«عروس البحر» تفقد ذاكرتها البصرية
الأحد / 11 / جمادى الآخرة / 1442 هـ الاحد 24 يناير 2021 01:57
علي الرباعي (الباحة) Al_ARobai@
تستيقظ جدة المعشوقة الأثيرة على صدمة فقدها أبرز عشاقها، المعتّق في هوى بحرها وبرها وحاراتها ورواشينها وأربطتها ومقاهيها، لن يسفر وجه عروس البحر كعادته كل صباح ولن تفترّ الشفاه عن ابتسامة معهودة كون فارس أحلامها لوّح ليلة البارحة لها تلويحة وداع.
يختصر ذاكرة جدة البصرية الدكتور عبدالله مناع رؤيته للحياة والأحياء بقوله «أنا متيم بعشق جدة» العشق هنا نقي نقاء إنسان منتم لمسقط رأسه ومدينته، برغم أنه خبر المدن، وزار العواصم، وسكن المنتجعات، لكنها لم تنجح في خطفه من معشوقته ولا إغرائه بمفاتن وبهرجة المدنية.
ولم يستنكف المناع أن يشيد بدور اليُتم في حياته فقال «لو كان اليتم رجلاً لقبّلتُ جبينه، فاليتم والفقر حفّزاني للنجاح، قضيت 12 عاماً دراسياً دون رسوب، وفي الإسكندرية خمس سنوات طب، وسنة امتياز دون تعثر، رغم أن الدراسة باللغة الإنجليزية، ولم يكن لي من خيارٍ سوى النجاح».
ونعى الكاتب قينان الغامدي صديقه المناع قائلا: كان لي مع الصديق الكبير الأديب والمفكر والصحفي والكاتب عبدالله مناع موعد أسبوعي ثابت كل يوم إثنين طيلة عام 2020 الماضي في مكتبته العامرة بمنزله، كنا قبل ذلك مجموعة من أصدقائه ومحبيه نلتقي معه مساء كل يوم أحد في أحد مقاهي شارع صاري بجدة، وكان هذا اللقاء شبه ندوة مكتنزة بمعارف المناع وثقافته الواسعة، وخبرته في شتى شؤون الحياة، والأدب والفن والتاريخ والسياسة، وكان الدكتور مناع - رحمه الله - يطوف بنا في آفاق هذه المعارف والفنون المتعددة، تدعمه ذاكرة حديدية لا يفوت عليها تاريخ الوقائع والأحداث الجسام، سواء في تاريخ الوطن الذي كان يعشق ذرات ترابه وناسه، ويتحدث عنه بمزاج رائق ممزوجاً بفخر واعتزاز بارزين مستعرضاً مراحل التأسيس وما شهدته المملكة من تطورات وقفزات في شتى مجالاتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية، مستشهداً بمحاضراته العديدة التي ألقاها في مختلف مناطق المملكة وعلى مختلف منابرها، ومقالاته التي وصف فيها رحلاته إلى تلك المدن والمناطق، فإذا انتقل إلى أحداث الوطن العربي والعالم وآدابه وفنونه، وتاريخه، وسياساته، فإننا نجد أنفسنا أمام موسوعة زاخرة بالمعرفة والقصص الواقعية التي استقاها الدكتور مناع من قراءاته الواسعة، ورصده الدقيق، ومتابعته لوسائل الإعلام العربية والعالمية التي كان لا يفوته شيء منها، يسعفه في ذلك قدراته اللغوية المذهلة في اللغتين العربية والإنجليزية، والحديث يطول كثيرا عن هذه الأحدية التي أسسها المناع ودعانا إليها منذ نحو 10 سنوات، لم تتوقف مطلقا كل أسبوع إلا في إجازته السنوية التي غالبا تكون في أغسطس من كل عام حيث يغادر بأسرته إلى سويسرا، حيث يملك هناك شقة صغيرة جداً.
