ثقافة وفن

استحمام

أحمد بوقري

(1)

مات ابنها

(رحل حمودي ولم یودعني.. اختفى طائري الملاك..!)

نشجت بحرقة.. وبغتةً اختفى صوتها. تشجّر فقدها، واخضرت شجرة حزنها. وتعّمقت جذورها عندما وجدته في فراشه مشبكا كفیه على صدره هادئاً ومبتسماً ومیتاً.

بالأمس احتفلت بعید میلاده الثلاثین.

حفلة عید میلاد صغیرة كانت وحمیمة، جلبت له كعكة حلوى بیضاء كقلبه الصافي.. ووعدته في «یوم رحیله» باحتفال آخر مع أصدقائه. قالت له كما تحادث طفلا في الثالثة: (صباح الغد أحممك بیدي وألبسك أحلى الملابس وأعطرك ونذهب بعدها معاً للغداء على حافة البحر..! شو رأیك؟)

كان رجلاً بعقل وقلب طفل. وردد: (طیب.. طیب) لم تكن له أحلام لا صغیرة ولا كبیرة.. ولم تتكّون لدیه إلا أهداف محددة هي أن یأكل ویشرب وینام.. ویعیش في سلام. یحب كل من یجلس بقربه یحادثه بلغة محدودة المفردات ویغني له ومعه، وینثر حوله بعض نكاتٍ ویفتعل له حركات طفولیة كي یضحك لها ضحكات خجولة من كل قلبه. كانت أمه جاهدةً تعید صیاغات عقله وروحه ووجدانه.

نجحت كثیراً في أشیاء وأخفقت في أشیاء، عززت ثقته بكینونته وهذبته ولم تنجح كثیرا في أن یخرج من طفولته العقلیة والجسدیة برغم تمیزه بعرامة الطول وامتلاء الجسد.. والذكاء الفطري. كانت هي كل شيء في حیاته. هي بحره وهو السمكة. تطعمه بیدیها.. تحممه كل صباح.. تحلق له ذقنه، تلبسه، تعطره، تسنده.. تحنو علیه.. وتغضب منه أحیانا.. تدخل معه في معارك صغیرة لا ینتصر فیها بذاته ولذاته.. كانت هي أمه تنهزم أمامه أحیاناً وتشفق علیه.. وتكفكف دموعها. فتعید ترمیمه من جدید. وفي یوم رحیله لم تقوَ على احتمال الغیاب المباغت. سكنت كل أحاسیسها، وجف دمعها. وغابت لأیام عن الوجود وهي ترى الأشیاء كلها من حولها.. ولا تراها في آن. ذهبوا به إلى مأواه الأخیر. وظلت ساكنة على كرسیها كتمثال حي. لا ترى وتسمع غير اصطفاق أشجار عواطفها وعواصف أحزانها الدفینة حبیسة في صدرها. في الیوم السابع لرحیله أفاقت من نومها، طلبت من خادمتها أن ترافقها إلى مقبرة العائلة خارج المدینة. طلبت من خادمتها ألا تحضر لها إفطارها. أخذت معها طعاما وسطل ماء كبیرا وبعض الفوط وجهاز آیباد.

(2)

جاءت حيث يرقد رقدته الأبدية..

جاءت مشتاقة لرؤيته لأحاديثه، ومشاغباته الحنونة.. وصراعاته الودودة معها. جاءت لتؤنسه وهو الوحید في ظلمته. تخيلته يخرج من قبره بجسده الأبيض الفارع الممتلئ مستقبلاً إياها مبتسماً يقف عاریاً مترنحاً تحت انسكابات الماء البارد المتتالية من يديها.. ظلت تحادثه لكنها في واقع الأمر كانت تحادث نفسها بصوت متهدج ملتاع: (أفطرت يا حبيبي؟..أشربت قهوتك الصباحية أم بعد؟ أحضرت كل هذا لك الآن.. أحضرت سطلاً من ماء بارد كالثلج وملابس جديدة تلبسها بعد أن أحممك كعادتك كل صباح.. حتى عطرك الذي تحبه جلبته معي.. أتعرف؟ حتى آيبادك ها هو معي كي تتسلى به في قبرك.. من يؤنس وحشتك غير أغنيتك المفضلة التي كنت تغنيها لي كل مساء بصوتك الحزين.. كيف لي أن أتركك أياماً وليالي ولا أغسلك بمائي وحناني.. كيف لي ألا أشم رائحتك الصباحية العبقة.. لماذا ابتعدت عني يا ابني بلا وداع ؟)

وتسمعها خادمتها بقربها وتنشج معها وتربت على كتفها تجلسها بحنو قريباً من حافة القبر، وتأخذ عنها مغراف الماء وتسكبه بارداً على رخام قبره الأبيض هي بدلاً عنها بينما تظل أم حمودي تعيش منفصلة عن الواقع في حالة احتضان حميم لشاهد القبر بكلتا ذراعيها الذي كتب عليه بخطٍ أسود جميل: (هنا يرقد الشاب المأسوف على شبابه عبدالحميد أبو النور).. زفرت بشهقة حرى من داخل صدرها المحترق وأخذت تلمس حروف اسمه بأصابع مرتجفة حرفاً حرفاً تتلو بعض الآيات القرآنية وتارة تمسح بها دموعها ساخنة على خديها فيستكين جسدها قليلاً وينكفئ على جسد القبر ويغيب في نشيجٍ مكتوم.

غسلت الخادمة القبر وحوافه وشاهده وروت الأرض من حوله، بينما كانت أم حمودي تغيب في تراتيلها الدينية وأدعیتها الخاصة ومن وقت لآخر تحثها: (اغسليه جيداً يا بنتي، مرري الماء على كل ثنايا جسده).. وحين لا يرضيها أداؤها تقف مرة ثانية على قدميها وتغسل كل ثنية من جسده وكل أطرافه وملامحه الجميلة متخيلة إياه واقفاً ضاحكاً ومستسلماً لها كملاك.

وعندما اختفى من أمامها فجأةً.. اختفت دموعها أيضاً.. وتلفتت حولها وهالها هدوء المكان وهیبته.

فارتاحت عندما أبصرت رخام القبر لامعاً ينعكس على سطحه قرص الشمس بهياً.. وشعرت بسيل من الرضى الداخلي عندما انتهت مهمتها.

استندت على خادمتها وهي تغادر المقبرة فاختفت الشمس بغتة خلف غيمة سوداء عابرة وانسكبت دموعها بغزارة أكثر على المقبرة.