بن رمثان.. GPS الثلاثينات والأربعينات
الأحد / 25 / جمادى الآخرة / 1442 هـ الاحد 07 فبراير 2021 01:24
بقلم: د. عبدالله المدني - أستاذ العلاقات الدولية في مملكة البحرين abu_taymour@
بسبب طبيعة مواطنهم القاسية، اشتهر عرب الصحارى منذ أقدم الأزمنة بمعارف فطرية لم يشتهر بها غيرهم، ومنها معرفة الجهات والمسالك والدروب الصحراوية والاستدلال على الأمكنة وموارد المياه بالأمارات المحسوسة كرائحة التراب ومساماته، والكواكب الثابتة، ومنازل القمر. هذه المعارف وصفها محمد شكري الألوسي البغدادي في كتابه «بلوغ الأرب» بعلم الاهتداء في البراري، وعُرف المتميزون به بالفراسة والحدس ودقة الملاحظة والذكاء الحاد، وأطلق عليهم الأدلاء لأنهم كانوا قديما ممن لا يستغنى عنهم في الغزوات ورحلات التجارة والحج الطويلة عبر البراري القاحلة لجهة الإرشاد عن اتجاهات السير ومصادر المياه. كما عُرفوا باسم قصاصي الأثر بسبب نجاحهم في الاهتداء إلى التائهين، وأيضا في تعقب قطاع الطرق والمجرمين في حقبة سلب ونهب القوافل التجارية قبل توحيد الجزيرة العربية واستتباب الأمن في ربوعها. وهناك قصص وحكايات طويلة عنهم شعرا ونثرا في التاريخ العربي الإسلامي، بل هناك أسماء لرجالات تميزوا بهذه المعارف ما زالت تتردد على ألسنة الناس بسبب أدوارهم الحيوية في الكشف عما استعصى فهمه أو اكتشافه.
وقد أتى أحمد فهد العريفي في كتابه «مقامات حائلية: لمحات تاريخية واجتماعية ونصوص شعرية» على ذكر بعض من هؤلاء المشاهير من أدلاء الصحراء في العصرين الجاهلي والإسلامي، ممن كانت قبائلهم تتفاخر بهم مثل «دعيميص الرمل العبدي» الذي كان مضربا للأمثال عند العرب حتى قيل «أدل من دعيميص الرمل»، و«خالد بن دثار الفزاري» (دليل بني فرازة من قبيلة ذبيان)، و«رافع بن عميرة الطائي» (دليل جيش خالد بن الوليد إلى العراق والشام)، و«حنيف الحناتم» (دليل بني تيم من ثعلبة في معرفة الإبل)، و«عبدالجبار بن يزيد بن ربعة الكلبي» (دليل بني المهلب بن صفرة)، و«الأصيدف بن صليع الطائي» (العارف بالبلدان زمن الدولة الأموية)، و«عبداللّه بن اُريقط العدوي» (دليل الرسول في هجرته إلى المدينة المنورة)، وغيرهم.
أما في العصر الحديث، فلا نبالغ لو قلنا إن أشهر الأدلاء وأكثرهم تأثيرا هو «خميس بن رمثان العجمي» لأنه لعب دورا محوريا في إرشاد الجيولوجيين الأمريكيين إلى مكامن النفط في شرق المملكة العربية السعودية، فساهم بذلك في إحداث نقلة نوعية في اقتصاد بلاده. ولهذا فإن اسم الرجل ارتبط بتاريخ التنقيب عن النفط في بلاده، وارتبط من ناحية أخرى باسم الجيولوجي الأمريكي «ماكس ستاينكي» (توفي 1952) الذي وصل إلى السعودية في عام 1934 منتدبا من قبل شركة سوكال (لاحقا «كاليفورنيا آرابيان ستاندارد أويل» ثم أرامكو) التي كانت قد حصلت في 29 مايو 1933 على امتياز للتنقيب عن النفط في شرق السعودية.
ولأن بن رمثان وماكس ستاينكي كونا فريق عمل متجانساً ومتفاهماً أدى إلى الوصول إلى الزيت في مناطق عديدة من السعودية، فمن المستحسن قبل الحديث عن سيرة بن رمثان أن نسلط الضوء على تاريخ اكتشاف النفط في شرق السعودية ودور ستاينكي فيه. بدأ وصول الجيولوجيين الأمريكيين إلى السعودية في عام 1933، ثم انضم إليهم ستاينكي في العام التالي، وراحوا يهيئون أنفسهم للعمل ويجرون الاختبارات الأولية عن مكامن النفط في ظل حراسة ومساعدة بعض الجنود والأدلاء البدو من أمثال عبدالهادي بن جثينا، ومحمد علي القطري، ومحمد بن خرسان القحطاني، وخميس بن رمثان العجمي.