في لقائنا الأسبوعي «هو وأنا فقط» كنت أستعد من جانبي ببعض الأسئلة الثقافية أو التاريخية لأفتتح بها تدفقه في الحديث الذي لا يمل مطلقاً، وكنت على مدى ساعتين ونصف «مدة اللقاء الأسبوعي هذا» أشعر أنني أقرأ عدة كتب متنوعة في وقت واحد، بل إنني كنت أكتفي بوصفه وحديثه عن أي كتاب لم أقرأه سابقاً، حيث يعطيني ملخصاً دقيقاً ووافياً عن الكتاب ومؤلفه وسنة صدوره والجهة التي أصدرته، والكتب الأخرى لهذا المؤلف أو ذاك، بل ويضيف كيف حصل عليه ومن أين اقتناه وكم مرة قرأه، إذ إن لكل كتاب قصة عند المناع، فكتبه ليست مجرد ورق وحبر وأغلفه، ولكنها مؤنسنة لدرجة أنني قلت له ذات لقاء، وأنا أشير إلى أرفف المكتبة التي تضم بضعة آلاف من الكتب، قلت: هذه الكتب يا دكتور أناس يحدثونك وتحدثهم كلما جئت إلى مكتبتك، فقال: صحيح، ويؤنسون وحشتي، ويملأون وحدتي صخباً وحياة وعوالم مبهجة، ثم جال بنظره في المكتبة، وتنهد قائلا: هؤلاء البشر في هذه الأرفف هم أكثر من يشعر بغيابي عنهم حين أسافر، وهم الذين سيبكون بحزن عميق على فراقي الأبدي حين أموت.
رحم الله الدكتور عبدالله مناع فقد كان إنساناً راقياً في حديثه وسلوكه، بكل ما تعنيه الإنسانية والرقي من اتساع وعمق وسمو، وكان شخصاً واحداً بوجه واحد في فكره وآرائه وإنسانيته، لا يتلون ولا حتى يتجمل، فصراحته ووضوحه وصدقه هي عنوان شخصيته الفذة ونادرة الوجود لدرجة التفرد، حيث لم أعرف أحدا بقيمته العظيمة وقامته الكبرى، بمثل ما هو عليه من صدق ووضوح في كتاباته وحديثه ومجالسه ومع أصدقائه ومعارفه.
كثر هم الذين يستحقون أن أعزيهم في فقده الموجع الأليم، وفي مقدمتهم رفيقة دربه الأخت الأستاذة هدى أبو زنادة، ومهجته وروحه وحبيبته ابنته الكبرى «سجا»، وشقيقتها «سندس» وشقيقاها «عمرو» و«هشام»، والعزاء موصول إلى أصدقائه ومحبيه الكثر في المملكة والوطن العربي والعالم.
أما أنا فلن يكفيني دمع بقية عمري، ولن يغادرني وجع فقده وألم فراقه طيلة حياتي، فهو كان صديقي الأعز وأخي الأثير وأستاذي العظيم، رحمه الله وجعله مع الشهداء والصالحين في عليين.
فيما قال المخرج التلفزيوني عبدالله الرواس: رحم الله كاتبنا الكبير الدكتور عبدالله مناع وبرحيله افتقدنا بالفعل كاتباً ومفكراً وأديباً طالما أثرى ساحتنا الإعلامية والثقافية بتناوله الفكري وإسهاماته الصحفية ومشاركاته المتفردة ذات النكهة التي لا تخلو من اللذعة النقدية.
ويؤكد الكاتب الدكتور علي بن سعد الموسى أن شخصية المناع فريدة الثراء والكاريزما. وقال: قابلت عبدالله مناع ذات زمن مضى بصحبة الكبير الآخر، قينان الغامدي، ويومها لم أكن حتى قد كتبت مقالي الأول. وبدهشة «البروليتاريا» التي كانت تسكنني، نظرت إلى ذلك الطول الفارع المكتسي بتلك الأناقة الباذخة لا في نسق ألوان الملبس و«إكسسوارته»، بل حتى في حركة اليدين ولغة الجسد وخيارات الألفاظ حينما يتحدث كشلال هادر. باختصار: شيء من هيبة «البرجواز» التي منعتني حتى من شرب قهوتي خوفا من سقطة «البروتوكول» في حضرة عملاق يشرب قهوته فيداخلك الشك في أنها التي تشربه.
