الشُعبة الراخية كل يدنّيها
الجمعة / 30 / جمادى الآخرة / 1442 هـ الجمعة 12 فبراير 2021 01:06
علي بن محمد الرباعي
منذ دخلت القرية وهي محط أنظار الرجال، وحديث الفتيات والنساء الكبيرات. لا أحد يعرف أصلهن أوفصلهن، إلا أن تقاسيم الوجوه، وتفاصيل القوام، ونوعية اللبس، ورائحة العطور، وطريقة الكلام، تخلي الرجال القاحي يتخنطل في خياله وهو يمشي بالقرب من مسكنهن.
جاورت هي وابنتها الشابة في ليلة خريفية قرية عشاق، يحملن معهن من ديرتهن المجهولة، أصوافاً ومنافيش وأعواداً لصناعة الجباب والأكسية، وأنواعاً من البُن والحناء والأصباغ، ويحلف (ابن العريفة) أنه سمعهن وشافهن من القُترة بعيونه اللي بعد يأكلها الدود وهن يعدين جنيهات ذهب وارد جورج.
تتميز الأم إضافة إلى جمالها بأنها قومانية، ومودمانية تعرف عادات وأعراف القُرى، وطباع القبائل، تلبّس البنت أبهى لباس، وتعد القهوة المهيّلة، وتبعثها للعريفة المعتنز على حجارة مصبّر الجرين كل عصرية. يشوفها الفقيه ويلحقها في الطريق، ويقول «هاتها عنك، فتنظر فيه وما ترد عليه». تصب للعريفة فنجال وتحط الدلة، وتنصرف. فيصرف العريفة بصره عن وجه الفقيه باتجاه الوادي: مردداً: تقهو يا فقيه ما سرّك مثل ذراعك.
اشترتْ من المؤذن شاة حايل، أقسم المؤذن ما يجيه في شاته ريال. غمزت له بطرف عينها وبغى يحاحي من الفرحة، وحمل الشاة فوق كتفه وما نزّلها إلا داخل الشقيق، فأقسمت ما يروح لين يتقهوى، فلِطِيَت براطمه ببعضها.
قررت تذبح شاة الغُرم لتثبّت الجوار وتصبح وبنتها من أهل الدار، وبمضي أسبوع من السكنى في سافلة بيت العريفة كانت القدور تغلي والسيح محوّقة ومرشوشة.
تحرّت الجماعة في ظُلة المسيد، وعزمتهم على عشاء، كانت أعينهم تشيل وتحط في زين ربي، والكل يمتدح طعم القهوة، ويتغنى بنوع البخور، وبعدما كثروا بالخير، دقت دفوف اللعب، ولم يتمالك العريفة نفسه وهو يبدع متغزلاً في البنت وأمها، مستثيراً قريحة الشاعر ومحذراً له (الرازقي له وكيل ينقل أعنابه، مصيون عند الذي صان الحِكم سوسي، الغيل في قعر بيره والفل اسنى به) فردّ الشاعر متهكماً على تقدم العريفة في السن (بعض الجِمال المسنّة ينقلع نابه، لا طاح ما عاد يسوقه مطرق السوسي، نابه من الجوع نوبة والفلس نابه).
إذا تسللت داخنة الجاوي، من شبابيك السافلة توقظ مشاعر ابن العريفة وتلهب نوازع الشوق لرؤيتها، يلتقط العمامة والكوت ويسوق أمامه الأغنام ليوجد مبرراً للوقوف أمام الحوش بعض الوقت، وفي كل مرة تشوفه سارح تجمع الصوف المنفوش من قُدام أمها، وتضعه في قُفة وتأخذ المغزل وتخرج فوق الجناح تبرم الخيوط وتلفها يتعمد يرفع صوته بالغناء (يا ليتني مغزلٍ في كف جاري، يديرني بالهوى وعلى مهيله).
اشتعلت المنافسة بين الجماعة على لفت الأنظار، ونيل الإعجاب، ودبت الغيرة في نفوس الزوجات. فالمجاورات مختلفات وما في الحُكى فايدة، و كل دور ينعزمن في بيت. استشعر الفقيه بأن المنافسة تشتد بين العريفة والشاعر، فصار يحذف ويدّرق ويناغش بينهم. بينما العريفة والشاعر يسخران منه ويقولان: حليلك يا فقيه تهمل النخل وتتعتور في عروق النجمة اللي ما عاد تحقل. ؟ فيرد ضاحكاً؛ لا تنشدوني؛ طحت وإلا طيحني الجمل قد وقّعت في الحيلة.
أدمت الغيرة قلب المؤذن، وسأل العريفة: وشبك يا كبيرنا نسيت القرية وأهملت المواجيب. كنك ما قد شفت هيالة في حياتك، قسمتَ لها من الأملاك وأدخلتها معنا في الشِرب وكبرت رأسها عشان كستك جبّة محمّرة، تراك طرعتها فينا وطمّعتها بحلالنا وجرّأتها علينا.