يأس الشركة الأمريكية
وفي ضوء الخرائط التي تم وضعها لمناطق الامتياز خلال أشهر من العمل المتواصل والتحليق اليومي لطائرة جلبت خصيصا لأعمال المسح، وبعد وصول آلات ومهندسي الحفر من البحرين بحرا، قرر الجيولوجيون في 30 أبريل 1935، بدء عمليات الحفر في حقل الدمام رقم 1 إلى الغرب من جبل الظهران وسط ظروف مناخية وطبيعية ومعيشية غاية في الصعوبة، ومن ثم في حقول الدمام الثاني فالثالث فالرابع فالخامس فالسادس. غير أن كل أعمال الحفر هذه فشلت في العثور على النفط بكميات تجارية، بما في ذلك عملية الحفر إلى عمق مواز للعمق الذي تدفق منه النفط في البحرين القريبة في عام 1932، الأمر الذي ساد معه اليأس فتقرر إيقاف أعمال الحفر، بل كادت الشركة الأمريكية صاحبة الامتياز أن تنسحب بعدما نفد صبرها وتكبدت خسائر بملايين الدولارات دون فائدة تذكر.
استدعاء ستاينكي إلى سان فرانسيسكو
ولهذا السبب استدعت الشركة ماكس ستاينكي إلى مقرها الرئيسي في سان فرانسيسكو في أوائل عام 1938، حيث نجح في إقناع رؤسائه بفكرة مواصلة الحفر في الحقل رقم 7 إلى أعماق أطول بكثير من المعتاد، وصرف النظر عن فكرة الانسحاب نهائيا. وكما هو معروف في أدبيات النفط السعودية فإن الزيت تدفق بكميات تجارية من حقل الدمام رقم 7 في الأسبوع الأول من مارس 1938 بعد أن تم الحفر إلى عمق 1440 مترا في طبقة أطلق عليها اسم «الطبقة الجيولوجية العربية». وفي نهاية مارس من العام نفسه وصل إنتاج الحقل المذكور إلى ثلاثة آلاف برميل يوميا ليرتفع بحلول عام 1940 إلى 12 ألف برميل في اليوم، علما بأنه بعد 45 سنة من استغلاله وبعد أن أنتج نحو 32 مليون برميل من الخام، تم إغلاق هذا الحقل التاريخي في عام 1982. وسرعان ما وجد ستاينكي دلائل على وجود النفط في مكان يبعد عن حقل الدمام بمسافة 50 كيلومترا، فأمر بإجراء عملية الحفر في ما يعرف اليوم بحقل بقيق الذي يختزن احتياطيا ضخما من النفط يقترب من 12 مليار برميل.
صاحب الحاسة السادسة
أما خميس بن رمثان المتحدر من قبيلة العجمان، وهي من قبائل شبه الجزيرة العربية المعروفة ذات الامتداد في مناطق السعودية والكويت وقطر، فقد ولد في حدود العام 1900 في الوادي الذي يحمل اسم قبيلته غرب الأحساء، وتحديدا في قرية «المليجة»، وعاش في الصحراء مرتحلا على ظهور الإبل، فألقت الصحراء عليه بملامحها، فنشأ كغيره من أبناء البادية متميزيا بقوة الشخصية والذكاء والفطنة وتحمل الحياة الخشنة، لكن الأهم من كل هذا كان اكتسابه لمهارات معرفة مسالك الصحراء ودروبها شبرا شبرا، وكذا معرفة أوديتها ومواردها وقبائلها عن ظهر قلب، ناهيك عن مهارات الاهتداء بالنجوم للاستدلال على الطرق والمواقيت، وغير ذلك مما استمده من قيامه مرارا بقطع صحراء الربع الخالي من الشرق إلى الغرب ومن الشمال إلى الجنوب، معتمدا في ذلك على قوة ذاكرته، أي من دون خرائط أو أجهزة تحديد المواقع. ولهذا أطلق عليه البعض لقب «بوصلة الصحراء التي لا تخطئ»، ولقبه البعض الآخر بـ«GPS الزمن القديم»، وأسماه البعض الثالث بـ«أسطورة الصحراء»، وأسماه البعض الرابع بـ«صاحب الحاسة السادسة». أما رئيس شركة أرامكو السعودية السابق ووزير النفط السعودي لاحقا المهندس علي بن إبراهيم النعيمي فقد اعتبره مع ستاينكي من الشخصيات التي ألهمته في السنوات المبكرة من التحاقه بأرامكو كصبي مراسل مكلف بنقل الملفات من مكتب إلى آخر.