وعده سلطاناً للحرف، وإمبراطورا للذوق والأناقة، وأضاف: كيف يمكن قراءة وتحليل كل عظام هذا «الهيكل» العملاق دون اضطراب ما بين الصورة المترفة وبين الشخصية القومية اليسارية التي رفضت أن تبقى في العيادة كطبيب، لأنه يرفض أن يأخذ أي صاحب مهنة «فلوس» من الغلابا والبؤساء، وهو من أخذ والدته في رحلة خاصة إلى لندن وأدخلها محلات الماركات العالمية في شارعها الشهير «أكسفورد» رداً للجميل.
وأضاف الموسى: رحم الله أستاذنا العملاق، عبدالله مناع، الذي لو استسلم لظروف النشأة وتلبس أفكار مربعه القديم ومثلثاته ودوائره لما كان اليوم قدوة أجيال وتمثالا متحركا لكل حامل قلم.
ورثى رئيس تحرير «المجلة العربية» محمد السيف الفقيد، وقال: لم تخل رحلة المناع من «صراع»، خصوصاً في أروقة ودهاليز الصحافة، وعد كتابه «بعض الأيام.. بعض الليالي» ذاكرة بما تضمنت فصوله من رصد لمقاهي وكازينوهات مدينة جدة في الخمسينات، عدّها عدداً، وحدّد مواقعها بذاكرة تصويرية عجيبة، وعرض مراحل تطورها، وأوضح أن بدايته في الصحافة بوقتٍ مبكر، إذ نشر في جريدة «البلاد» أولَ مقالةٍ له «لا حياة مع اليأس»، وكان وقتها طالباً في الصف الأول ثانوي، لينفتح الباب الذي لم ينغلق بعد! وكانت ثمة بواعث نفسية وعمرية طاغية كانت تريد أن تعبّر عن نفسها وربما عن غضبها! وعن أحلامها الغامضة! وتتواصل رحلة التعبير عن الذات وعن الأحلام على شواطئ الإسكندرية، التي علمنا مناع أنه مُغرم بها ومفتون، ولا لوم عليه ولا تثريب، فقد عاش فيها أيام شبابه الغامر وأحلام الطموح، وفي مسارحها حضر حفلات كوكب الشرق ورآها واقعاً بعد أن كانت حُلماً عبر الأثير في سنوات جدة! كما عاش فيها الرفاه، في المأكل والملبس وبقية المُتع، ما جعله يتصالح مؤقتاً في نظرته إلى الأثرياء! وفي الإسكندرية عاش مناع الحبَّ وسكن فؤاده. وجميل منه أن عرض قصة حبه الأولى، حينما عشق فتاةً إسكندرانية، وكان مفترضاً أن يتوّج هذا الحب بزواجٍ يحتضنه، غير أن الأحداث السياسية آنذاك حالت دون أن يجتمع القلبان! وأضاف: واصل مناع كتاباته مع مجلة «الرائد». بل أصدر كتابه الأول «لمسات»، الذي قدّم له الأديب الكبير محمد حسن عواد، وهو ما زال طالباً في سنواته الأولى، وألحقه برواية أسماها «على قمم الشقاء». وطالبُ طبٍ بهذا العشق للصحافة والكتابة لا بد أن يعود صحفياً أولاً وطبيباً ثانياً! وهذا ما كان، فلقد عُرف مناع واشتُهر، أديباً وكاتباً وصحفياً مشاكساً أكثر منه طبيب أسنان.
إضاءات من مسيرة عبدالله مناع
ولد الدكتور عبدالله مناع في حارة البحر في جدة، في الـ15 من صفر سنة 1359هـ، نال شهادة الثانوية العامة التوجيهية القسم العلمي من المدرسة السعودية الثانوية بالقصور السبعة في البغدادية. ابتعث إلى مصر أوائل عام 1957م، والتحق بكلية طب الأسنان في جامعة الإسكندرية، وتخرج فيها في أواخر عام 1962م. عاد إلى أرض الوطن وتم تعيينه طبيباً للأسنان بالمستشفى العام في جدة، وعاود الكتابة في صحيفة الرائد الأسبوعية التي كان يراسلها من مصر. واصل مشواره الأدبي والصحفي بالكتابة في جريدة المدينة، ومع إنشاء المؤسسات الصحفية تم اختياره عضواً بمؤسسة البلاد للصحافة والنشر وترشيحه لرئاسة تحرير البلاد. تم تعيينه سكرتيراً للجنة الإشراف على التحرير 5 سنوات متتالية. كان له عامود يومي على الصفحة الأولى لجريدة البلاد بعنوان صوت البلاد. انتقل إلى صحيفة «عكاظ» وكتب فيها سلسلة مقالات عن الإنسان والحياة.
