من قتل محسن.. قاسم.. المهندس ؟!
الخميس / 19 / ربيع الثاني / 1442 هـ الجمعة 04 ديسمبر 2020 00:22
محمد مفتي
في الثامن عشر من شهر أكتوبر لعام 1944، أقيمت جنازة عسكرية مهيبة لأهم قادة جيوش هتلر، وهو المارشال رومل؛ أحد قادة الحرب الألمان خلال الحربين الأولى والثانية والملقب بثعلب الصحراء، كان الجنود يحملون النعش بقلوب واجفة حزناً على موت القائد المحنك الذي حقق انتصارات متتالية لألمانيا خلال أحلك الظروف التي مرت بها، وقد نعى هتلر هذا المارشال بخطبة عصماء مشيداً بشرفه العسكري وبإنجازاته العظيمة، غير أنه بعد سقوط النظام النازي وهزيمة ألمانيا وانتحار هتلر نفسه، خرجت أسرة رومل للعالم كاسرين صمتهم ومعلنين أن قائد ألمانيا الشجاع لم يمت بأزمة قلبية كما أشيع!.
قبل هذه الجنازة بأيام وصل إلى منزل رومل جنرالان ألمانيان يحملان للمارشال رسالة من هتلر؛ حيث أخبراه أن المخابرات الألمانية اكتشفت مؤامرة سرية تورط فيها رومل لاغتيال هتلر، وأخبراه أنهما يحملان رسالة من الفوهرر «هتلر» يخيره من خلالها ما بين الانتحار بسم السيانيد الذي كان الجنرالان يحملانه، أو المحاكمة واتهامه بالخيانة العظمى ومن ثم إعدامه، وقد فضل رومل الخيار الأول على أن يُجرَّم في قضية تخل بشرفه العسكري، وقد اتضح فيما بعد أن شعبية رومل كان تزداد في قلوب الجيش الألماني، الذي بدأ يتذمر تجاه حماقات هتلر، مما حدا بالأخير لتصفيته على هذا النحو.
وفي سياق آخر مختلف ولكن مشابه، وتحديداً في الخامس من مايو عام 1989 ظهر الرئيس العراقي الأسبق صدام حسين على شاشات التليفزيون العراقية بصحبة أسرته في زيارة لإحدى المناطق شمالي العراق، وقد ظهر بجانبه صهره ووزير دفاعه عدنان خير الله، كان مشهد الزيارة ودياً تماماً بما يوحي بتماسك النظام، وبعد ساعات من هذه الزيارة توقف التلفزيون العراقي عن البث وظهر المذيع ليعلن للشعب العراقي بحزن أن وزير الدفاع لقى حتفه إثر سقوط طائرته السمتية وهو عائد من تلك الزيارة إلى بغداد.
تقدم صدام حسين جنازة عسكرية مهيبة للفقيد، وقد اتفقت الكثير من المؤلفات العراقية أن الوزير خير الله كان يحظى بشعبية كبيرة بين قادة وجنود الجيش العراقي، بسبب إخلاصه وكفاءته واحترامه للجميع، ومن الواضح أن هذه الشعبية كانت تؤرق هاجس الرئيس صدام حسين كثيراً، وقد سرت شائعات في أروقة الجيش وقتها أن خير الله هو أفضل من يخلف الرئيس العراقي الذي بدأت شعبيته تتهاوى وخاصة بين صفوف الجيش العراقي.
وفي سياق حديث مقارب نلاحظ أن الاغتيالات المتتابعة لرموز طهران التابعة لمؤسستها العسكرية -ولاسيما المتعلقة بالملف النووي- قد أثارت بعض الاستغراب أثناء توقيت حدوثها؛ ففي بداية العام الحالي وصلت إلى الولايات المتحدة معلومات دقيقة عن مكان تواجد سليماني وأبو مهدي المهندس في العراق وعن خط سيرهما، بل وتوقيت تحركاتهما، وهو ما دعا الولايات المتحدة إلى المسارعة بتصفيتهما، وفي الأسبوع الماضي اغتيل محسن زاده كبير مسؤولي الملف النووي الإيراني في عملية غامضة.
لا شك أن محسن زاده، وقاسم سليماني، والمهندس، قدموا الكثير للنظام الإيراني، ومن المؤكد أن نظام طهران يضع في حسبانه احتمالية اختطافهم أو اغتيالهم في أي لحظة، لذلك فمن غير الممكن -بل من المستحيل- أنه لم يقم بتأهيل الجيل الثاني فيما لو رحل هؤلاء بشكل أو بآخر، والمتتبع لوسائل الإعلام العالمية خلال الفترة التي سبقت عملية الاغتيالات يجد أن هناك موجة شرسة من قبل بعض الحكومات والمنظمات الدولية تجاه هؤلاء الأشخاص الذين تم اغتيالهم تحديداً.
