نيابة عن صديقي الدكتور فؤاد عزب أكتب !
الثلاثاء / 29 / جمادى الأولى / 1442 هـ الأربعاء 13 يناير 2021 00:05
نجيب عصام يماني
ما كان لقلمي المتواضع أن يطلّ عليكم من هذه الزاوية التي اعتادت على معانقة حروف الصديق الدكتور فؤاد عزب عبرها، ومطالعة مقالاته الثرية والغزيرة بالمعرفة والتجربة الشخصية في مجال العمل وإدارة المستشفيات ومشوار الحياة ومقالاته التي كانت تتغنى بالحب والعطاء والإنسانية المرهفة، التي كانت تصور أفراح البشر وأتراحهم حيث أنوار القلب تمتزج بأنوار العقل.
وقد عز على قلبي كثيراً أن تحتجب هذه الزاوية بسبب العارض الصحي الذي يتعرّض له الدكتور فؤاد اليوم، ويلزم بسببه السرير الأبيض في مستشفى الملك فيصل التخصصي ومركز الأبحاث في جدة، أحد المعالم الإنسانية التي ارتفعت شواهدها في أرض الوطن شاهدة على اهتمام وعناية القيادة بمواطنيها.
آثرت أن تظل الشمعة متقدة، والنافذة مشرعة، حتى ينهض صاحبها -بعون الله وفضله- من هذه الكبوة العارضة، ليشرق عليكم من جديد كما عهدتموه، ولتكن إطلالتي بمثابة إنعاش للذاكرة، وسياحة سريعة في عالم هذا الصديق النطاسي البارع، والإنسان المكتنز وعياً وثقافة وبصيرة وقّادة.
تنجاف عن ذاكرتي الآن سجف الأيام والسنوات، ويستدير الزمان ليعود إلى مرابع الطفولة والصبا، فيتمثّل الدكتور فؤاد أمامي شاباً مكّياً متوثّباً من صغره، ينمو ويشبّ في بيت من بيوت مكّة البسيطة، يصحو على صوت «وابور الطحين» الذي يملكه والده، ويخدم به حارة الشعب وما حولها وعلى جواره دكّة المركاز، حيث الحكمة وعلوم الرجال تتنزّل المعاني واقعاً عاشه الطفل «عزب»، فتوطّنت في نفسه قيم التواضع، والتضحية، والإيثار، وتوقير الكبار، والحنو على الضعفاء والمعوزين، وغيرها من سامقات المعاني، ومشرقات الفضائل، مركاز يجمع الصفوة، كلمتهم نافذة، وحكمهم قاطع على كل من تجاوز الحد وخرج عن العرف.
زمالة الطفولة والصبا امتدت بنا، لنجتمع على مقاعد الدراسة في مدرسة العزيزية الثانوية، التي كانت تفتخر بمديرها محمد سليمان الشبل، المربي البارع، ومجموعة من الأساتذة الذين نذروا أنفسهم للعلم والمعرفة، وكان «فؤاد» نجماً فرقداً فيها حتى إذا انتهينا تفرقت بنا سبل الحياة.
ذهبت إلى جامعة القاهرة، وسلك فؤاد طريقه إلى الولايات المتحدة الأمريكية، ليدرس العلوم الطبية وإدارة المستشفيات ويبرع فيها، يقدّم خلاصة معرفته ومحصلة كسبه الأكاديمي في مجهود عملي متصل بجامعة الملك عبدالعزيز، فعمل بجد وإخلاص وأسهم في بناء المستشفى الجامعي ومن ثم انتقل إلى القطاع الصحي الخاص ناشراً خبرته وحسن إدارته.
تلك سيرة سيكون على التاريخ أن يحفظها، وعلى ذاكرة الوفاء أن تحتفي بها.. وعلى ذات الذاكرة أن تفتح كوّة النظر إلى براعة «فؤاد» وقد جمع بين المساق العلمي والحذاقة الأدبية، حاصداً في طوايا نفسه، ومستقر وعيه مزجاً رائعاً بين الثقافة العربية والغربية، هي نتاج قراءة عميقة وغزيرة في الكتب والروايات العالمية، التي أقبل على قراءتها بنهم وترجم بعضها بأسلوبه الغني الثري.
من هذه الزاوية ظلّ يُطلّ علينا كل «أربعاء»، مفيضاً قبساً من خلاصة تجاربه، ونَفَساً من صقيل أفكاره..
مرّت على خاطري هذه الأطياف والخواطر، وغيرها مما شهدته وسمعته وعايشته عن الدكتور عزب.
كان متفانياً في خدمة عمله حريصاً على أدائه بما يرضي الله، وبمقتضى القيم والمعاني والفضائل التي تربّى عليها.