البوصلة التي لا تُخطئ
وفي السياق نفسه يجدر بنا الإشارة إلى ما قاله عنه الجيولوجي الأمريكي توماس بارقر (توفي 1986)، الذي انتخب في عام 1958 نائبا ومساعدا لرئيس شركة أرامكو، قبل أن يعين كسادس رئيس تنفيذي للشركة من عام 1961 إلى 1969. فقد أورد بارقر في الصفحة 37 من كتابه Out in the blue الذي تمت ترجمته تحت عنوان «تحت القبة الزرقاء، رسائل من العربية السعودية 1938 ــ 1940» (دار برزان للنشر/ 2004)، النص التالي: «في الصحراء لا يتيه خميس (بن رمثان) أبدًا، لأنه بالإضافة إلى حاسته السادسة، وهي نوع من البوصلة الدفينة التي لا تُخطئ، كانت لديه ذاكرة مدهشة، تمكنه من تذكر دغلة كان قد مرّ بها وهو شاب أو اتجاه موقع بئر سمع عنه قبل عشر سنوات».
استنطاق الصحراء في 1934
المنعطف الأبرز في حياة بن رمثان، الذي نقله من رجل بدوي أمي غير معروف إلى شخصية مشهورة تحتل موقعا في تاريخ وطنه وتاريخ اكتشاف النفط في السعودية، كان في عام 1934. ففي تلك السنة بدأت «شركة ستاندرد أويل أوف كاليفورنيا» فعليا عمليات التنقيب عن النفط في مناطقة الامتياز، فاحتاجت إلى دليل ماهر، وطلبت من أمير المنطقة الشرقية آنذاك الأمير عبدالله بن جلوي (توفي 1936) أن يساعدها، فوقع اختيار الأمير على خميس بن رمثان الذي كان وقتها يعيش حياته وسط عائلته وعشيرته في عمق صحراء الدهناء المترامية الأطراف بعيدا عن مظاهر الحضارة وهدير المكائن وضوضاء المحركات والسيارات. وهكذا حضر مندوب الأمير بن جلوي إليه طالبا منه الحضور فورا للقيام بمهمة الدليل للبعثة الجيولوجية الاستكشافية الأمريكية، فلبى نداء الوطن وبدأ عمله في استنطاق الصحراء مباشرة في عام 1934، قبل أن تقوم شركة أرامكو رسميا بتعيينه موظفا لديها بدءا من عام 1942.
العثور على «بئر الخير»
وقد جاء اختيار بن رمثان في وقت كانت فيه الشركة الأمريكية صاحبة الامتياز تمر في حالة يأس وقنوط من العثور على النفط كما أسلفنا، رغم امتلاكها لأحدث أجهزة البحث والقياس والمسح. ومن هنا لم يؤمن الجيولوجيون الأمريكان كثيرا بما لدى بن رمثان من معارف فطرية حول الطرق والمواقع. لكن حينما جلسوا في حيرة من أمرهم طلب بن رمثان منهم اختباره بالسير خلفه في طريق مستقيم، فساروا خلفه وهو على راحلته حتى أوصلهم للموقع المطلوب. وهكذا استطاع الجيولوجي الأمريكي الأشهر ماكس ستاينكي، بمساعدة بن رمثان، أن يعثر في الرابع من مارس 1938 على حقل النفط الشهير المعروف باسم «حقل الدمام 7» والذي أمر خادم الحرمين الشريفين الراحل الملك عبدالله بن عبدالعزيز -رحمه الله- بإطلاق اسم «بئر الخير» عليه، كناية عن الخيرات التي جلبها للوطن السعودي، والنقلة النوعية التي أحدثتها في مسيرة أمة بأكملها.