أجابه وهو يزفر؛ أوه يا رفيقي يا ما شفنا لكن ما شي كما شي، ولا صبحن كما عِشي، والقلب لحمة يالرفيق. علّق؛ دريت القلب لحمة لكن ارشف مع الراشفين وافلح ما هب تستقعد جنب الطاسة، فقال: يجيك علم.
سرى الفقيه في الغُدرة، وغمز الأم بريالات فرانسي وخطب البنت. وشكا لها الحال؛ بأن وده يستذري، فطلبت مهلة إلى دور الخميس، عشان تبلّغ خالها يجي يعقد بها.
تم الزواج، ومغص الخبر العريفة والشاعر، وكان الشاعر يتهكم على العريفة (بغيت تبني جدارك في نهار النقا، واشتالها في ظلام الليل وسرى بها) فيعلّق؛ يا شاري الدون بالدون، تحسبك غابن وأنت مغبون.
عقد الفقيه بالزواج من الفتاة أمل يجي له منها ولد، كاد يفقده بتأخرها في الحمل، فتش لها عند الفقها، وداها عند الممرخة، وقرأ عليها. وما حملت إلا بعد ما زلقت أسفل الدرجة والقربة فوق ظهرها.. وما مضت ثالث ليلة إلا وهي تتلحوص تدور لوز حامض وتلحس الجدار الطين.
أنجبت (زملان) وعمر الفقيه يوم جا الولد فوق الستين: إذا شافه يتنطط قدامه قال؛ ولد الشارب للحية وولد الشيبة للخيبة، يدعيه ويدخله معه في الجُبّة، ويخفته في أذنه؛ ما بغيت تجي يا زبيب الغرزة، ويوم ختانك قطعناك ودفناها في الركيب المسقوي جنب البير عشان تحب البلاد، يلقّمه بيده، ويقول «كُل عشان تكبر» والولد عينه على تنكة التمر، والشايب يحذّره؛ لا تتشهوى ما يتشهوى إلا سلّات.
تعالت الأصوات عند الجرين، المؤذن يطالب بقيمة الشاة اللي عشتهم عليها، والعريفة يحلف ما تأخذ ريال، يضيف؛ تراك أعطيتها بطيب خاطر، ومنين تاهب لك هيل الله عليك والمخلوقة إن لقيت غداها ما لقيت عشاها. فيعلّق: يا عريفة خلك حقاني ولا تظلم نفسك، ما خبرناك شعبة راخية كل متعلّق يدنّيها، فينظر إليه ويضع طرف العمامة فوق شفتيه مردداً (الله ربنا وربك، قم وذّن).
كاتب سعودي
Al_ARobai@
جاورت هي وابنتها الشابة في ليلة خريفية قرية عشاق، يحملن معهن من ديرتهن المجهولة، أصوافاً ومنافيش وأعواداً لصناعة الجباب والأكسية، وأنواعاً من البُن والحناء والأصباغ، ويحلف (ابن العريفة) أنه سمعهن وشافهن من القُترة بعيونه اللي بعد يأكلها الدود وهن يعدين جنيهات ذهب وارد جورج.
تتميز الأم إضافة إلى جمالها بأنها قومانية، ومودمانية تعرف عادات وأعراف القُرى، وطباع القبائل، تلبّس البنت أبهى لباس، وتعد القهوة المهيّلة، وتبعثها للعريفة المعتنز على حجارة مصبّر الجرين كل عصرية. يشوفها الفقيه ويلحقها في الطريق، ويقول «هاتها عنك، فتنظر فيه وما ترد عليه». تصب للعريفة فنجال وتحط الدلة، وتنصرف. فيصرف العريفة بصره عن وجه الفقيه باتجاه الوادي: مردداً: تقهو يا فقيه ما سرّك مثل ذراعك.
اشترتْ من المؤذن شاة حايل، أقسم المؤذن ما يجيه في شاته ريال. غمزت له بطرف عينها وبغى يحاحي من الفرحة، وحمل الشاة فوق كتفه وما نزّلها إلا داخل الشقيق، فأقسمت ما يروح لين يتقهوى، فلِطِيَت براطمه ببعضها.
قررت تذبح شاة الغُرم لتثبّت الجوار وتصبح وبنتها من أهل الدار، وبمضي أسبوع من السكنى في سافلة بيت العريفة كانت القدور تغلي والسيح محوّقة ومرشوشة.
