في ذكرى رحيل شاعر !
الاثنين / 28 / جمادى الأولى / 1442 هـ الثلاثاء 12 يناير 2021 00:12
منى المالكي
«إذا مات شاعر انطفأت نجمة، وتخاصم حبيبان، وضاع خاتم، وأصبحت الدنيا أقل»
عبدالله ثابت
هذا ما يحدث إن سلمنا بموت شاعر! ولكن هل يموت شاعر ملأ الدنيا بصوته، انظر حولك ستجد نفسك تعيد أقوالهم كلما مرَّ عليك موقف أو ذكرى فتتعطل لغتك لتنشط لغتهم تعمى عيونك عن الرؤية فتجدهم هناك في أقصى الذاكرة يسعفون دنياك المهملة الرثة برؤاهم! وكأن بيننا وبينهم ميثاقاً سرمدياً ألَّا يرحلوا وألاَّ ننسى!
وجود الشاعر لا يُقلل وجود المآسي، وجوده يجعل الحياة ممكنة، فبرحيله يتّسع تأويل المجاز، يذهب بجسده بعيداً. لكن ثمّة ما يبقى بيننا فيستحيل ندبة فينا؛ إنها القصيدة. هذا ما عناه (سركون بولص) حين قال: «المقيمون طويلاً يسلبون مقاعدنا. يحوّلون أثاث بيوتنا إلى قِطعٍ منهم. بحيث نجلس، إذا جلسنا، على ضلوعهم، على عظامهم» وجودهم بيننا يشعرنا بجمالية اللغة العصية علينا اللدنة بين أيديهم! فهم الأقرب لفهم معضلة الحياة بل والاستمتاع بها يقول درويش «على هذه الأرض ما يستحق الحياة»، هذا ما أعنيه من قدرة الشاعر على تقليص كمية البؤس وأخذنا إلى لغة الجمال، الكتابة لا يمكن أن تكون إلا منفذاً إلى عالم آخر؛ مدهش وجميل، عندما يموت الشاعر، يبكيه كل أصدقائه. كلهم يبكونه، عندما يموت الشاعر العالم كله يبكي، هذا مقطع من إحدى أغنيات المغني الفرنسي (جيلبير بيكو)، أغنية تتحدث عن موت الشعراء وما خلف هذا الشيء من إنكار لفكرة رحيلهم.
وفي دراسة طريفة لأستاذ علم النفس المساعد في جامعة كاليفورنيا جيمس كوفمان، عن (علاقة النشاط الكتابي بالموت) لدى فئات منفصلة من الكتّاب (شعراء وروائيون وكتّاب مسرح) في بحث نُشر في مجلة «دراسات الموت» (2003) وفي دراسته هذه عمل كوفمان على فحص معدّل الوفيات بطريقة إحصائية لدى 1987 كاتباً من أربع ثقافات مختلفة (أمريكا الشمالية، الصين، تركيا، أوروبا الشرقية) بالعودة إلى المراجع الأدبية والسير الذاتية المتوافرة، ضمن حقبات زمنية ممتدّة منذ عام 390 وحتى نهاية القرن العشرين. ومما اكتشفه الباحث أن متوسط أعمار الشعراء 62 عاماً، وكتاب المسرحية 63 عاماً، وكتاب الرواية 66 عاماً، وبقية الكتاب 68 عاماً. كذلك توصل الباحث إلى أن الشاعرات كن أكثر عرضة للإصابة بالمرض النفسي قبل موتهن، وهو ما ترتب عليه إيداعهن بمصحات نفسية أو انتحارهن، يموت الشعراء قبل سواهم من المبدعين الآخرين لأسباب عدة من بينها أن «صناعة» الشعر تتطلب مواصفات خاصة. ذلك أن عالمه يتعلق بدواخل الشاعر وهذا يحمّله مزيداً من الإحساس بالعبء والحزن والألم، ويستدعي تنشيطاً للخيال وقوى الإبداع. استثارة هذه الجوانب لدى الشاعر تحيله كائناً هشاً، صاحب مزاج متقلب وصعب للغاية. ويعتقد بعضهم أن الشعراء ربما يستخدمون الشعر كشكل من أشكال العلاج الذاتي لمشكلاتهم وأن الأمراض تختصر سن الوفاة.
هنا يصبح الشعر مقاوماً للموت رافضاً له، يحضر طرفة بن العبد البكري المقتول في سن السابعة والعشرين لينضم إلى شعراء المعلقات، وقد احتلت هذه المعلقة قسماً لا بأس به من ديوانه، الذي تميّز بالحس الإنساني الراقي وهو فريد من نوعه في الشعر الجاهلي، فقد احتوت قصائده الشعرية على معانٍ فلسفية عن الحياة والموت، كذلك يحضر الشاعر الإسباني لوركا الذي توفي عام 1936، وهو في الثامنة والثلاثين من عمره في غرناطة. مات مقتولاً على يد النظام الفرنكوي إبان الحرب الأهلية الإسبانية وقد كتب عنه صديقه الشاعر أنطونيو ماخادو: «في الساعة التي يطلّ فيها الضوء، لم تكن مفرزة الجلادين لتجرؤ على أن تنظر إليه وجهاً لوجه».
الكاتب الأمريكي أدغار ألن بو بدوره كان ولا يزال محور نقاش ودراسات واستفسارات لا تنقطع، لا سيما أن أفضل أعماله ظهر للناس بعد رحيله سنة 1849 وهو الذي جاء إلى الدنيا نهاية عام 1809 ولم يتمتع بالحياة أكثر من 40 عاماً فحسب.
