كتاب ومقالات

مسواك الصويّان وعصا قينان

علي بن محمد الرباعي

بمهارة الحكي نجحت (شهرزاد) في إنقاذ بنات جنسها من وحشية (شهريار) بطل حكايات ألف ليلة وليلة، الذي قرر تصفية النساء بسبب ما عاينه من خيانة زوجية، وشرع في الانتقام من جميع بنات حواء، بالاقتران بالفتاة ليلاً وقطع رقبتها في الصباح.

راهنت العروس على مواهبها، وعندما دخل عليها العريس ليلة الزفاف باشرته بالقصة الأولى: «جلس تاجر تحت شجرة ليتفيأ من شدة الحر، وبدأ يأكل تمرات كانت معه، ولما فرغ من أكلها رمى نواة فأصابت صدر ابن العفريت فمات، فخرج العفريت وبيده سيف يريد ذبحه، فطلب منه التاجر مهلة يعود فيها لبيته ويسدد ديونه ويعطي لكل ذي حقٍ حقه ثم يعود للعفريت كي يقتله....». وفي أعلى مراتب التشويق تثاءبتْ، وتوقّفتْ عن الكلام المباح.

استنتجتْ الحكّاءة عِلته، ورصدت نقطة ضعفه، وتلمّست سبب شقائه، فداوته بالتأليف والتسريد عليه من العجائب والغرائب ما طبب روحه وملأ قلبه افتتاناً بالراوي والمروي، فاتصلت أسباب العشق بينه وبينها وما إن يحين الغروب إلا وهو متبرم بالانتظار ويتشوّف ويتشوّق للسماع حتى أذابت بفن العرض بواعث التشفي والانتقام وحلّ محلها الحب والغرام.

لفتني عدد قراءات مقالة العالِم سعد الصويان في «عكاظ» (من تكسير الدشوش إلى هيئة الترفيه) التي قاربت ثلاثمائة ألف قراءة، فتيقنتُ أن هناك قراء نهمين يراقبون ويترقبون الجيّد الجاد برغم أن الخطر يحدق بالمكتوب من كل حدب وصوب، في زمن مفتون بالصورة، ومهووس بالمشاهدة، ومستلب بالتسويق، ومرهق بالأعباء الخاصة والعامة، إلا أن القارئ المعرفي حاضر وفطن وحَدِس شأن قصّاص أثر ملهم، فراسته تؤهله للتفريق بين البصمة الأصلية والزائفة.

منذ أسابيع، لوّح لي شيخنا الصويان بالسواك منبهاً على حاجة الوطن لكُتّاب يُفككون أيديولوجيا التوحش بخطاب التأنّس، ويتخطّون زمن العنف على جسور اللطف، ليشد من أزري، فيما هش أستاذي قينان الغامدي عليّ بعصاه. وكتب لي «القصة تحتاج تتمة، وتحتاج حبكة أكثر تأثيرا، الأبطال موجودون في القصة، لكن الرباعي غير موجود كما أعرفه» انتابتني رعدة. وقلت لنفسي؛ كم قارئ بقامات قينان والصويان يقرءان ما نكتب؟ وما انطباع الأساتذة القراء عن الطالب القروي؟

لو كانت الكتابة سيدة، لقامت من مقامها ودارت حول نفسها، وشدت ضفائرها، وقضمت أضافرها وهي تعصف ذهنها لتوفير حِيلة فنية تستقطب بها القراء وتستحوذ على إعجابهم وتنتزع دهشتهم برشاقتها وخفة دمها ولأقتنت أحدث موديلات الأزياء وآخر صرعات التجميل، وأثمن منتجات الأناقة، حتى لا تخسر من عُشاقها وقاصديها أحداً.

ربما لا يطمح القارئ (شهريار) دوماً لتوفر كاتبا يحتال عليه على طريقة (شهرزاد) لانتشاله من حالته، وتعليقه بأقصوصة مسليّة له، فالقارئ يطمح لحلحلة أزماته وتناول إشكالاته، والاحترافي من القُراء يشكّل مصدر إزعاج وخطورة، ولا يقبل كتابة ولن يُقْبِل عليها لو استشعر شيئاً من خيانة كاتب أو استخوان مكتوب، بالمحاكاة، والتناص والتلاص واستنساخ مقاطع قوقلية، أو قص ولزق حروف وكلمات، واستنساخ مصطلحات، ليملأ عموداً بكلام ليس من رسمه ولا شيء منه فيه سوى اسمه أو اسمها!

يسكن الكاتب المهني هاجس الاحتفاظ بقارئه، إلا أن الهاجس الأعظم يتمثل فيما ينتابه إثر نشر صحيفة مقالته، فتخامره احتمالات، وتساوره ظنون تسرح به وتمرح، فماذا لو اكتشف قارئ خللاً أو زللاً، أو احتيالاً عليه، خصوصاً أن له حصانة لا تتسامح مع منتهك وقته الثمين بشوية كلام، وبعض الكتاب الكرام ربما لا يجهد كثيراً في ما يكتب متغافلاً قراء ثقافتهم أوسع من ثقافته وذائقتهم أرقُّ وأرقى.

سلطة القارئ قائمة وزاويته حادة وسيفه الشهرياري مصلت، والكاتب لا يملك حق محاسبة القراء، بينما يملك القراء صلاحيات وحيثيات قطع عنقه (مجازاً) بعدم الالتفات لما يكتب، ومن مصطلحات القرن (سلطة الجمهور)، التي يميل لها كُتّاب فينزلق بهم ما يطلبه عشاق الإثارة إلى تناول الشائك والمشكوك فيه فيذهب ضحية شكة، ولا يجد قارئا سائلاً عنه، وربما قال أمثلهم طريقة «لا يهمنا حضورك، ولم يسؤنا غيابك».

احترام هيبة ومقام القارئ ضرورة، بل هو جزء من احترام الكاتب لنفسه. إلا أن الكتابة لا ينبغي أن تراعي القارئ باعتباره الحكم فقط. فعلى الكاتب مراعاة حق لله، وحق الوطن عليه، إضافةً لحق ضميره الحي، إذ إن الصدق في الكتابة مريح لضمير الكاتب، ومعزز لقدراته أن تحمل التبعات.

لا يكتب إلا جسور، ولا جسارة إلا بثقافة، ولا ثقافة إلا بقراءة، ولا قراءة إلا بأمن اجتماعي ومعيشي، ولا أمن إلا عندما يكون الوطن بخير. وقديماً قيل «من أدركته حرفة الكتابة والأدب، أدركه الفقر»، كونه يصرف وقته في البحث وينسى طلب الرزق فيقع في (عيلة) على أمل أن يغنيه الله من فضله.

أكتب الآن وعلى رأسي الصويان وقينان، وأرجو ألا تنطبق عليّ قصة الزمار الذي كان يبعث الشجن بنفث مشاعره في (الناي) مقابل أعطيات وتبرعات محسنين، وعندما شحّت الحال، وتوقفوا عن العطاء، ذهب لساحة أمام المسجد، وانتظر يمر به أحد ليطربه وينقده، حتى فقد الأمل، فسأل: أين العباد؟ فقالوا: المسجد مغلق للترميم، فبدأ يزمّر وينظر للسماء مردداً «لله يا زمري».

كاتب سعودي

Al_ARobai@