فلا غرو إذاً أن يقلق عليه المحبّون بعد لزومه السرير الأبيض، وهم قد أحسوا ألمه، واستشعروا معاناته في مقاله الأخير هنا تحت عنوان «يخرب بيت الوجع!»، الذي ابتدره بقوله: «تحاصرني ذكرياتي اليوم، وأنا في طريقي إلى (مستشفى الملك فيصل التخصصي) آخر الحصون الطبية العملاقة في المنطقة الغربية، أصرخ كفى (يا فؤاد) كفى جلداً لتلك الذات التي لم تكن صنعتها، الذات الموروثة، الذات اللاواعية، والتي كانت متروكة لصدف الحياة، تعرضت لخطر الموت ثلاث مرات في حياتي؛ الأولى كدت أختنق عندما علقت قطعة معدنية في حلقي وكنت طفلاً ألهو بها في غفلة من أهلي، والثانية عندما كدت أن أغرق في بئر في (المسفلة)، والثالثة عندما ابتلعت فيها حبات من الفاليوم الملونة، ظناً مني أنها حلوى، وهذه الرابعة، وأرجو أن لا تكون ثابتة، حيث اختار هذا المرض اللعين الذي هو عهر العلم الذي لا يزال يبحث عن هوية، هذا الوقت ليكمش على صدري، بعد أن أغراه الشيب الذي غزا رأسي، والتجاعيد في زوايا عيني، أشياء كثيرة أتأملها في الطريق إلى المستشفى كأنني أراها لأول مرة، أدون الآهة والحسرة»..
لا حسرة ولا آهة يا صاحبي.. فبمثل ما عبرت بشجاعتك وصبرك وتحملك الملمات السابقات، ستعبر الآن، طوداً شامخاً، ونفساً أبية..
نعم؛ ستعبر، فقد رأيت ذلك في عينيك وأنت تخطو بخطوات المؤمن نحو باب العملية، مطمئناً تقرأ آيات من الذكر الحكيم.
ستعبر بإذن الله لأن هناك قلوباً صادقة محبة تدعو لك الآن، وتبتهل بأن يزيل الله عنك الغمّة، وينعم عليك بالشفاء العاجل..
ستعبر بإذن الله، فقد قدّمت الخير وحاربت الشر، وأنفقت عمرك في خدمة المرضى وأصحاب الحاجة، تقف على أحوالهم وتتابع مراحل علاجهم، وأنت الآن بين يدي ثلّة من زملائك المهرة يداوونك، ويسهرون على راحتك، ويدعون الله بصدق لشفائك..
فانهض يا صاحبي فالله يفتكر الطيبين من عباده، والمرض ابتلاء لتظهر رحمة الله ولطفه.
وقد عز على قلبي كثيراً أن تحتجب هذه الزاوية بسبب العارض الصحي الذي يتعرّض له الدكتور فؤاد اليوم، ويلزم بسببه السرير الأبيض في مستشفى الملك فيصل التخصصي ومركز الأبحاث في جدة، أحد المعالم الإنسانية التي ارتفعت شواهدها في أرض الوطن شاهدة على اهتمام وعناية القيادة بمواطنيها.
آثرت أن تظل الشمعة متقدة، والنافذة مشرعة، حتى ينهض صاحبها -بعون الله وفضله- من هذه الكبوة العارضة، ليشرق عليكم من جديد كما عهدتموه، ولتكن إطلالتي بمثابة إنعاش للذاكرة، وسياحة سريعة في عالم هذا الصديق النطاسي البارع، والإنسان المكتنز وعياً وثقافة وبصيرة وقّادة.
تنجاف عن ذاكرتي الآن سجف الأيام والسنوات، ويستدير الزمان ليعود إلى مرابع الطفولة والصبا، فيتمثّل الدكتور فؤاد أمامي شاباً مكّياً متوثّباً من صغره، ينمو ويشبّ في بيت من بيوت مكّة البسيطة، يصحو على صوت «وابور الطحين» الذي يملكه والده، ويخدم به حارة الشعب وما حولها وعلى جواره دكّة المركاز، حيث الحكمة وعلوم الرجال تتنزّل المعاني واقعاً عاشه الطفل «عزب»، فتوطّنت في نفسه قيم التواضع، والتضحية، والإيثار، وتوقير الكبار، والحنو على الضعفاء والمعوزين، وغيرها من سامقات المعاني، ومشرقات الفضائل، مركاز يجمع الصفوة، كلمتهم نافذة، وحكمهم قاطع على كل من تجاوز الحد وخرج عن العرف.