من المؤكد أن محسن وقاسم والمهندس أصبحوا يشكلون عبئاً على النظام بعد تداول أسمائهم في أجهزة المخابرات الغربية، كونهم الصندوق الأسود لجميع العمليات القذرة لنظام طهران، وهذا لا يعني -في المقابل- أن إيران قامت بتصفيتهم، ولعل جهاز الشاباك قام بتسريب بعض المعلومات التي سرعان ما التقطتها الأطراف المعادية التي تمكنت من اغتيالهم لاحقاً، وهذا الأمر يذكرنا بحالة صبري البنا، الذي كان مقيماً في العراق ويقوم بأعمال إرهابية لصالح النظام، فعقب أحداث 11 سبتمبر صرحت الولايات المتحدة بأن العراق يؤوي العديد من الإرهابيين ومنهم صبري البنا، ولذلك فسوف يكون هدفاً محتملاً، وما هي إلا أيام قليلة من صدور تلك التصريحات حتى ورد إلى الشرطة العراقية بلاغاً أمنياً يفيد باغتيال شخصية مهمة اتضح فيما بعد أنه صبري البنا.
ما إن تمت عملية مقتل زاده حتى صرح نظام طهران بضلوع إسرائيل في تلك العملية، وبغض النظر عن صحة أو عدم صحة هذه المعلومات فقد أثار انتباهي تصريح أمين سر المجلس الأمني الإيراني «علي شمخاني»، الذي نشرته قناة «روسيا اليوم» بأن أجهزة الأمن تلقت معلومات عن العملية وموقعها، ولكنها لم تأخذ الأمر مأخذ الجد، وأن إيران لديها الكثير من أمثال محسن زاده لاستكمال مشروعها النووي!.
أثارت عبارة «لم تأخذ الأمر مأخذ الجد» انتباهي خاصة لشخصية تعتبرها إيران محورية في مشروعها النووي، ومن المؤكد أني لا أزعم بصحة الاستنتاجات السابقة بشكل يقيني، ولكني في المقابل لا أندفع نحو تصديق التحليلات المعلبة والجاهزة التي يطلقها نظام طهران، ولكني استعرض بعض الأحداث المتشابهة واستدعي من التاريخ ما يؤيدها، ثم أترك الحرية للقارئ ليبني استنتاجه الخاص، ولكنه الاستنتاج الذي ينبغي أن يؤُسس على معرفة واعية بالحقائق الموضوعية ويُبنى على فهم معمق للأحداث التاريخية.
كاتب سعودي
Prof_Mufti@
dr.mufti@acctecon.com
قبل هذه الجنازة بأيام وصل إلى منزل رومل جنرالان ألمانيان يحملان للمارشال رسالة من هتلر؛ حيث أخبراه أن المخابرات الألمانية اكتشفت مؤامرة سرية تورط فيها رومل لاغتيال هتلر، وأخبراه أنهما يحملان رسالة من الفوهرر «هتلر» يخيره من خلالها ما بين الانتحار بسم السيانيد الذي كان الجنرالان يحملانه، أو المحاكمة واتهامه بالخيانة العظمى ومن ثم إعدامه، وقد فضل رومل الخيار الأول على أن يُجرَّم في قضية تخل بشرفه العسكري، وقد اتضح فيما بعد أن شعبية رومل كان تزداد في قلوب الجيش الألماني، الذي بدأ يتذمر تجاه حماقات هتلر، مما حدا بالأخير لتصفيته على هذا النحو.
وفي سياق آخر مختلف ولكن مشابه، وتحديداً في الخامس من مايو عام 1989 ظهر الرئيس العراقي الأسبق صدام حسين على شاشات التليفزيون العراقية بصحبة أسرته في زيارة لإحدى المناطق شمالي العراق، وقد ظهر بجانبه صهره ووزير دفاعه عدنان خير الله، كان مشهد الزيارة ودياً تماماً بما يوحي بتماسك النظام، وبعد ساعات من هذه الزيارة توقف التلفزيون العراقي عن البث وظهر المذيع ليعلن للشعب العراقي بحزن أن وزير الدفاع لقى حتفه إثر سقوط طائرته السمتية وهو عائد من تلك الزيارة إلى بغداد.