فهل ما زلت تصدق أن الشعراء يموتون!
عبدالله ثابت
هذا ما يحدث إن سلمنا بموت شاعر! ولكن هل يموت شاعر ملأ الدنيا بصوته، انظر حولك ستجد نفسك تعيد أقوالهم كلما مرَّ عليك موقف أو ذكرى فتتعطل لغتك لتنشط لغتهم تعمى عيونك عن الرؤية فتجدهم هناك في أقصى الذاكرة يسعفون دنياك المهملة الرثة برؤاهم! وكأن بيننا وبينهم ميثاقاً سرمدياً ألَّا يرحلوا وألاَّ ننسى!
وجود الشاعر لا يُقلل وجود المآسي، وجوده يجعل الحياة ممكنة، فبرحيله يتّسع تأويل المجاز، يذهب بجسده بعيداً. لكن ثمّة ما يبقى بيننا فيستحيل ندبة فينا؛ إنها القصيدة. هذا ما عناه (سركون بولص) حين قال: «المقيمون طويلاً يسلبون مقاعدنا. يحوّلون أثاث بيوتنا إلى قِطعٍ منهم. بحيث نجلس، إذا جلسنا، على ضلوعهم، على عظامهم» وجودهم بيننا يشعرنا بجمالية اللغة العصية علينا اللدنة بين أيديهم! فهم الأقرب لفهم معضلة الحياة بل والاستمتاع بها يقول درويش «على هذه الأرض ما يستحق الحياة»، هذا ما أعنيه من قدرة الشاعر على تقليص كمية البؤس وأخذنا إلى لغة الجمال، الكتابة لا يمكن أن تكون إلا منفذاً إلى عالم آخر؛ مدهش وجميل، عندما يموت الشاعر، يبكيه كل أصدقائه. كلهم يبكونه، عندما يموت الشاعر العالم كله يبكي، هذا مقطع من إحدى أغنيات المغني الفرنسي (جيلبير بيكو)، أغنية تتحدث عن موت الشعراء وما خلف هذا الشيء من إنكار لفكرة رحيلهم.
وفي دراسة طريفة لأستاذ علم النفس المساعد في جامعة كاليفورنيا جيمس كوفمان، عن (علاقة النشاط الكتابي بالموت) لدى فئات منفصلة من الكتّاب (شعراء وروائيون وكتّاب مسرح) في بحث نُشر في مجلة «دراسات الموت» (2003) وفي دراسته هذه عمل كوفمان على فحص معدّل الوفيات بطريقة إحصائية لدى 1987 كاتباً من أربع ثقافات مختلفة (أمريكا الشمالية، الصين، تركيا، أوروبا الشرقية) بالعودة إلى المراجع الأدبية والسير الذاتية المتوافرة، ضمن حقبات زمنية ممتدّة منذ عام 390 وحتى نهاية القرن العشرين. ومما اكتشفه الباحث أن متوسط أعمار الشعراء 62 عاماً، وكتاب المسرحية 63 عاماً، وكتاب الرواية 66 عاماً، وبقية الكتاب 68 عاماً. كذلك توصل الباحث إلى أن الشاعرات كن أكثر عرضة للإصابة بالمرض النفسي قبل موتهن، وهو ما ترتب عليه إيداعهن بمصحات نفسية أو انتحارهن، يموت الشعراء قبل سواهم من المبدعين الآخرين لأسباب عدة من بينها أن «صناعة» الشعر تتطلب مواصفات خاصة. ذلك أن عالمه يتعلق بدواخل الشاعر وهذا يحمّله مزيداً من الإحساس بالعبء والحزن والألم، ويستدعي تنشيطاً للخيال وقوى الإبداع. استثارة هذه الجوانب لدى الشاعر تحيله كائناً هشاً، صاحب مزاج متقلب وصعب للغاية. ويعتقد بعضهم أن الشعراء ربما يستخدمون الشعر كشكل من أشكال العلاج الذاتي لمشكلاتهم وأن الأمراض تختصر سن الوفاة.
هنا يصبح الشعر مقاوماً للموت رافضاً له، يحضر طرفة بن العبد البكري المقتول في سن السابعة والعشرين لينضم إلى شعراء المعلقات، وقد احتلت هذه المعلقة قسماً لا بأس به من ديوانه، الذي تميّز بالحس الإنساني الراقي وهو فريد من نوعه في الشعر الجاهلي، فقد احتوت قصائده الشعرية على معانٍ فلسفية عن الحياة والموت، كذلك يحضر الشاعر الإسباني لوركا الذي توفي عام 1936، وهو في الثامنة والثلاثين من عمره في غرناطة. مات مقتولاً على يد النظام الفرنكوي إبان الحرب الأهلية الإسبانية وقد كتب عنه صديقه الشاعر أنطونيو ماخادو: «في الساعة التي يطلّ فيها الضوء، لم تكن مفرزة الجلادين لتجرؤ على أن تنظر إليه وجهاً لوجه».
الكاتب الأمريكي أدغار ألن بو بدوره كان ولا يزال محور نقاش ودراسات واستفسارات لا تنقطع، لا سيما أن أفضل أعماله ظهر للناس بعد رحيله سنة 1849 وهو الذي جاء إلى الدنيا نهاية عام 1809 ولم يتمتع بالحياة أكثر من 40 عاماً فحسب.
فهل ما زلت تصدق أن الشعراء يموتون!