أول دليل حكومي
في ديسمبر 1957، أي قبل وفاته بنحو عامين، كان قد أكمل 15 عاما متواصلا من العمل مع أرامكو، فمنحته الأخيرة شهادة وجائزة. وقتها كتبت نشرة «الشمس والوهج Sun and Flare» الأسبوعية الصادرة عن أرامكو باللغة الإنجليزية كلمة عنه سردت فيه سيرته الذاتية وجانبا من خصاله، فقالت: «نظرا لقدرته على قياس المسافات بدقة متناهية، فقد تمّ تعيينه من قبل الحكومة السعودية كدليل، فكان أول دليل يدخل الخدمة الحكومية في المملكة. وفي عام 1934 كلفته أرامكو بقيادة قوافل الإمدادات من ميناء الجبيل إلى الظهران ومن الظهران إلى أبقيق، وبعد أن تم توظيفه في أرامكو عام 1942 عمل كمرشد رئيسي لفرق التنقيب. وبصفته تلك قدم لأرامكو خدمات لا تقدر بثمن، فقد كان حريصا على تحمل كافة مسؤولياته بأمانة، إذ كان يعرف جغرافية المملكة مثلما يعرف الطفل أمه. وفي مناسبات عديدة أثبت للجميع معرفته بمناطق بلده بدقة أكثر من الخرائط، ولهذا كان ينظر إليه باحترام ويوقر من قبل زعماء القبائل وذوي النفوذ في البادية».
إطلاق اسمه على حقل نفطي
ولأن شركة أرامكو ظلت في حاجة إلى مشورته، فقد ظل بن رمثان في خدمتها حتى تاريخ وفاته بمرض السرطان في مستشفى الشركة بالظهران في يوم الأحد الموافق للحادي والعشرين من يونيو سنة 1959، فكانت وفاته خسارة كبيرة لوطنه وللشركة التي أفنى حياته في خدمتها. وتقديرا لدوره أطلقت أرامكو اسم «رمثان» على حقل نفط جديد تم اكتشافه في عام 2009 على بعد 400 كيلومتر من شمال غرب الظهران، كما أطلقت اسمه على إحدى أجنحة معارض الزيت في عام 2015. علاوة على ذلك قامت الشركة الوطنية السعودية للنقل البحري التابعة لأرامكو السعودية في سبتمبر 2017 أي وقت استلامها لرابع ناقلة نفط عملاقة من أصل خمس ناقلات تعاقدت على شرائها من شركة هيونداي الكورية للصناعات الثقيلة بإطلاق اسم «رمثان» عليها تخليدا لدوره وخدماته.
ثنائية رمثان وستاينكي
قلنا إن علاقة وثيقة ربطت بن رمثان بكبير الجيولوجيين الأمريكان «ماكس ستاينكي»، كونهما كثيرا ما سافرا معا في مجاهل الصحراء، وقد أكد ذلك المهندس علي بن إبراهيم النعيمي في كتابه الموسوم بـ«من البادية إلى عالم النفط (الدار العربية للعلوم ناشرون/ بيروت/ 2016)، كما أكده توماس بارقر في الصفحة 286 من كتابه سلف الذكر (تحت القبة الزرقاء)، وأضاف أن بن رمثان جعل ستاينكي ذات مرة عاجزا عن الكلام، وذلك حينما أخبره أن البدو في وادي الدواسر غيروا اسم جبل قصير غليظ في منطقتهم من «أم رقيبة» إلى «صبع ستاينكي»، بعدما شاهدوا إصبعه القصير الذي كان قد بتر بعد إصابته بالتهاب». يقول بارقر معلقا: إن ستاينكي رأى في هذا التكريم رديفا بدويا لجائزة «سيدني باورز» التي حصل عليها في عام 1951 من الجمعية الأمريكية لجيولوجي البترول.
وأخيرا، فإن العديد من الشخصيات يدخلون تاريخ أوطانهم من أبواب غير مألوفة، وغير متوقعة، لكن أسماءهم وصورهم تظل عالقة بأذهان الأجيال المتعاقبة لشدة تأثيرها الإيجابي على حياة تلك الأجيال ومجتمعاتهم. وبن رمثان أحد هؤلاء ممن يستحق تدوين وتوثيق سيرته وإسهاماته في التاريخ النفطي والاجتماعي والسياسي المعاصر لبلده، كونه ساهم في اكتشاف ما يعتبر اليوم عصب التنمية الأول في المملكة العربية السعودية.