تقدم صدام حسين جنازة عسكرية مهيبة للفقيد، وقد اتفقت الكثير من المؤلفات العراقية أن الوزير خير الله كان يحظى بشعبية كبيرة بين قادة وجنود الجيش العراقي، بسبب إخلاصه وكفاءته واحترامه للجميع، ومن الواضح أن هذه الشعبية كانت تؤرق هاجس الرئيس صدام حسين كثيراً، وقد سرت شائعات في أروقة الجيش وقتها أن خير الله هو أفضل من يخلف الرئيس العراقي الذي بدأت شعبيته تتهاوى وخاصة بين صفوف الجيش العراقي.
وفي سياق حديث مقارب نلاحظ أن الاغتيالات المتتابعة لرموز طهران التابعة لمؤسستها العسكرية -ولاسيما المتعلقة بالملف النووي- قد أثارت بعض الاستغراب أثناء توقيت حدوثها؛ ففي بداية العام الحالي وصلت إلى الولايات المتحدة معلومات دقيقة عن مكان تواجد سليماني وأبو مهدي المهندس في العراق وعن خط سيرهما، بل وتوقيت تحركاتهما، وهو ما دعا الولايات المتحدة إلى المسارعة بتصفيتهما، وفي الأسبوع الماضي اغتيل محسن زاده كبير مسؤولي الملف النووي الإيراني في عملية غامضة.
لا شك أن محسن زاده، وقاسم سليماني، والمهندس، قدموا الكثير للنظام الإيراني، ومن المؤكد أن نظام طهران يضع في حسبانه احتمالية اختطافهم أو اغتيالهم في أي لحظة، لذلك فمن غير الممكن -بل من المستحيل- أنه لم يقم بتأهيل الجيل الثاني فيما لو رحل هؤلاء بشكل أو بآخر، والمتتبع لوسائل الإعلام العالمية خلال الفترة التي سبقت عملية الاغتيالات يجد أن هناك موجة شرسة من قبل بعض الحكومات والمنظمات الدولية تجاه هؤلاء الأشخاص الذين تم اغتيالهم تحديداً.
من المؤكد أن محسن وقاسم والمهندس أصبحوا يشكلون عبئاً على النظام بعد تداول أسمائهم في أجهزة المخابرات الغربية، كونهم الصندوق الأسود لجميع العمليات القذرة لنظام طهران، وهذا لا يعني -في المقابل- أن إيران قامت بتصفيتهم، ولعل جهاز الشاباك قام بتسريب بعض المعلومات التي سرعان ما التقطتها الأطراف المعادية التي تمكنت من اغتيالهم لاحقاً، وهذا الأمر يذكرنا بحالة صبري البنا، الذي كان مقيماً في العراق ويقوم بأعمال إرهابية لصالح النظام، فعقب أحداث 11 سبتمبر صرحت الولايات المتحدة بأن العراق يؤوي العديد من الإرهابيين ومنهم صبري البنا، ولذلك فسوف يكون هدفاً محتملاً، وما هي إلا أيام قليلة من صدور تلك التصريحات حتى ورد إلى الشرطة العراقية بلاغاً أمنياً يفيد باغتيال شخصية مهمة اتضح فيما بعد أنه صبري البنا.
ما إن تمت عملية مقتل زاده حتى صرح نظام طهران بضلوع إسرائيل في تلك العملية، وبغض النظر عن صحة أو عدم صحة هذه المعلومات فقد أثار انتباهي تصريح أمين سر المجلس الأمني الإيراني «علي شمخاني»، الذي نشرته قناة «روسيا اليوم» بأن أجهزة الأمن تلقت معلومات عن العملية وموقعها، ولكنها لم تأخذ الأمر مأخذ الجد، وأن إيران لديها الكثير من أمثال محسن زاده لاستكمال مشروعها النووي!.
أثارت عبارة «لم تأخذ الأمر مأخذ الجد» انتباهي خاصة لشخصية تعتبرها إيران محورية في مشروعها النووي، ومن المؤكد أني لا أزعم بصحة الاستنتاجات السابقة بشكل يقيني، ولكني في المقابل لا أندفع نحو تصديق التحليلات المعلبة والجاهزة التي يطلقها نظام طهران، ولكني استعرض بعض الأحداث المتشابهة واستدعي من التاريخ ما يؤيدها، ثم أترك الحرية للقارئ ليبني استنتاجه الخاص، ولكنه الاستنتاج الذي ينبغي أن يؤُسس على معرفة واعية بالحقائق الموضوعية ويُبنى على فهم معمق للأحداث التاريخية.
كاتب سعودي
Prof_Mufti@
dr.mufti@acctecon.com