تحرّت الجماعة في ظُلة المسيد، وعزمتهم على عشاء، كانت أعينهم تشيل وتحط في زين ربي، والكل يمتدح طعم القهوة، ويتغنى بنوع البخور، وبعدما كثروا بالخير، دقت دفوف اللعب، ولم يتمالك العريفة نفسه وهو يبدع متغزلاً في البنت وأمها، مستثيراً قريحة الشاعر ومحذراً له (الرازقي له وكيل ينقل أعنابه، مصيون عند الذي صان الحِكم سوسي، الغيل في قعر بيره والفل اسنى به) فردّ الشاعر متهكماً على تقدم العريفة في السن (بعض الجِمال المسنّة ينقلع نابه، لا طاح ما عاد يسوقه مطرق السوسي، نابه من الجوع نوبة والفلس نابه).
إذا تسللت داخنة الجاوي، من شبابيك السافلة توقظ مشاعر ابن العريفة وتلهب نوازع الشوق لرؤيتها، يلتقط العمامة والكوت ويسوق أمامه الأغنام ليوجد مبرراً للوقوف أمام الحوش بعض الوقت، وفي كل مرة تشوفه سارح تجمع الصوف المنفوش من قُدام أمها، وتضعه في قُفة وتأخذ المغزل وتخرج فوق الجناح تبرم الخيوط وتلفها يتعمد يرفع صوته بالغناء (يا ليتني مغزلٍ في كف جاري، يديرني بالهوى وعلى مهيله).
اشتعلت المنافسة بين الجماعة على لفت الأنظار، ونيل الإعجاب، ودبت الغيرة في نفوس الزوجات. فالمجاورات مختلفات وما في الحُكى فايدة، و كل دور ينعزمن في بيت. استشعر الفقيه بأن المنافسة تشتد بين العريفة والشاعر، فصار يحذف ويدّرق ويناغش بينهم. بينما العريفة والشاعر يسخران منه ويقولان: حليلك يا فقيه تهمل النخل وتتعتور في عروق النجمة اللي ما عاد تحقل. ؟ فيرد ضاحكاً؛ لا تنشدوني؛ طحت وإلا طيحني الجمل قد وقّعت في الحيلة.
أدمت الغيرة قلب المؤذن، وسأل العريفة: وشبك يا كبيرنا نسيت القرية وأهملت المواجيب. كنك ما قد شفت هيالة في حياتك، قسمتَ لها من الأملاك وأدخلتها معنا في الشِرب وكبرت رأسها عشان كستك جبّة محمّرة، تراك طرعتها فينا وطمّعتها بحلالنا وجرّأتها علينا.
أجابه وهو يزفر؛ أوه يا رفيقي يا ما شفنا لكن ما شي كما شي، ولا صبحن كما عِشي، والقلب لحمة يالرفيق. علّق؛ دريت القلب لحمة لكن ارشف مع الراشفين وافلح ما هب تستقعد جنب الطاسة، فقال: يجيك علم.
سرى الفقيه في الغُدرة، وغمز الأم بريالات فرانسي وخطب البنت. وشكا لها الحال؛ بأن وده يستذري، فطلبت مهلة إلى دور الخميس، عشان تبلّغ خالها يجي يعقد بها.
تم الزواج، ومغص الخبر العريفة والشاعر، وكان الشاعر يتهكم على العريفة (بغيت تبني جدارك في نهار النقا، واشتالها في ظلام الليل وسرى بها) فيعلّق؛ يا شاري الدون بالدون، تحسبك غابن وأنت مغبون.
عقد الفقيه بالزواج من الفتاة أمل يجي له منها ولد، كاد يفقده بتأخرها في الحمل، فتش لها عند الفقها، وداها عند الممرخة، وقرأ عليها. وما حملت إلا بعد ما زلقت أسفل الدرجة والقربة فوق ظهرها.. وما مضت ثالث ليلة إلا وهي تتلحوص تدور لوز حامض وتلحس الجدار الطين.
أنجبت (زملان) وعمر الفقيه يوم جا الولد فوق الستين: إذا شافه يتنطط قدامه قال؛ ولد الشارب للحية وولد الشيبة للخيبة، يدعيه ويدخله معه في الجُبّة، ويخفته في أذنه؛ ما بغيت تجي يا زبيب الغرزة، ويوم ختانك قطعناك ودفناها في الركيب المسقوي جنب البير عشان تحب البلاد، يلقّمه بيده، ويقول «كُل عشان تكبر» والولد عينه على تنكة التمر، والشايب يحذّره؛ لا تتشهوى ما يتشهوى إلا سلّات.
تعالت الأصوات عند الجرين، المؤذن يطالب بقيمة الشاة اللي عشتهم عليها، والعريفة يحلف ما تأخذ ريال، يضيف؛ تراك أعطيتها بطيب خاطر، ومنين تاهب لك هيل الله عليك والمخلوقة إن لقيت غداها ما لقيت عشاها. فيعلّق: يا عريفة خلك حقاني ولا تظلم نفسك، ما خبرناك شعبة راخية كل متعلّق يدنّيها، فينظر إليه ويضع طرف العمامة فوق شفتيه مردداً (الله ربنا وربك، قم وذّن).
كاتب سعودي
Al_ARobai@