ترك وزارة الصحة وتفرغ لعيادته وقلمه، ثم ترك طب الأسنان مع بداية عام 1394هـ، وفي أوائل عام 1974م كلف بتأسيس وإصدار مجلة اقرأ، وتم اختياره رئيساً لتحريرها فشكّل جهازها، وتم صدور العدد الأول منها في الـ24 من ذي القعدة 1394هـ،. ترك رئاسة تحرير اقرأ عام 1397هـ ثم عاد إليها في شوال عام 1399هـ، وظل حتى نهاية رمضان عام 1407هـ.
صدر له كتاب (الطرف الآخر) عن جمعية الثقافة والفنون. وتم تعيينه عضواً منتدباً لدار البلاد للطباعة والنشر في الـ27 من ذي القعدة عام 1407هـ، فرئيساً لمجلس الإدارة وعضواً منتدباً للدار، ثم رئيساً لتحرير مجلة الإعلام والاتصال في ربيع الثاني من عام 1419هـ. أسهم بعدد من المحاضرات العامة، وأصدر مطلع شبابه مجموعة خواطر وقصص في كتاب «لمسات»، ومجموعة «أنين الحيارى»، ثم جمع بعضاً من مقالاته الصحفية، ونشرها في كتاب بعنوان «ملف أحوال»، وكتاب «العالم رحلة»، وكتاب «بعض الأيام بعض الليالي»، و«شيء من الفكر» و«الطرف الآخر»، وكتاب «إمبراطور الطرب» عن الموسيقي الراحل محمد عبدالوهاب. وكتب عن مدينته جدة بوفاء وحب عظيمين في كتابه «جدة: تاريخ الإنسان والمكان».
الفقيد، زوج السيدة هدى أبو زنادة ووالد كل من سجى، عمرو، سندس، هشام، وتتم الصلاة عليه فجر اليوم والدفن بمقبرة أمنا حواء، ونظراً للظروف الراهنة يُستقبل العزاء على واتساب: (0555599920).
يختصر ذاكرة جدة البصرية الدكتور عبدالله مناع رؤيته للحياة والأحياء بقوله «أنا متيم بعشق جدة» العشق هنا نقي نقاء إنسان منتم لمسقط رأسه ومدينته، برغم أنه خبر المدن، وزار العواصم، وسكن المنتجعات، لكنها لم تنجح في خطفه من معشوقته ولا إغرائه بمفاتن وبهرجة المدنية.
ولم يستنكف المناع أن يشيد بدور اليُتم في حياته فقال «لو كان اليتم رجلاً لقبّلتُ جبينه، فاليتم والفقر حفّزاني للنجاح، قضيت 12 عاماً دراسياً دون رسوب، وفي الإسكندرية خمس سنوات طب، وسنة امتياز دون تعثر، رغم أن الدراسة باللغة الإنجليزية، ولم يكن لي من خيارٍ سوى النجاح».