تنويه عن مقال الأسبوع الماضي
تنويه: بعد نشر مقالنا في الأسبوع قبل الماضي عن آل الزهير مؤسسي إمارة الزبير النجدية وردتني اتصالات كثيرة من عدد من الأشخاص، كل يحتج ويقول إن عائلته هي التي أسست وحكمت الزبير أولا؛ ومنها اتصال من الصديق المهندس عبدالهادي الجويسر الذي قال إن أول حكام الزبير هو فراج الجويسر. وردي هو أن في مقال صحفي محدود المساحة لا يمكن استعراض كل الآراء المختلفة والمتناثرة في كل المصادر التاريخية، وبالتالي فإن الباحث يرجح الرأي الأكثر تداولا وتكرارا في تلك المراجع وهو ما فعلناه. لذا وجب التنويه والاعتذار لكل من اعترض واستاء.
وقد أتى أحمد فهد العريفي في كتابه «مقامات حائلية: لمحات تاريخية واجتماعية ونصوص شعرية» على ذكر بعض من هؤلاء المشاهير من أدلاء الصحراء في العصرين الجاهلي والإسلامي، ممن كانت قبائلهم تتفاخر بهم مثل «دعيميص الرمل العبدي» الذي كان مضربا للأمثال عند العرب حتى قيل «أدل من دعيميص الرمل»، و«خالد بن دثار الفزاري» (دليل بني فرازة من قبيلة ذبيان)، و«رافع بن عميرة الطائي» (دليل جيش خالد بن الوليد إلى العراق والشام)، و«حنيف الحناتم» (دليل بني تيم من ثعلبة في معرفة الإبل)، و«عبدالجبار بن يزيد بن ربعة الكلبي» (دليل بني المهلب بن صفرة)، و«الأصيدف بن صليع الطائي» (العارف بالبلدان زمن الدولة الأموية)، و«عبداللّه بن اُريقط العدوي» (دليل الرسول في هجرته إلى المدينة المنورة)، وغيرهم.
أما في العصر الحديث، فلا نبالغ لو قلنا إن أشهر الأدلاء وأكثرهم تأثيرا هو «خميس بن رمثان العجمي» لأنه لعب دورا محوريا في إرشاد الجيولوجيين الأمريكيين إلى مكامن النفط في شرق المملكة العربية السعودية، فساهم بذلك في إحداث نقلة نوعية في اقتصاد بلاده. ولهذا فإن اسم الرجل ارتبط بتاريخ التنقيب عن النفط في بلاده، وارتبط من ناحية أخرى باسم الجيولوجي الأمريكي «ماكس ستاينكي» (توفي 1952) الذي وصل إلى السعودية في عام 1934 منتدبا من قبل شركة سوكال (لاحقا «كاليفورنيا آرابيان ستاندارد أويل» ثم أرامكو) التي كانت قد حصلت في 29 مايو 1933 على امتياز للتنقيب عن النفط في شرق السعودية.
ولأن بن رمثان وماكس ستاينكي كونا فريق عمل متجانساً ومتفاهماً أدى إلى الوصول إلى الزيت في مناطق عديدة من السعودية، فمن المستحسن قبل الحديث عن سيرة بن رمثان أن نسلط الضوء على تاريخ اكتشاف النفط في شرق السعودية ودور ستاينكي فيه. بدأ وصول الجيولوجيين الأمريكيين إلى السعودية في عام 1933، ثم انضم إليهم ستاينكي في العام التالي، وراحوا يهيئون أنفسهم للعمل ويجرون الاختبارات الأولية عن مكامن النفط في ظل حراسة ومساعدة بعض الجنود والأدلاء البدو من أمثال عبدالهادي بن جثينا، ومحمد علي القطري، ومحمد بن خرسان القحطاني، وخميس بن رمثان العجمي.
