانهم الأصلية، والحديث مع بعضهم، وجدت أن الأمر طبيعياً، فجلهم كتبوا ويكتبون عن بلدانهم الأولى، فالأدب بشكل ما، هو وليد الذاكرة وحافظها، مع ذلك، ففي أكثر من عمل لي، تناولت مناخات بلدان أخرى، كما في رواياتي: «تمر الأصابع»، «ذئبة الحب والكتب» و«أبناء وأحذية».

• التصالح مع النفس هل يكون بالكتابة؟

•• يكون بالسعي الدائم لمعرفتها أكثر وبالتعبير عنها، سواء عبر سماع أو قراءة الآخرين، أو بالكتابة، التي هي ذروة سبل التعبير والاقتراب من معرفة الذات والعالم المحيط، كما أن فيها علاجاً وتنفيساً وتطهيراً، وفق نظرية أرسطو، فهي تخفف الكثير عن النفس، وكما يقول الأسبان: الورق يَحتَمل كل شيء. لذا كنت طوال حياتي أُلقي الكثير مما يثقل روحي على الورق، وإلا، وبسبب كثرة ما عشته وما رأيته من مآسٍ وأوجاع في حياتي، لولا القراءة والكتابة لمتُ كمداً.

• الانغماس في الواقع والكتابة عنه، هل يعدّ خللا في بنية الرواية العربية بشكل عام ورواياتك بشكل خاص؟

•• ليس خللاً بالضبط.. وإنما هو على حساب الخيال الذي يعتبر أهم ركن من أركان أي عمل فني، وفيه يكمن هامش الجديد والاستشراف والحرية والحلم، وإن كان، في نهاية الأمر، لا توجد أية رواية هي واقعية مئة بالمئة، إلا أن الواقعي هو المهيمن فعلاً على رواياتنا العربية اليوم بسبب عبء وضغط أحداثه التي تفوق الخيال أحياناً.

واقعنا العربي هو الذي يجبرنا على تناوله بواقعية لأسباب كثيرة، منها تبدلاته المتسارعة والراديكالية المؤثرة مباشرة على حياة الناس وتاريخهم وجغرافيتهم، فيسعى الأدب لتأملها ولحفظ الذاكرة، ومنها الشعور بمسؤوليات وصف وتسليط الضوء على هذا الواقع بهدف فهمه والتوعية به والتعبير عنه، خصوصا أن الرواية اليوم هي واحدة من أفضل وأقوى أدوات التنوير العامة.

• ألا يزعجك بروز محسن الرملي الروائي على حساب القاص والشاعر والمسرحي والمترجم؟

•• ليس الأمر بيدي، فقد كنت أتمنى لو أنني شاعر أفضل مني كروائي، لأن الشِعر هو روح الأدب، كما أن الاشتغال على قصيدة أو ديوان أقل جهداً ووقتاً وتعباً من الاشتغال على رواية، لكنني لم أكن محظوظاً في هذا التمني، حالي كحال الكثير من الروائيين أمثال ثربانتسوساراماغو وغونتر غراس وغيرهم. وعلى أية حال، فإن صفة «كاتب» أو «أديب» صارت اليوم تحل هذا الإشكال، ففي نهاية الأمر كلها كتابة بغض النظر عن تصنيفاتها التقنية.

• تكتب كثيراً عن العراق ومشكلاته وقضاياه، ألا تخاف من التكرار؟

•• مهما كتبت أنا وغيري عن العراق فسنبقى مقصرين تجاه غزارة وقوة الأحداث والقضايا والمعاناة الإنسانية فيه، كما أن الكتابة عن بقعة واحدة لا يعني التكرار، لأن المواضيع والقضايا والأزمنة وحتى الأمكنة، تختلف من عمل إلى آخر، كما أن هذا ما حدث وما فعله جل الكتاب في العالم، ومن ذلك مثلاً: كل أعمال نجيب محفوظ عن مصر، وأعمال فوكنر عن أمريكا، وأعمال هوغو عن فرنسا، وأعمال دوستويفسكي وتولستوي عن روسيا، وأعمال مو يان عن الصين.. وهكذا.

• هناك من يكتب للجائزة لينتشر وهناك من يكتب للعمل الفنيّ.. أيهما باعتقادك يسوّق للكاتب أكثر؟

•• من حق أي إنسان أن يكتب بالطريقة التي يشاء وللهدف الذي يشاء، لكن الكتابة الجادة والحقيقية هي أمر سابق ومنفصل عن التفكير بجائزة أثناء القيام به، أما مسألة التسويق فتلك أمر آخر، وبالطبع تساعد الجوائز في التسويق أكثر للعمل ولصاحبه، وتُقصر الطريق والوقت أكثر في الوصول إلى عدد أكبر من القراء.

