كتاب ومقالات

الحب والعنف

أسامة يماني

كتبت عن الميراث المشترك وكيف أن الأديان السماوية واحدة مستشهداً بقوله تعالى: «شَرَعَ لَكُم مِنَ الدِينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَذِى أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ (أي يا محمد) وَمَا وَصَيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِينَ وَلاَ تَتَفَرَقُوا فِيهِ». فاستكبر بعض مِّن مَّن يعتقد أنه يملك الحقيقة المطلقة هذا القول جهلاً منهم وعدواناً.

لقد غاب عن هؤلاء الذين يعتقدون أنهم يملكون الحقيقة المطلقة أن هذا الافتراض كان سبباً أساسياً ومحركاً من محركات العنف عبر التاريخ. والأمثلة القديمة والحديثة كثر؛ فقد دمر وخرب المسيحيون في الإسكندرية كل مظاهر الحضارة اليونانية الرومانية، وسحلوا وقتلوا عالمة الرياضيات الشهيرة «هيباتيا» التي تخالفهم المعتقد.

والحملات الصليبية في القرون الوسطى التي أطلقتها الكنيسة تقوم على نفس وذات الافتراض. وداعش هي الوجه الحديث لفرضية ملك الحقيقة المطلقة وكذلك رجال الصحوة والإخونجية.

في المقابل نجد أن الروحانية التي تقوم أصولها على الحب والمحبة ظاهرة جلية في كثير من الآيات القرآنية التي بلغ مجموعها 84 آية. مثل «وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ». و«قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ»٠

هذا الحب هو الذي يجعل الإنسان قابلاً للآخر، وهو الذي يمكن صاحبه من رؤية الجمال ورؤية إبداع الخالق «بَدِيعُ ٱلسَّمَٰاوَٰتِ وَٱلْأَرْضِ».

لهذا فالذين تخلصوا من توهُّم الأفضلية، والاعتقاد بأن الحقيقة طريقتهم، يقبلون الآخر ويحترمون التنوع والتباين. يقول الشيخ الأكبر محيي الدين بن عربي:

لقد كنت قبل اليوم أنكر صاحبي

إذا لم يكن ديني إلى دينه داني

لقد صارَ قلـبي قابلاً كلَ صُـورةٍ

فـمرعىً لغـــــزلانٍ ودَيرٌ لرُهبـَــــانِ

ِوبيتٌ لأوثــانٍ وكعـــبةُ طـائـــفٍ

وألـواحُ تـوراةٍ ومصـحفُ قــــــرآن

أديـنُ بدينِ الحــــبِ أنّى توجّـهـتْ ركـائـبهُ، فالحبُّ ديـني وإيـمَاني.

إن التباين والتنوع في الألوان والأشكال، واختلاف الليل والنهار سنة من سنن الكون. وإن الإنسانية تكمن قوتها وجمالها في اختلاف مشاربها وثقافاتها وأصولها وأعراقها. لهذا فالفكر الظلامي لا يرى الجمال وإنما يرى النار والويل والثبور وعظائم الأمور لكل مخالف لما يراه صواباً.

إن عصور الظلام والتخلف التي أصابت المجتمعات الإسلامية هي من أبدل قبول الآخر إلى رفضه وإنكاره. قال تعالى: «وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ».

لهذا يجب أن لا يكون الاختلاف سبباً يمنع من قبول الآخر، وأن يُعيد أصحاب مفهوم امتلاك الحقيقة المطلقة مراجعة أنفسهم ليخرجوا من أغلال أفكارهم وتوهمهم؛ فلا أحد يملك الحقيقة المطلقة، وإنما يترقى الإنسان ويصعد ويتقدم من خلال إعادة النظر والشك والنقد، وليس من خلال إعطاء عقله لغيره والتسليم بكل قال وقيل بدون فحص وتمحيص. والله ولي التوفيق.

كاتب سعودي

‏yamani.osama@gmail.com