ونعى الكاتب قينان الغامدي صديقه المناع قائلا: كان لي مع الصديق الكبير الأديب والمفكر والصحفي والكاتب عبدالله مناع موعد أسبوعي ثابت كل يوم إثنين طيلة عام 2020 الماضي في مكتبته العامرة بمنزله، كنا قبل ذلك مجموعة من أصدقائه ومحبيه نلتقي معه مساء كل يوم أحد في أحد مقاهي شارع صاري بجدة، وكان هذا اللقاء شبه ندوة مكتنزة بمعارف المناع وثقافته الواسعة، وخبرته في شتى شؤون الحياة، والأدب والفن والتاريخ والسياسة، وكان الدكتور مناع - رحمه الله - يطوف بنا في آفاق هذه المعارف والفنون المتعددة، تدعمه ذاكرة حديدية لا يفوت عليها تاريخ الوقائع والأحداث الجسام، سواء في تاريخ الوطن الذي كان يعشق ذرات ترابه وناسه، ويتحدث عنه بمزاج رائق ممزوجاً بفخر واعتزاز بارزين مستعرضاً مراحل التأسيس وما شهدته المملكة من تطورات وقفزات في شتى مجالاتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية، مستشهداً بمحاضراته العديدة التي ألقاها في مختلف مناطق المملكة وعلى مختلف منابرها، ومقالاته التي وصف فيها رحلاته إلى تلك المدن والمناطق، فإذا انتقل إلى أحداث الوطن العربي والعالم وآدابه وفنونه، وتاريخه، وسياساته، فإننا نجد أنفسنا أمام موسوعة زاخرة بالمعرفة والقصص الواقعية التي استقاها الدكتور مناع من قراءاته الواسعة، ورصده الدقيق، ومتابعته لوسائل الإعلام العربية والعالمية التي كان لا يفوته شيء منها، يسعفه في ذلك قدراته اللغوية المذهلة في اللغتين العربية والإنجليزية، والحديث يطول كثيرا عن هذه الأحدية التي أسسها المناع ودعانا إليها منذ نحو 10 سنوات، لم تتوقف مطلقا كل أسبوع إلا في إجازته السنوية التي غالبا تكون في أغسطس من كل عام حيث يغادر بأسرته إلى سويسرا، حيث يملك هناك شقة صغيرة جداً.
في لقائنا الأسبوعي «هو وأنا فقط» كنت أستعد من جانبي ببعض الأسئلة الثقافية أو التاريخية لأفتتح بها تدفقه في الحديث الذي لا يمل مطلقاً، وكنت على مدى ساعتين ونصف «مدة اللقاء الأسبوعي هذا» أشعر أنني أقرأ عدة كتب متنوعة في وقت واحد، بل إنني كنت أكتفي بوصفه وحديثه عن أي كتاب لم أقرأه سابقاً، حيث يعطيني ملخصاً دقيقاً ووافياً عن الكتاب ومؤلفه وسنة صدوره والجهة التي أصدرته، والكتب الأخرى لهذا المؤلف أو ذاك، بل ويضيف كيف حصل عليه ومن أين اقتناه وكم مرة قرأه، إذ إن لكل كتاب قصة عند المناع، فكتبه ليست مجرد ورق وحبر وأغلفه، ولكنها مؤنسنة لدرجة أنني قلت له ذات لقاء، وأنا أشير إلى أرفف المكتبة التي تضم بضعة آلاف من الكتب، قلت: هذه الكتب يا دكتور أناس يحدثونك وتحدثهم كلما جئت إلى مكتبتك، فقال: صحيح، ويؤنسون وحشتي، ويملأون وحدتي صخباً وحياة وعوالم مبهجة، ثم جال بنظره في المكتبة، وتنهد قائلا: هؤلاء البشر في هذه الأرفف هم أكثر من يشعر بغيابي عنهم حين أسافر، وهم الذين سيبكون بحزن عميق على فراقي الأبدي حين أموت.
رحم الله الدكتور عبدالله مناع فقد كان إنساناً راقياً في حديثه وسلوكه، بكل ما تعنيه الإنسانية والرقي من اتساع وعمق وسمو، وكان شخصاً واحداً بوجه واحد في فكره وآرائه وإنسانيته، لا يتلون ولا حتى يتجمل، فصراحته ووضوحه وصدقه هي عنوان شخصيته الفذة ونادرة الوجود لدرجة التفرد، حيث لم أعرف أحدا بقيمته العظيمة وقامته الكبرى، بمثل ما هو عليه من صدق ووضوح في كتاباته وحديثه ومجالسه ومع أصدقائه ومعارفه.
كثر هم الذين يستحقون أن أعزيهم في فقده الموجع الأليم، وفي مقدمتهم رفيقة دربه الأخت الأستاذة هدى أبو زنادة، ومهجته وروحه وحبيبته ابنته الكبرى «سجا»، وشقيقتها «سندس» وشقيقاها «عمرو» و«هشام»، والعزاء موصول إلى أصدقائه ومحبيه الكثر في المملكة والوطن العربي والعالم.