• الآخر المختلف، هل نجحت من خلال الكتابة الإنسانية في نقل مشاعرك وهمومك وقضاياك إليه بشكل جيد؟

‏•• أعتقد؛ نعم، وذلك من خلال ما كُتب عنها بأكثر من لغة ومن خلال ما تلقيته من ردود فعل كثيرة من القراء من ثقافات وبلدان مختلفة، وذلك عبر رسائلهم وتعليقاتهم أو من خلال اللقاءات الشخصية الكثيرة المتكررة معهم، عبر مشاركاتي في معارض الكتب والمهرجانات والمؤتمرات والمحاضرات وغيرها.

• كيف تنظر لتلقي أعمالك الروائية عربياً وعالمياً؟

•• بقدر ما أراه جيداً وإيجابياً ومُرضياً، ضمن الظروف العامة للأدب والعالم اليوم، أجده يزيد من عبء المسؤولية عليّ، ومن الجهد والتعب والوقت الذي صار تتطلبه مني كتابة أي عمل جديد، وذلك لأنني صرت أحسب جوانب كثيرة لم تكن في حساباتي عند كتابتي لأعمالي الأولى، التي كنت أشعر بأنني أكثر حرية في التجريب وحتى متعة في كتابتها، لأن من كنت أفكر بهم أثناء كتابتها هم أصدقاء وقراء أعرف شخصياً أو على الأقل في أي محيط ثقافي يوجدون، أما الآن فقد اختلف الأمر، ولم أعد أعرف وجوه وثقافة القراء الذين تصلهم أعمالي، فازداد التركيز على العوامل الإنسانية والفنية المشتركة أكثر.

• هل أضاف لك النقد العربي شيئاً؟

•• نعم، وبشكل خاص ذلك النقد الذي اشتغل على تفكيك النصوص الكلاسيكية التراثية العربية والعالمية بشكل عملي وعلمي جاد، فدلني على عناصر ونقاط القوة في بنائها، التي حفظتها عبر الزمن وجعلتها صالحة للقراءة في كل زمان ومكان.

• ما الرواية الأصعب التي كتبتها؟

•• رواية «بنت دجلة»، أولاً: لأنها تتناول مرحلة صعبة ومعقدة من تاريخ العراق القريب، أي ما بعد 2003 وتشعب العوامل التي ساهمت في ضعضعة العراق كدولة وفي العصف بكل كيان البلد أرضاً وشعباً وثقافة، وثانياً: لأن الرواية بُنيت على عناصر وشخصيات رواية سابقة لها، وهي رواية «حدائق الرئيس»، مما يقيد حركتي ومدى تحكمي بالشخوص والأحداث والزمان والمكان وغيرها. لكنها كانت تجربة مفيدة جداً بالنسبة لي بقدر ما كانت صعبة، فقد تعلمت منها الكثير، وأعتبرها أكثر أعمالي حِرفيّة حتى الآن.

• كرامة الإنسان العراقي المهدورة، هل يمكن للكتابة أن تعيدها إلى الأمل والحبّ والحياة؟

•• لا تستطيع الكتابة فعل ذلك وحدها، سواء للعراقي أو لغير العراقي، وإنما يمكنها أن تساهم في جزء منها، إلى جانب مختلف الفنون والميادين الأخرى، التي تزيد من توعية الإنسان بذاته ومحيطه وإشكالاته، وبالتالي تقوده لتَبيُّن سبل تساعده على معرفة أين يمكنه وضع خطوته القادمة من أجل الاستمرار بالحلم بعدالة وكرامة وحرية، وكما شهدنا، فإن ثورة تشرين الأخيرة، التي كانت ذات وعي وتوعية قبل كل شيء، كانت في الأساس من قبل شباب نعرفهم، وأغلبهم ممن يقرأون ويبدعون ويحلمون.

