كتاب ومقالات

نظامٌ مستقرٌ.. وسياساتٌ متذبذبة

طلال صالح بنان

مهما حصل، مؤخراً، من مظاهر عدم استقرار في النظام السياسي الأمريكي، لم يفشل هذا النظام تأكيدِ عراقةِ ممارسته الديمقراطية، بفشلِ كل محاولات الإخلال بتراث التداول السلمي للسلطة واحترام الشرعية الدستورية. رغم عنف أحداث السادس من يناير الماضي، إلا أن الرئيس المنتهية ولايته، ظل ممارساً لجميع سلطاته الدستورية، حتى آخر ثانية من ولايته.. والرئيس الجديد، مارس صلاحياته الرئاسية، من أول ثانية بدء ولايته.

تقاليد دستورية مستقرة جرى احترامها والإذعان لشرعيتها، منذ تأسيس الجمهورية في الرابع من يوليو ١٧٧٦. حتى في أوقات الحروب والأزمات وحركة توسع الدولة، لم يحدث أي تجاوز لهذه القاعدة المستقرة. فالولاية الرئاسية تتجدد أو تتغير، كل أربع سنوات، في نفس التوقيت.. وتجري انتخابات كل سنتين لمجلس النواب.. وفي نفس الوقت: تجري انتخابات لثلثي مجلس الشيوخ، كل سنتين، أيضاً.

نظام سياسيٌ مستقرٌ عماده التداول السلمي للسلطة يعكس إبداع الديمقراطية الأمريكية واستقرارها العتيد. في المقابل: هناك عدم استقرار في السياسات، محلياً وخارجياً. ربما يجادل البعض: أن هذا أمرٌ طبيعي نتيجة التنافس بين برامج المرشحين الحزبية، تفرضه روح الديمقراطية ومنطقها.. والسلطات التنفيذية الواسعة التي يتمتع بها الرئيس، لأنه منتخبٌ من الشعب، ولا يليق بإرادة من الكونجرس، كما هو الوضع في الأنظمة البرلمانية.

لكن، في الأربع سنوات الماضية، جرت تعديلات جذرية وسريعة في السياستين الداخلية والخارجية. لم يكن الرئيس السابق دونالد ترمب يريدها ثورة على النخب ومؤسسات الحكم في واشنطن، فحسب.. لكنه أرادها، أيضاً، ثورة مجتمعية في داخل البلاد، تمتد إلى سياستها الخارجية. حاول الرئيس ترمب إغلاق البلد داخلياً.. وعزلها خارجياً، تحت شعارِ أمريكا أولاً.. وأمريكا للأمريكيين. داخلياً: فرض قيوداً مشددةً على الهجرة ودخول البلاد من عرقيات وقوميات تتبع ديانات معينة، تزامناً: مع حملات بوليسية شرسة على المقيمين غير الشرعيين، لدرجة الفصل التعسفي للأسر. بالإضافة إلى تسييج حدود البلاد الجنوبية بجدارٍعازلٍ.. وفرضِ قيود مشددة على التجارة مع كندا والمكسيك، انتهاكاً لاتفاقية النافتا.

خارجياً: أنبرى الرئيس ترمب على حلفائه التقليديين في حلف شمال الأطلسي ومناطق أخرى من العالم، فاصلاً أمن الولايات المتحدة عن أمنهم القومي. بل وصل به الأمر إلى مطالبةِ حلفائه بدفعِ فاتورةِ حمايةِ الولايات المتحدة لهم، بأثرٍ رجعي. في المقابل: طوّرَ علاقاتٍ متميزةٍ مع الروس! وكذا رجوعه عن الاتفاق النووي مع إيران، بشراكة أوروبية وأممية.

هذه السياسات غير التقليدية، على المستويين المحلي والإقليمي، بدأ الرئيس الديمقراطي الجديد جو بايدن بمراجعتها، حتى إلغاء الكثير منها، من أول يومٍ لرئاسته. فألغى جميع قرارات الهجرة والإقامة، التي بدت تعسفية.. وأوقف بناء الجدار العازل.. وأكد على أمن حلفائه، امتداداً لأمن الولايات المتحدة القومي.. وتحدث عن إمكانات العودة للاتفاق النووي مع إيران.. وعن احتمال الاتصال بالفلسطينيين، وعن خيار الدولتين. كما أكد على قضية حقوق الإنسان، كأحد ثوابت السياسة الخارجية الأمريكية.. وأعاد الاتصال مع منظمة الصحة العالمية.

الولايات المتحدة يحكمها نظامٌ سياسيٌ مستقر، إلا أن سياساتها على المستويين المحلي والدولي متذبذبة، تتوقف على التوجهات الحزبية لرموزِ وموسسات نخبها السياسية. حقيقة على كل من يتعامل مع الولايات المتحدة أن يأخذها في الحسبان.

كاتب سعودي

talalbannan@icloud.com