أما أنا فلن يكفيني دمع بقية عمري، ولن يغادرني وجع فقده وألم فراقه طيلة حياتي، فهو كان صديقي الأعز وأخي الأثير وأستاذي العظيم، رحمه الله وجعله مع الشهداء والصالحين في عليين.
فيما قال المخرج التلفزيوني عبدالله الرواس: رحم الله كاتبنا الكبير الدكتور عبدالله مناع وبرحيله افتقدنا بالفعل كاتباً ومفكراً وأديباً طالما أثرى ساحتنا الإعلامية والثقافية بتناوله الفكري وإسهاماته الصحفية ومشاركاته المتفردة ذات النكهة التي لا تخلو من اللذعة النقدية.
ويؤكد الكاتب الدكتور علي بن سعد الموسى أن شخصية المناع فريدة الثراء والكاريزما. وقال: قابلت عبدالله مناع ذات زمن مضى بصحبة الكبير الآخر، قينان الغامدي، ويومها لم أكن حتى قد كتبت مقالي الأول. وبدهشة «البروليتاريا» التي كانت تسكنني، نظرت إلى ذلك الطول الفارع المكتسي بتلك الأناقة الباذخة لا في نسق ألوان الملبس و«إكسسوارته»، بل حتى في حركة اليدين ولغة الجسد وخيارات الألفاظ حينما يتحدث كشلال هادر. باختصار: شيء من هيبة «البرجواز» التي منعتني حتى من شرب قهوتي خوفا من سقطة «البروتوكول» في حضرة عملاق يشرب قهوته فيداخلك الشك في أنها التي تشربه.
وعده سلطاناً للحرف، وإمبراطورا للذوق والأناقة، وأضاف: كيف يمكن قراءة وتحليل كل عظام هذا «الهيكل» العملاق دون اضطراب ما بين الصورة المترفة وبين الشخصية القومية اليسارية التي رفضت أن تبقى في العيادة كطبيب، لأنه يرفض أن يأخذ أي صاحب مهنة «فلوس» من الغلابا والبؤساء، وهو من أخذ والدته في رحلة خاصة إلى لندن وأدخلها محلات الماركات العالمية في شارعها الشهير «أكسفورد» رداً للجميل.
وأضاف الموسى: رحم الله أستاذنا العملاق، عبدالله مناع، الذي لو استسلم لظروف النشأة وتلبس أفكار مربعه القديم ومثلثاته ودوائره لما كان اليوم قدوة أجيال وتمثالا متحركا لكل حامل قلم.
ورثى رئيس تحرير «المجلة العربية» محمد السيف الفقيد، وقال: لم تخل رحلة المناع من «صراع»، خصوصاً في أروقة ودهاليز الصحافة، وعد كتابه «بعض الأيام.. بعض الليالي» ذاكرة بما تضمنت فصوله من رصد لمقاهي وكازينوهات مدينة جدة في الخمسينات، عدّها عدداً، وحدّد مواقعها بذاكرة تصويرية عجيبة، وعرض مراحل تطورها، وأوضح أن بدايته في الصحافة بوقتٍ مبكر، إذ نشر في جريدة «البلاد» أولَ مقالةٍ له «لا حياة مع اليأس»، وكان وقتها طالباً في الصف الأول ثانوي، لينفتح الباب الذي لم ينغلق بعد! وكانت ثمة بواعث نفسية وعمرية طاغية كانت تريد أن تعبّر عن نفسها وربما عن غضبها! وعن أحلامها الغامضة! وتتواصل رحلة التعبير عن الذات وعن الأحلام على شواطئ الإسكندرية، التي علمنا مناع أنه مُغرم بها ومفتون، ولا لوم عليه ولا تثريب، فقد عاش فيها أيام شبابه الغامر وأحلام الطموح، وفي مسارحها حضر حفلات كوكب الشرق ورآها واقعاً بعد أن كانت حُلماً عبر الأثير في سنوات جدة! كما عاش فيها الرفاه، في المأكل والملبس وبقية المُتع، ما جعله يتصالح مؤقتاً في نظرته إلى الأثرياء! وفي الإسكندرية عاش مناع الحبَّ وسكن فؤاده. وجميل منه أن عرض قصة حبه الأولى، حينما عشق فتاةً إسكندرانية، وكان مفترضاً أن يتوّج هذا الحب بزواجٍ يحتضنه، غير أن الأحداث السياسية آنذاك حالت دون أن يجتمع القلبان! وأضاف: واصل مناع كتاباته مع مجلة «الرائد». بل أصدر كتابه الأول «لمسات»، الذي قدّم له الأديب الكبير محمد حسن عواد، وهو ما زال طالباً في سنواته الأولى، وألحقه برواية أسماها «على قمم الشقاء». وطالبُ طبٍ بهذا العشق للصحافة والكتابة لا بد أن يعود صحفياً أولاً وطبيباً ثانياً! وهذا ما كان، فلقد عُرف مناع واشتُهر، أديباً وكاتباً وصحفياً مشاكساً أكثر منه طبيب أسنان.
