دلفين على بِركة المتوكل العباسي
الخميس / 16 / جمادى الآخرة / 1442 هـ الجمعة 29 يناير 2021 00:18
عبدالله الرشيد
قدم الأديب والمحقق العربي أحمد تيمور باشا، مجموعة من الكتب المهمة والجميلة التي تعكس جانباً من حياة العرب الاجتماعية، وتفاصيل أحوالهم اليومية، مما يندر الانتباه له، أو إفراده في كتب مستقلة، فقام بجمع شتات القصص والأخبار من بطون كتب التاريخ، ودواوين الشعر، فاستخلص منها صوراً عجيبة عن رفاهية الحياة اليومية في العصور الأموية، والعباسية، والفاطميين والمماليك.
من هذه الكتب، كتاب «لعب العرب»، وكتاب: «خيال الظل واللعب والتماثيل المصورة عند العرب»، وله كتاب آخر عنوانه «الحب والجمال عند العرب».
أحمد تيمور باشا (توفي ١٩٣٠م) من أهم رجال النهضة العربية، وصاحب أكبر مكتبة خاصة في العصر الحديث، قدم خدمات جليلة في حفظ كنوز التراث العربي، وحمايته من الضياع.
ونظراً لاطلاعه الواسع، ووفرة الكتب والمخطوطات لديه، فقد تسنى لأحمد تيمور باشا أن يلتقط جماليات الأخبار، والقصص، ويتحف القارئ بدقائق فريدة عن أحوال تاريخ العرب، وتفاصيل عاداتهم وتقاليدهم.
يظن المرء أن العصور الإسلامية المبكرة تعاني من صعوبة العيش، وشظف الحياة، وقلة موارد الأكل والشرب، لكن ما يفاجئك به تيمور باشا هو مستوى الرفاهية، ورقي الحياة الاجتماعية، بل وتفننهم في الملذات والحفلات، وتزيين البيوت والموائد والقصور، وهذا لا يقتصر على أحوال البلاط والسلطان، بل يتجلى في حياة العامة والناس، الذين وصلوا إلى مرحلة من التمدن الحضاري حتى أصبحت الزخارف والزينة، والعناية بالجمال والذوق من أهم ملامح تلك العصور.
وهذا الأمر منطقي حقاً، فكيف لحضارة عظيمة امتدت في أعماق الدنيا، وتركت بصماتها في أمم الأرض، وبلدان العالم، وبقيت آثارها حية في الفنون والعمران، واللغة والأدب، والموسيقى، والسياسة والفكر، إلا أن تكون على مستوى رفيع في حياتها الاجتماعية وأحوالها اليومية.
في كتابه «خيال الظل واللعب والتماثيل المصورة عند العرب»، يذكر لنا تيمور باشا جانباً من الاهتمام بالتصاوير والتماثيل والألعاب، رغم الخلاف الفقهي حول إباحتها أو تحريمها، ومن ذلك يروى أنه في عصر المقتدر العباسي، في القرن الرابع الهجري، كانت هناك سوق خاصة لبيع ألعاب الأطفال، ففي باب «أحكام الحسبة» من «الأحكام السلطانية» للماوردي، ورد ما يدل على اتخاذهم سوقًا خاصة ببيع لُعب الأطفال، فقد جاء فيه ما نصه: «وأما اللُّعب فيُقْصد بها إلف البنات وتربية الأولاد، وفيها وجه من وجوه التدبير، وقد دخل النبي -عليه الصلاة والسلام- على عائشة، رضي الله عنها، وهي تلعب بالبنات (أي الدمى/ العرائس)، فأقرَّها ولم ينكر عليها. وحُكي أن أبا سعيد الإصطخري، من أصحاب الشافعي، تقلد حسبة بغداد في أيام المقتدر، فأقر سوقاً للألعاب ولم يمنع منها».
وذكر التنوخي في «نشوار المحاضرة» أن أهل بغداد كانت لهم لعبة (دمية) على قدر الصبيان يسمونها «الدوباركة» وهي كلمة أعجمية، وكانوا يحلون هذه اللعبة في سطوحهم ليالي النيروز المعتضدي، ويلعبون بها ويخرجونها في زي حسن من فاخر الثياب، وحلي يحلونها بها كما يُفعل بالعرائس، وتضرب بين يديها الطبول والزمور، وتُشعل النيران.
وأفرد تيمور باشاً فصلاً عن صناعة تماثيل الحلوى، حيث كان من عادة الفاطميين في مصر الإكثار من عمل الحلوى في الأسمطة على هيئة تماثيل، فقد ذكر ناصر خسرو في رحلته «سفر نامه» لمناسبة المواسم والأعياد واتخاذها على أشكال شتى، أنه لما توصَّل إلى دخول الإيوان المقام به سماط عيد الفطر بمصر سنة ٤٤٠ﻫ، شاهد عليه تمثال شجرة من السكر تشبه شجر الأترجِّ بأغصانها وأوراقها وثمارها.