يأس الشركة الأمريكية
وفي ضوء الخرائط التي تم وضعها لمناطق الامتياز خلال أشهر من العمل المتواصل والتحليق اليومي لطائرة جلبت خصيصا لأعمال المسح، وبعد وصول آلات ومهندسي الحفر من البحرين بحرا، قرر الجيولوجيون في 30 أبريل 1935، بدء عمليات الحفر في حقل الدمام رقم 1 إلى الغرب من جبل الظهران وسط ظروف مناخية وطبيعية ومعيشية غاية في الصعوبة، ومن ثم في حقول الدمام الثاني فالثالث فالرابع فالخامس فالسادس. غير أن كل أعمال الحفر هذه فشلت في العثور على النفط بكميات تجارية، بما في ذلك عملية الحفر إلى عمق مواز للعمق الذي تدفق منه النفط في البحرين القريبة في عام 1932، الأمر الذي ساد معه اليأس فتقرر إيقاف أعمال الحفر، بل كادت الشركة الأمريكية صاحبة الامتياز أن تنسحب بعدما نفد صبرها وتكبدت خسائر بملايين الدولارات دون فائدة تذكر.
استدعاء ستاينكي إلى سان فرانسيسكو
ولهذا السبب استدعت الشركة ماكس ستاينكي إلى مقرها الرئيسي في سان فرانسيسكو في أوائل عام 1938، حيث نجح في إقناع رؤسائه بفكرة مواصلة الحفر في الحقل رقم 7 إلى أعماق أطول بكثير من المعتاد، وصرف النظر عن فكرة الانسحاب نهائيا. وكما هو معروف في أدبيات النفط السعودية فإن الزيت تدفق بكميات تجارية من حقل الدمام رقم 7 في الأسبوع الأول من مارس 1938 بعد أن تم الحفر إلى عمق 1440 مترا في طبقة أطلق عليها اسم «الطبقة الجيولوجية العربية». وفي نهاية مارس من العام نفسه وصل إنتاج الحقل المذكور إلى ثلاثة آلاف برميل يوميا ليرتفع بحلول عام 1940 إلى 12 ألف برميل في اليوم، علما بأنه بعد 45 سنة من استغلاله وبعد أن أنتج نحو 32 مليون برميل من الخام، تم إغلاق هذا الحقل التاريخي في عام 1982. وسرعان ما وجد ستاينكي دلائل على وجود النفط في مكان يبعد عن حقل الدمام بمسافة 50 كيلومترا، فأمر بإجراء عملية الحفر في ما يعرف اليوم بحقل بقيق الذي يختزن احتياطيا ضخما من النفط يقترب من 12 مليار برميل.
صاحب الحاسة السادسة
أما خميس بن رمثان المتحدر من قبيلة العجمان، وهي من قبائل شبه الجزيرة العربية المعروفة ذات الامتداد في مناطق السعودية والكويت وقطر، فقد ولد في حدود العام 1900 في الوادي الذي يحمل اسم قبيلته غرب الأحساء، وتحديدا في قرية «المليجة»، وعاش في الصحراء مرتحلا على ظهور الإبل، فألقت الصحراء عليه بملامحها، فنشأ كغيره من أبناء البادية متميزيا بقوة الشخصية والذكاء والفطنة وتحمل الحياة الخشنة، لكن الأهم من كل هذا كان اكتسابه لمهارات معرفة مسالك الصحراء ودروبها شبرا شبرا، وكذا معرفة أوديتها ومواردها وقبائلها عن ظهر قلب، ناهيك عن مهارات الاهتداء بالنجوم للاستدلال على الطرق والمواقيت، وغير ذلك مما استمده من قيامه مرارا بقطع صحراء الربع الخالي من الشرق إلى الغرب ومن الشمال إلى الجنوب، معتمدا في ذلك على قوة ذاكرته، أي من دون خرائط أو أجهزة تحديد المواقع. ولهذا أطلق عليه البعض لقب «بوصلة الصحراء التي لا تخطئ»، ولقبه البعض الآخر بـ«GPS الزمن القديم»، وأسماه البعض الثالث بـ«أسطورة الصحراء»، وأسماه البعض الرابع بـ«صاحب الحاسة السادسة». أما رئيس شركة أرامكو السعودية السابق ووزير النفط السعودي لاحقا المهندس علي بن إبراهيم النعيمي فقد اعتبره مع ستاينكي من الشخصيات التي ألهمته في السنوات المبكرة من التحاقه بأرامكو كصبي مراسل مكلف بنقل الملفات من مكتب إلى آخر.