زمالة الطفولة والصبا امتدت بنا، لنجتمع على مقاعد الدراسة في مدرسة العزيزية الثانوية، التي كانت تفتخر بمديرها محمد سليمان الشبل، المربي البارع، ومجموعة من الأساتذة الذين نذروا أنفسهم للعلم والمعرفة، وكان «فؤاد» نجماً فرقداً فيها حتى إذا انتهينا تفرقت بنا سبل الحياة.
ذهبت إلى جامعة القاهرة، وسلك فؤاد طريقه إلى الولايات المتحدة الأمريكية، ليدرس العلوم الطبية وإدارة المستشفيات ويبرع فيها، يقدّم خلاصة معرفته ومحصلة كسبه الأكاديمي في مجهود عملي متصل بجامعة الملك عبدالعزيز، فعمل بجد وإخلاص وأسهم في بناء المستشفى الجامعي ومن ثم انتقل إلى القطاع الصحي الخاص ناشراً خبرته وحسن إدارته.
تلك سيرة سيكون على التاريخ أن يحفظها، وعلى ذاكرة الوفاء أن تحتفي بها.. وعلى ذات الذاكرة أن تفتح كوّة النظر إلى براعة «فؤاد» وقد جمع بين المساق العلمي والحذاقة الأدبية، حاصداً في طوايا نفسه، ومستقر وعيه مزجاً رائعاً بين الثقافة العربية والغربية، هي نتاج قراءة عميقة وغزيرة في الكتب والروايات العالمية، التي أقبل على قراءتها بنهم وترجم بعضها بأسلوبه الغني الثري.
من هذه الزاوية ظلّ يُطلّ علينا كل «أربعاء»، مفيضاً قبساً من خلاصة تجاربه، ونَفَساً من صقيل أفكاره..
مرّت على خاطري هذه الأطياف والخواطر، وغيرها مما شهدته وسمعته وعايشته عن الدكتور عزب.
كان متفانياً في خدمة عمله حريصاً على أدائه بما يرضي الله، وبمقتضى القيم والمعاني والفضائل التي تربّى عليها.
فلا غرو إذاً أن يقلق عليه المحبّون بعد لزومه السرير الأبيض، وهم قد أحسوا ألمه، واستشعروا معاناته في مقاله الأخير هنا تحت عنوان «يخرب بيت الوجع!»، الذي ابتدره بقوله: «تحاصرني ذكرياتي اليوم، وأنا في طريقي إلى (مستشفى الملك فيصل التخصصي) آخر الحصون الطبية العملاقة في المنطقة الغربية، أصرخ كفى (يا فؤاد) كفى جلداً لتلك الذات التي لم تكن صنعتها، الذات الموروثة، الذات اللاواعية، والتي كانت متروكة لصدف الحياة، تعرضت لخطر الموت ثلاث مرات في حياتي؛ الأولى كدت أختنق عندما علقت قطعة معدنية في حلقي وكنت طفلاً ألهو بها في غفلة من أهلي، والثانية عندما كدت أن أغرق في بئر في (المسفلة)، والثالثة عندما ابتلعت فيها حبات من الفاليوم الملونة، ظناً مني أنها حلوى، وهذه الرابعة، وأرجو أن لا تكون ثابتة، حيث اختار هذا المرض اللعين الذي هو عهر العلم الذي لا يزال يبحث عن هوية، هذا الوقت ليكمش على صدري، بعد أن أغراه الشيب الذي غزا رأسي، والتجاعيد في زوايا عيني، أشياء كثيرة أتأملها في الطريق إلى المستشفى كأنني أراها لأول مرة، أدون الآهة والحسرة»..
لا حسرة ولا آهة يا صاحبي.. فبمثل ما عبرت بشجاعتك وصبرك وتحملك الملمات السابقات، ستعبر الآن، طوداً شامخاً، ونفساً أبية..
نعم؛ ستعبر، فقد رأيت ذلك في عينيك وأنت تخطو بخطوات المؤمن نحو باب العملية، مطمئناً تقرأ آيات من الذكر الحكيم.
ستعبر بإذن الله لأن هناك قلوباً صادقة محبة تدعو لك الآن، وتبتهل بأن يزيل الله عنك الغمّة، وينعم عليك بالشفاء العاجل..
ستعبر بإذن الله، فقد قدّمت الخير وحاربت الشر، وأنفقت عمرك في خدمة المرضى وأصحاب الحاجة، تقف على أحوالهم وتتابع مراحل علاجهم، وأنت الآن بين يدي ثلّة من زملائك المهرة يداوونك، ويسهرون على راحتك، ويدعون الله بصدق لشفائك..
فانهض يا صاحبي فالله يفتكر الطيبين من عباده، والمرض ابتلاء لتظهر رحمة الله ولطفه.