كتاب ومقالات

«تمكين المرأة» حضور لتغييب متعمد !

منى المالكي

فلسفة الأشياء بمعنى مساءلتها والوقوف على أسسها المعرفية في محاولة لفهمها وللخروج من مأزق حضاري يفرضه الزمن المتغير والواقع المعاصر، فالفلسفة في حقيقتها هي التفكير في جميع شؤون الحياة من أجل إسعاد الإنسان وتحسين حياته العامة، ولا يمكن الاستمرار في ذلك إلا بفضل رؤية نقدية تضع الأشياء والحياة والواقع موضوع التأمل والتساؤل والاحتواء... ومن تلك الأمور التي برزت وشكلت حضوراً قوياً بل ومؤثراً في تشكيل صورة الإسلام والعرب هي (المرأة)، فمنذ العصر الجاهلي -مع تحفظي الشديد على التسمية- إلى وقتنا الحاضر والمرأة بين مدٍّ وجزر تعيش بين حالتي حضور وتجلٍ ثم غياب -والأدق- تغييب! ومن هنا تبدأ المساءلة لهذا الإرث العظيم الذي مازال إلى يومنا الحاضر موضع بحث ودراسة، وكأن الأصل هو غيابها، أمَّا حضورها فهو ما يُسأل عنه!

ومن فترة لأخرى يظهر مشروع حضاري يعيد للمرأة مكانتها وحضورها المستحق، فمنذ فجر الإسلام وحضور أسماء فاعلة وقوية تتصدر المشهد الاجتماعي والثقافي السياسي، وأردت البدء من هنا لأننا -للأسف- لا نجد مصادر يُعتد بها للبحث في موضوع المرأة -قبل الإسلام- إلا القليل بعكس المراحل التي تلت، فالسيدة خديجة بنت خويلد وأسماء وعائشة وسمية أم عمار وأم سلمة الأنصارية وحفصة ونسيبة بنت كعب وهند بنت عتبة وغيرهن حاضرات في عصر البعثة المحمدية؛ وهي المرحلة التالية -للجاهلية-، ولكن من المؤكد أن هذه الأسماء لم تكن هي كل النساء الفاعلات في ذلك الزمن، بدليل أننا نجد المرويات في كتب التراث تواظب على قولٍ يتكرر، قالت امرأة عربية، وسمع الخليفةُ امرأة تقول، وأقبلت امرأة من بني كذا، وأنشدت امرأة، وصاحت امرأة، دون أي تعريف بتلك المرأة اسماً وانتماءً.

ثم تمضي بنا المرويات إلى العصر العباسي حتى عصر النهضة الحديثة مروراً بحركات الإسلام السياسي، وهذه مرحلة تحولات عظيمة كما أنها فترة زمنية كبيرة جداً! عاشت بها المرأة مراحل صعود وهبوط جدير بالدراسة والبحث، وأعلم أن هناك كمّاً هائلاً من الدراسات حول المرأة، وأعتقد أن «زمن الكتابة» مثلاً الذي -في نظري- هو السبب الرئيس في تغييب المرأة سياسياً وثقافياً واجتماعياً في ظاهرة «المحو»؛ تلك الظاهرة التي عانت منها المرأة كثيراً، يظهر ذلك من خلال تغييب متعمد في كتب التراث العربي واستبدال تلك الأسماء الفاعلة في كتب التاريخ مثلاً -فإن دعت حاجة المؤرخ- لذكر حادثة لا مناص من وجود امرأة اختصر ذلك الحضور في جملة -امرأة عربية- في كتب التراث أو- امرأة مسلمة- في حركات الإسلام السياسي مثلاً «فقد ظلت المرأة موضوعاً وليست ذاتاً فاعلة، وكلُّ الخطر يكمن في تشيئ الإنسان ومصـادرته وانتزاعه من ذاته الإنسانية وتحويله لشيء أو موضوعٍ يُحكى عنه؛ لأنه حينها سيغادر ذاته وهويته وسيغيب صوته كما غاب صوت المرأة العربية عبر القرون»..

حتى نصل لزمن -الرؤية- وهو زمن سيكون له حضور بالغ الأهمية في دراسات وأبحاث المرأة في المملكة العربية السعودية، هذا الحضور من خلال مشروع (تمكين المرأة) الذي اختصر مسافات هائلة من التهميش والإقصاء في تاريخ المرأة السعودية من مرحلة التوحيد إلى الألفية الثانية. والمفارقة في (الرؤية) أنها لم تكتف بالتشريع فقط بل ذهبت إلى أبعد من ذلك، فقد فرضت بقوة النظام المشروع، فارتفعت مؤشرات تمكين المرأة السعودية وتغيرت قوانين الأحوال الشخصية في الطلاق والنفقة والحضانة، بينما حكومات الدول المدّعية التي تشتغل فيها الشعارات الزائفة ويغيب الفعل الحقيقي، إن كانوا وما زالوا يرفعون شعارات تكافؤ المرأة مع الرجل وأهمية الأدوار التي تؤديها النساء في المجتمع في كل المؤتمرات، ثم ينسون التوصيات حال خروجهم من جلسات المؤتمر!

وتشريح وتفكيك مشروع حضور و(تمكين المرأة) لا يسعه مقال واحد، بل أرى أنه يكون ضمن مشاريع وزارة الثقافة في دراسات وأبحاث ومؤتمرات كذلك الجامعات لأسباب منها: فهمه الفهم الصحيح حتى يحقق الأثر الحقيقي المرجو منه، فالمحافظة والبقاء على مشروع حضاري مهم لم يكن لولا إرادة سياسية وقرار قوي وجريء، وهذا ما يجب أن يعيه الجيل القادم من النساء، واستمرارية الدعم للمرأة بعد حصولها على الحقوق هو الفعل الحقيقي المرجو والمأمول من المرأة السعودية، وهو العمل على رفع مستوى الواجبات المنوط بقيامها من المرأة، فالمجتمع الذي يعلو فيه الواجب على الحق هو مجتمع مزدهر حضاري بعكس مجتمع المطالبة فقط بالحقوق والتهاون في أداء الواجبات!

كاتبة سعودية

monaalmaliki@