البوصلة التي لا تُخطئ
وفي السياق نفسه يجدر بنا الإشارة إلى ما قاله عنه الجيولوجي الأمريكي توماس بارقر (توفي 1986)، الذي انتخب في عام 1958 نائبا ومساعدا لرئيس شركة أرامكو، قبل أن يعين كسادس رئيس تنفيذي للشركة من عام 1961 إلى 1969. فقد أورد بارقر في الصفحة 37 من كتابه Out in the blue الذي تمت ترجمته تحت عنوان «تحت القبة الزرقاء، رسائل من العربية السعودية 1938 ــ 1940» (دار برزان للنشر/ 2004)، النص التالي: «في الصحراء لا يتيه خميس (بن رمثان) أبدًا، لأنه بالإضافة إلى حاسته السادسة، وهي نوع من البوصلة الدفينة التي لا تُخطئ، كانت لديه ذاكرة مدهشة، تمكنه من تذكر دغلة كان قد مرّ بها وهو شاب أو اتجاه موقع بئر سمع عنه قبل عشر سنوات».
استنطاق الصحراء في 1934
المنعطف الأبرز في حياة بن رمثان، الذي نقله من رجل بدوي أمي غير معروف إلى شخصية مشهورة تحتل موقعا في تاريخ وطنه وتاريخ اكتشاف النفط في السعودية، كان في عام 1934. ففي تلك السنة بدأت «شركة ستاندرد أويل أوف كاليفورنيا» فعليا عمليات التنقيب عن النفط في مناطقة الامتياز، فاحتاجت إلى دليل ماهر، وطلبت من أمير المنطقة الشرقية آنذاك الأمير عبدالله بن جلوي (توفي 1936) أن يساعدها، فوقع اختيار الأمير على خميس بن رمثان الذي كان وقتها يعيش حياته وسط عائلته وعشيرته في عمق صحراء الدهناء المترامية الأطراف بعيدا عن مظاهر الحضارة وهدير المكائن وضوضاء المحركات والسيارات. وهكذا حضر مندوب الأمير بن جلوي إليه طالبا منه الحضور فورا للقيام بمهمة الدليل للبعثة الجيولوجية الاستكشافية الأمريكية، فلبى نداء الوطن وبدأ عمله في استنطاق الصحراء مباشرة في عام 1934، قبل أن تقوم شركة أرامكو رسميا بتعيينه موظفا لديها بدءا من عام 1942.
العثور على «بئر الخير»
وقد جاء اختيار بن رمثان في وقت كانت فيه الشركة الأمريكية صاحبة الامتياز تمر في حالة يأس وقنوط من العثور على النفط كما أسلفنا، رغم امتلاكها لأحدث أجهزة البحث والقياس والمسح. ومن هنا لم يؤمن الجيولوجيون الأمريكان كثيرا بما لدى بن رمثان من معارف فطرية حول الطرق والمواقع. لكن حينما جلسوا في حيرة من أمرهم طلب بن رمثان منهم اختباره بالسير خلفه في طريق مستقيم، فساروا خلفه وهو على راحلته حتى أوصلهم للموقع المطلوب. وهكذا استطاع الجيولوجي الأمريكي الأشهر ماكس ستاينكي، بمساعدة بن رمثان، أن يعثر في الرابع من مارس 1938 على حقل النفط الشهير المعروف باسم «حقل الدمام 7» والذي أمر خادم الحرمين الشريفين الراحل الملك عبدالله بن عبدالعزيز -رحمه الله- بإطلاق اسم «بئر الخير» عليه، كناية عن الخيرات التي جلبها للوطن السعودي، والنقلة النوعية التي أحدثتها في مسيرة أمة بأكملها.
أول دليل حكومي
في ديسمبر 1957، أي قبل وفاته بنحو عامين، كان قد أكمل 15 عاما متواصلا من العمل مع أرامكو، فمنحته الأخيرة شهادة وجائزة. وقتها كتبت نشرة «الشمس والوهج Sun and Flare» الأسبوعية الصادرة عن أرامكو باللغة الإنجليزية كلمة عنه سردت فيه سيرته الذاتية وجانبا من خصاله، فقالت: «نظرا لقدرته على قياس المسافات بدقة متناهية، فقد تمّ تعيينه من قبل الحكومة السعودية كدليل، فكان أول دليل يدخل الخدمة الحكومية في المملكة. وفي عام 1934 كلفته أرامكو بقيادة قوافل الإمدادات من ميناء الجبيل إلى الظهران ومن الظهران إلى أبقيق، وبعد أن تم توظيفه في أرامكو عام 1942 عمل كمرشد رئيسي لفرق التنقيب. وبصفته تلك قدم لأرامكو خدمات لا تقدر بثمن، فقد كان حريصا على تحمل كافة مسؤولياته بأمانة، إذ كان يعرف جغرافية المملكة مثلما يعرف الطفل أمه. وفي مناسبات عديدة أثبت للجميع معرفته بمناطق بلده بدقة أكثر من الخرائط، ولهذا كان ينظر إليه باحترام ويوقر من قبل زعماء القبائل وذوي النفوذ في البادية».
