كتاب ومقالات

حين ينقلب السحر على الساحر

مالك عبيد

تعد القيم المهنية والأخلاقية في مجال الإعلام أحد أبرز ضحايا الثورة الرقمية المتسارعة في غزوها للعالم، الأمر الذي هدد وبشكل واضح مسألة الموثوقية بالإعلام وفعاليته في أداء دوره بنقل الأخبار وطرح الآراء، وقدرة الإعلان على الإقناع، بالإضافة إلى تقلص دوره في التنشئة الاجتماعية والسياسية. يحدث هذا بالرغم من مساحة الحرية التي منحتها الثورة التقنية لوسائل التواصل الاجتماعي وتطبيقاتها المختلفة بصفتها وسائل للنشر والبث والتواصل بشكل جماهيري وبلا حدود. الأمر الذي دفعها إلى مزاحمة وسائل الإعلام التقليدية وتهديد دورها من جهة. بل وأضعف من قدرة التشريعات والقوانين ومواثيق الشرف على استيعاب حجم التغير وسرعته أو التحكم به. فمن خلال الأجهزة الذكية وتطبيقاتها واقتحام الذكاء الصناعي لميادين الإعلام ارتفعت أعداد ونسب المستخدمين واتسعت مساحة الانتشار وانخفضت التكلفة بشكل ملحوظ، وذابت فكرة التخصص أمام اقتحام كل من امتلك جهازاً ذكياً بغض النظر عن علاقته بمهنة الإعلام. ولم تعد العناصر المكونة للخبر الصحافي -على سبيل المثال- حكراً على فئة المتخصص بل باتت أمراً مشاعاً وبلا سقف يحد أو ينظم عملية النشر والتعليق والتفاعل. وذاب مفهوم الصحافي أو الإعلامي ليصبح كل من يحرز الانتشار على وسائل التواصل الاجتماعي بشكل عام يعد شخصية إعلامية. وكأن مهنة الإعلام وصناعته باتت تعيد تأسيس نفسها على أسس ومعايير الانتشار والجماهيرية والنجومية بالدرجة الأولى.

عقود مضت ومنسوب الحريات الصحافية هو العقدة والشغل الشاغل لكل من الصحافي والرقيب على حد سواء، لما للحرية من دور في التأثير سلباً أو إيجاباً على مهمة الإعلام كرسالة. حتى انكشف الستار على ما لم يكن بالحسبان، حين أذابت التقنية كل أنواع الحواجز وفتحت الأبواب على مصاريعها، وبات امتداد الشبكة العنكبوتية لا يعترف بجغرافيا التضاريس والحدود، ولم تعد الاحتكارية ولا القدرة على المنع أمراً واقعياً أو منطقياً، انطلاقاً من حقيقة مفادها أن العالم اليوم لم يعد قرية صغيرة بل هو «جهاز ذكي».

تجربة الإعلام والإعلاميين خلال الثورة التقنية لم ولن تكون بالأمر السهل. فقد أعطت الإعلاميين أكبر بكثير مما كانوا يحلمون به، وفقد الرقيب قدرته على السيطرة أو التحكم بنسب الإفساح والمنع بشكل كامل حتى أصبحت أية محاولة لتتبع هوية رقمية لناشر ما أو لمكان تواجده، في ظل غياب المعرفات الموثوقة، أمراً مستحيلاً ومكلفاً. وبناءً على هذه التجربة، وللحفاظ على البناء الأخلاقي والمهني للإعلام على الجميع أن يدرك أن الواقع الإعلامي بالمرحلة الحالية والقادمة سيعتمد بالدرجة الأولى على الكيفية والقوة بالحضور وفقاً لمتطلبات المرحلة الرقمية، ووفقاً لغياب دور ما يعرف لدى الباحثين الأكاديميين بحارس البوابة.. فوسط هذا العدد الهائل من القنوات والخدمات الإخبارية وعشوائية النشر وتعرض المجتمعات لمواجات من الغبار الإلكتروني المكثف لن يكون كسب ثقة الجمهور والتأثير فيه بالأمر الهين. وعلى الجميع أن يدرك أن الإعلام قبل التقنية ليس كما هو بعده.

أما قميص الحريات التي ظل الصحافيون يرفعونه في كل شاردة وواردة فلم يعد يعبر عن الواقع بأي شكل من الأشكال. وليس أمام من يقودون العملية الإعلامية إلا أن يواجهوا تحدياتهم المقبلة بعد أن انقلب سحر الحرية بالإعلام على الإعلام بحد ذاته كتشريعات وأصول ومفاهيم. وبعد أن وصل الماء لكل البيوت في «حارة السقائين»، ولم يعد للتابوهات الكلاسيكية القدرة على الوقوف أمام حركة التاريخ وإيقاع تجدده.