وفي «خطط المقريزي» في ذكر سماط عيد الفطر، نقلًا عن «التاريخ الكبير» للمسبِّحيِّ، ما نصه: وفي آخر يوم منه -يعني شهر رمضان سنة ثمانين وثلاثمائة للهجرة- حمل يانس الصقلبي، صاحب الشرطة السفلى، السماط وقصور السكر والتماثيل وأطباقًا فيها تماثيل حلوى، وحمل أيضًا علي بن سعد المحتسب القصور وتماثيل السكر.
وذكر ابن جبير في رحلته في وصف أسواق مكَّة، حيث قال: «وأما الحلوى فتُصنع منها أنواع غريبة من العسل والسكر المعقود على صفات شتى، يصنعون بها حكايات جميع الفواكه الرطبة واليابسة. وفي الأشهر الثلاثة رجب وشعبان ورمضان، تتصل منها أسمطة بين الصفا والمروة، ولم يشاهد أحد أكمل منظرًا منها لا بمصر ولا بسواها، قد صوِّرت منها تصاوير إنسانية وفاكهية، وجُلِيت في منصَّات كأنها العرائس، ونُضِّدت بسائر أنواعها المنضَّدة الملونة، فتلوح كأنها الأزاهر حُسنًا، فتقيِّد الأبصار وتستنزل الدرهم والدينار».
ووصف المتنبي تمثالاً عجيباً من الحلوى، وهو على شكل سمك يسبح في عسل، فقد أهدى إليه بعضهم تماثيل سمك من سكر ولوز تسبح في لجة عسل:
أهلًا وسهلًا بما بعثت به
إيهًا أبا قاسم وبالرُّسلِ
هديةٌ ما رأيت مهديها
إلَّا رأيت العباد في رجُل
أقلُّ ما في أقلها سمك
يلعب في بِرْكةٍ من العسل
ومن عجائب ما وصفه البحتري، أن الخليفة العباسي المتوكل (ت.247هــ) قد تفنن في صناعة بِركة (مسبح) خاصة به، ووضع في وسطه تمثال دلفين.
وكان مما قاله البحتري، قصيدة يصف فيها هذا المشهد:
لا يبلغ السمك المحصور غايتها
لبعد ما بين قاصيها ودانيها
يعمن فيها بأوساط مجنَّحة
كالطير تنقضُّ في جوِّ خوافيها
لهنَّ صحن رحيب في أسافلها
إذا انحططن وبهوٌ في أعاليها
صور إلى صورة الدلفين يؤنسها
منه انزواء بعينيه يوازيها
من هذه الكتب، كتاب «لعب العرب»، وكتاب: «خيال الظل واللعب والتماثيل المصورة عند العرب»، وله كتاب آخر عنوانه «الحب والجمال عند العرب».
أحمد تيمور باشا (توفي ١٩٣٠م) من أهم رجال النهضة العربية، وصاحب أكبر مكتبة خاصة في العصر الحديث، قدم خدمات جليلة في حفظ كنوز التراث العربي، وحمايته من الضياع.
ونظراً لاطلاعه الواسع، ووفرة الكتب والمخطوطات لديه، فقد تسنى لأحمد تيمور باشا أن يلتقط جماليات الأخبار، والقصص، ويتحف القارئ بدقائق فريدة عن أحوال تاريخ العرب، وتفاصيل عاداتهم وتقاليدهم.
يظن المرء أن العصور الإسلامية المبكرة تعاني من صعوبة العيش، وشظف الحياة، وقلة موارد الأكل والشرب، لكن ما يفاجئك به تيمور باشا هو مستوى الرفاهية، ورقي الحياة الاجتماعية، بل وتفننهم في الملذات والحفلات، وتزيين البيوت والموائد والقصور، وهذا لا يقتصر على أحوال البلاط والسلطان، بل يتجلى في حياة العامة والناس، الذين وصلوا إلى مرحلة من التمدن الحضاري حتى أصبحت الزخارف والزينة، والعناية بالجمال والذوق من أهم ملامح تلك العصور.
وهذا الأمر منطقي حقاً، فكيف لحضارة عظيمة امتدت في أعماق الدنيا، وتركت بصماتها في أمم الأرض، وبلدان العالم، وبقيت آثارها حية في الفنون والعمران، واللغة والأدب، والموسيقى، والسياسة والفكر، إلا أن تكون على مستوى رفيع في حياتها الاجتماعية وأحوالها اليومية.