إطلاق اسمه على حقل نفطي
ولأن شركة أرامكو ظلت في حاجة إلى مشورته، فقد ظل بن رمثان في خدمتها حتى تاريخ وفاته بمرض السرطان في مستشفى الشركة بالظهران في يوم الأحد الموافق للحادي والعشرين من يونيو سنة 1959، فكانت وفاته خسارة كبيرة لوطنه وللشركة التي أفنى حياته في خدمتها. وتقديرا لدوره أطلقت أرامكو اسم «رمثان» على حقل نفط جديد تم اكتشافه في عام 2009 على بعد 400 كيلومتر من شمال غرب الظهران، كما أطلقت اسمه على إحدى أجنحة معارض الزيت في عام 2015. علاوة على ذلك قامت الشركة الوطنية السعودية للنقل البحري التابعة لأرامكو السعودية في سبتمبر 2017 أي وقت استلامها لرابع ناقلة نفط عملاقة من أصل خمس ناقلات تعاقدت على شرائها من شركة هيونداي الكورية للصناعات الثقيلة بإطلاق اسم «رمثان» عليها تخليدا لدوره وخدماته.
ثنائية رمثان وستاينكي
قلنا إن علاقة وثيقة ربطت بن رمثان بكبير الجيولوجيين الأمريكان «ماكس ستاينكي»، كونهما كثيرا ما سافرا معا في مجاهل الصحراء، وقد أكد ذلك المهندس علي بن إبراهيم النعيمي في كتابه الموسوم بـ«من البادية إلى عالم النفط (الدار العربية للعلوم ناشرون/ بيروت/ 2016)، كما أكده توماس بارقر في الصفحة 286 من كتابه سلف الذكر (تحت القبة الزرقاء)، وأضاف أن بن رمثان جعل ستاينكي ذات مرة عاجزا عن الكلام، وذلك حينما أخبره أن البدو في وادي الدواسر غيروا اسم جبل قصير غليظ في منطقتهم من «أم رقيبة» إلى «صبع ستاينكي»، بعدما شاهدوا إصبعه القصير الذي كان قد بتر بعد إصابته بالتهاب». يقول بارقر معلقا: إن ستاينكي رأى في هذا التكريم رديفا بدويا لجائزة «سيدني باورز» التي حصل عليها في عام 1951 من الجمعية الأمريكية لجيولوجي البترول.
وأخيرا، فإن العديد من الشخصيات يدخلون تاريخ أوطانهم من أبواب غير مألوفة، وغير متوقعة، لكن أسماءهم وصورهم تظل عالقة بأذهان الأجيال المتعاقبة لشدة تأثيرها الإيجابي على حياة تلك الأجيال ومجتمعاتهم. وبن رمثان أحد هؤلاء ممن يستحق تدوين وتوثيق سيرته وإسهاماته في التاريخ النفطي والاجتماعي والسياسي المعاصر لبلده، كونه ساهم في اكتشاف ما يعتبر اليوم عصب التنمية الأول في المملكة العربية السعودية.
تنويه عن مقال الأسبوع الماضي
تنويه: بعد نشر مقالنا في الأسبوع قبل الماضي عن آل الزهير مؤسسي إمارة الزبير النجدية وردتني اتصالات كثيرة من عدد من الأشخاص، كل يحتج ويقول إن عائلته هي التي أسست وحكمت الزبير أولا؛ ومنها اتصال من الصديق المهندس عبدالهادي الجويسر الذي قال إن أول حكام الزبير هو فراج الجويسر. وردي هو أن في مقال صحفي محدود المساحة لا يمكن استعراض كل الآراء المختلفة والمتناثرة في كل المصادر التاريخية، وبالتالي فإن الباحث يرجح الرأي الأكثر تداولا وتكرارا في تلك المراجع وهو ما فعلناه. لذا وجب التنويه والاعتذار لكل من اعترض واستاء.