• الدكتور عبدالله الغذامي يسخر من ورش الكتابة ويصفها بـ«طبخة شكشوكة» سواء في الرواية أو الشعر، فيما أنت تقيم العديد من هذه الورش في الكتابة.. كيف ترد؟

•• ههههه لا بأس، سأرد على سخريته بسخرية أيضاً، على أمل أن يتقبلها، فرأي كهذا أراه مجانياً وارتجالياً، وغير موضوعي، مثل العديد من آرائه، وأستغرب صدوره من شخص أمضى جل حياته في التعليم الذي يدعو لإقرانه بالتدريب. إنّ وصفه هذا ينطبق أكثر على «مشروعه النقدي» الذي هو خليط، شيء ما يشبه شيئا، ويكفي استعراض إصداراته وآرائه ومواقفه المتضاربة، التي لا يجمع بينها سوى وضع كلمة «نقد» كتصنيف، بمثابة «البيض» الذي يجمع بين مختلف الشكشوكات. لكي يكون منصفاً وموضوعياً: هل شارك في ورشة ما، معلماً أو متعلماً؟ هل قرأ نصاً لمشترِك في ورشة قبل دخولها ونصاً بعد الخروج منها ولاحظ الفرق؟ هل اطلع على تجارب ودراسات تقييمية لآلاف الورش في العالم؟ ورش الكتابة صارت تدخل حتى في المواد الجامعية، وأقيمت لها الكثير من المؤسسات وتدعمها بعض الدول وتقدم المنح للمشاركين فيها، ولم أسمع أبداً عن أحد ندم لدخوله في ورشة وإنما العكس؛ الندم على عدم دخولها من قبل، فهي تعليم كأي تعليم آخر، حالها كأي ورش عملية تخص أي ميدان آخر أو صنعة أخرى، والعرب قديماً كانوا يصفون الأدب بأنه «حرفة» و«صنعة»، وكانت له أسواق وأماكن وملتقيات ودكاكين وصالونات كأسواق الوراقين والمربد وعكاظ وغيرها، وفي العصر الحديث، كثير من كتاب العالم شاركوا فيها كمتعلمين أو كمعلمين كماركيز ويوسا وفوينتس وغيرهم. وحسب تجربتي مع الورش، معلماً ومتعلماً، في أكثر من بلد وجامعة، وجدتها عملية، علمية، نافعة ومثمرة، وأدعو لتسريع تفعيلها وتنشيطها في عالمنا العربي.

• ترى ضرورة وجود محرر أدبي فيما هناك أدباء كثيرون يرون أنّ وجود المحرر الأدبي يلغي الكاتب ويوجد كاتبا آخر مختلفا.. ما رأيك؟

•• هذه قضية مهمة أيضاً، وهي تشبه تماماً قضية ورش الكتابة، وهي الأخرى، أرى ضرورة تسريع الاهتمام بها بجدية وإدخال وظيفة المحرر الأدبي في دور النشر، والتي ما زال البعض يرفضها أو يتوجس أو يسخر منها أيضاً، وقد لمست أهميتها شخصياً بفضل تعاملي المباشر مع محررين محترفين في دور نشر أجنبية، وكم يؤسفني أنني قرأت مئات الأعمال العربية الجيدة والمهمة في مواضيعها وطريقة تناولها، المنشورة، وغير المنشورة من خلال المساهمة في لجان تحكيم، ولكنها ذهبت أدراج النسيان وخسرناها، فلو أن يد محرر أدبي مرت عليها لشذبتها وضبطتها وأحكمت الكثير من بنائها وإزالة الترهل وما إلى ذلك. أغلب الكتاب الكبار ودور النشر الكبيرة في العالم لديهم محررون والكل يتباهى بذلك ويعتز ويشكر، ماركيز نفسه شكر المحرر الأدبي الذي حذف من روايته «مئة عام من العزلة» نحو مئة صفحة، وقال بأنه لولا فضل المحرر لما كانت على ما هي عليه الآن ولما وصلت إلى ما وصلت إليه.

• أنت لا ترى الرواية للمتعة فقط ولكنك تراها معرفة أيضاً.. كيف يمكن تحقيق ذلك؟

•• نعم، فالمتعة لوحدها أو لذاتها، متوفرة ومتاحة في مجالات أخرى كثيرة، بل وأرخص وأسهل وأكثر إمتاعاً، غير الكتابة أو الانعزال وحيداً مع كتاب، لذا أرى ضرورة أن تتضمن الرواية جانباً معرفياً، فالمعرفة هي أيضاً متعة، بل إني أراها ألذ المتع وأكثرها نفعاً ومطاولة. ولو تفحصنا أية رواية خالدة أو ناجحة في العالم لوجدنا أنها تنطوي على جوانب معرفية كثيرة، سواء ما يتعلق بالنفس البشرية، القيم الأخلاقية، القضايا الإنسانية، العلاقات الاجتماعية، المتغيرات والظروف التاريخية والسياسية والجمالية وغيرها.