في كتابه «خيال الظل واللعب والتماثيل المصورة عند العرب»، يذكر لنا تيمور باشا جانباً من الاهتمام بالتصاوير والتماثيل والألعاب، رغم الخلاف الفقهي حول إباحتها أو تحريمها، ومن ذلك يروى أنه في عصر المقتدر العباسي، في القرن الرابع الهجري، كانت هناك سوق خاصة لبيع ألعاب الأطفال، ففي باب «أحكام الحسبة» من «الأحكام السلطانية» للماوردي، ورد ما يدل على اتخاذهم سوقًا خاصة ببيع لُعب الأطفال، فقد جاء فيه ما نصه: «وأما اللُّعب فيُقْصد بها إلف البنات وتربية الأولاد، وفيها وجه من وجوه التدبير، وقد دخل النبي -عليه الصلاة والسلام- على عائشة، رضي الله عنها، وهي تلعب بالبنات (أي الدمى/ العرائس)، فأقرَّها ولم ينكر عليها. وحُكي أن أبا سعيد الإصطخري، من أصحاب الشافعي، تقلد حسبة بغداد في أيام المقتدر، فأقر سوقاً للألعاب ولم يمنع منها».
وذكر التنوخي في «نشوار المحاضرة» أن أهل بغداد كانت لهم لعبة (دمية) على قدر الصبيان يسمونها «الدوباركة» وهي كلمة أعجمية، وكانوا يحلون هذه اللعبة في سطوحهم ليالي النيروز المعتضدي، ويلعبون بها ويخرجونها في زي حسن من فاخر الثياب، وحلي يحلونها بها كما يُفعل بالعرائس، وتضرب بين يديها الطبول والزمور، وتُشعل النيران.
وأفرد تيمور باشاً فصلاً عن صناعة تماثيل الحلوى، حيث كان من عادة الفاطميين في مصر الإكثار من عمل الحلوى في الأسمطة على هيئة تماثيل، فقد ذكر ناصر خسرو في رحلته «سفر نامه» لمناسبة المواسم والأعياد واتخاذها على أشكال شتى، أنه لما توصَّل إلى دخول الإيوان المقام به سماط عيد الفطر بمصر سنة ٤٤٠ﻫ، شاهد عليه تمثال شجرة من السكر تشبه شجر الأترجِّ بأغصانها وأوراقها وثمارها.
وفي «خطط المقريزي» في ذكر سماط عيد الفطر، نقلًا عن «التاريخ الكبير» للمسبِّحيِّ، ما نصه: وفي آخر يوم منه -يعني شهر رمضان سنة ثمانين وثلاثمائة للهجرة- حمل يانس الصقلبي، صاحب الشرطة السفلى، السماط وقصور السكر والتماثيل وأطباقًا فيها تماثيل حلوى، وحمل أيضًا علي بن سعد المحتسب القصور وتماثيل السكر.
وذكر ابن جبير في رحلته في وصف أسواق مكَّة، حيث قال: «وأما الحلوى فتُصنع منها أنواع غريبة من العسل والسكر المعقود على صفات شتى، يصنعون بها حكايات جميع الفواكه الرطبة واليابسة. وفي الأشهر الثلاثة رجب وشعبان ورمضان، تتصل منها أسمطة بين الصفا والمروة، ولم يشاهد أحد أكمل منظرًا منها لا بمصر ولا بسواها، قد صوِّرت منها تصاوير إنسانية وفاكهية، وجُلِيت في منصَّات كأنها العرائس، ونُضِّدت بسائر أنواعها المنضَّدة الملونة، فتلوح كأنها الأزاهر حُسنًا، فتقيِّد الأبصار وتستنزل الدرهم والدينار».
ووصف المتنبي تمثالاً عجيباً من الحلوى، وهو على شكل سمك يسبح في عسل، فقد أهدى إليه بعضهم تماثيل سمك من سكر ولوز تسبح في لجة عسل:
أهلًا وسهلًا بما بعثت به
إيهًا أبا قاسم وبالرُّسلِ
هديةٌ ما رأيت مهديها
إلَّا رأيت العباد في رجُل
أقلُّ ما في أقلها سمك
يلعب في بِرْكةٍ من العسل
ومن عجائب ما وصفه البحتري، أن الخليفة العباسي المتوكل (ت.247هــ) قد تفنن في صناعة بِركة (مسبح) خاصة به، ووضع في وسطه تمثال دلفين.
وكان مما قاله البحتري، قصيدة يصف فيها هذا المشهد:
لا يبلغ السمك المحصور غايتها
لبعد ما بين قاصيها ودانيها
يعمن فيها بأوساط مجنَّحة
كالطير تنقضُّ في جوِّ خوافيها
لهنَّ صحن رحيب في أسافلها
إذا انحططن وبهوٌ في أعاليها
صور إلى صورة الدلفين يؤنسها
منه انزواء بعينيه يوازيها