إضاءات من مسيرة عبدالله مناع
ولد الدكتور عبدالله مناع في حارة البحر في جدة، في الـ15 من صفر سنة 1359هـ، نال شهادة الثانوية العامة التوجيهية القسم العلمي من المدرسة السعودية الثانوية بالقصور السبعة في البغدادية. ابتعث إلى مصر أوائل عام 1957م، والتحق بكلية طب الأسنان في جامعة الإسكندرية، وتخرج فيها في أواخر عام 1962م. عاد إلى أرض الوطن وتم تعيينه طبيباً للأسنان بالمستشفى العام في جدة، وعاود الكتابة في صحيفة الرائد الأسبوعية التي كان يراسلها من مصر. واصل مشواره الأدبي والصحفي بالكتابة في جريدة المدينة، ومع إنشاء المؤسسات الصحفية تم اختياره عضواً بمؤسسة البلاد للصحافة والنشر وترشيحه لرئاسة تحرير البلاد. تم تعيينه سكرتيراً للجنة الإشراف على التحرير 5 سنوات متتالية. كان له عامود يومي على الصفحة الأولى لجريدة البلاد بعنوان صوت البلاد. انتقل إلى صحيفة «عكاظ» وكتب فيها سلسلة مقالات عن الإنسان والحياة.
ترك وزارة الصحة وتفرغ لعيادته وقلمه، ثم ترك طب الأسنان مع بداية عام 1394هـ، وفي أوائل عام 1974م كلف بتأسيس وإصدار مجلة اقرأ، وتم اختياره رئيساً لتحريرها فشكّل جهازها، وتم صدور العدد الأول منها في الـ24 من ذي القعدة 1394هـ،. ترك رئاسة تحرير اقرأ عام 1397هـ ثم عاد إليها في شوال عام 1399هـ، وظل حتى نهاية رمضان عام 1407هـ.
صدر له كتاب (الطرف الآخر) عن جمعية الثقافة والفنون. وتم تعيينه عضواً منتدباً لدار البلاد للطباعة والنشر في الـ27 من ذي القعدة عام 1407هـ، فرئيساً لمجلس الإدارة وعضواً منتدباً للدار، ثم رئيساً لتحرير مجلة الإعلام والاتصال في ربيع الثاني من عام 1419هـ. أسهم بعدد من المحاضرات العامة، وأصدر مطلع شبابه مجموعة خواطر وقصص في كتاب «لمسات»، ومجموعة «أنين الحيارى»، ثم جمع بعضاً من مقالاته الصحفية، ونشرها في كتاب بعنوان «ملف أحوال»، وكتاب «العالم رحلة»، وكتاب «بعض الأيام بعض الليالي»، و«شيء من الفكر» و«الطرف الآخر»، وكتاب «إمبراطور الطرب» عن الموسيقي الراحل محمد عبدالوهاب. وكتب عن مدينته جدة بوفاء وحب عظيمين في كتابه «جدة: تاريخ الإنسان والمكان».
الفقيد، زوج السيدة هدى أبو زنادة ووالد كل من سجى، عمرو، سندس، هشام، وتتم الصلاة عليه فجر اليوم والدفن بمقبرة أمنا حواء، ونظراً للظروف الراهنة يُستقبل العزاء على واتساب: (0555599920).