كتاب ومقالات

نطبّع ما نطبّع

علي بن محمد الرباعي

تظل العلاقات الإنسانية أثمن المكتسبات وأغنى المنجزات، وليست لهذه العلاقة السامية ملامح ومنطلقات محددة. أحياناً تقوم المودة على عفوية غير قابلة للتفسير، وفي الوقت الذي ينفر منك أقرب الناس إليك ، يحتويك الأبعد دون طارف معرفة ولا تليد نسب.

ومنذ وعينا ونحن نسمع عن احتشاد العرب عام ١٩٤٨هـ، للدفاع عن فلسطين واستردادها من الغاصبين. من ذلك التاريخ مر ما يزيد على سبعين عاماً. وخرجت إسرائيل من الصراع دولة مكتملة الوجود وإن لم تُرسّم كافة الحدود. بينما الفلسطينيون كانوا عندما بدأت أزمتهم فصيلاً واحداً ، وتوزعوا اليوم إلى 14 فصيلاً، وكل فصيل يُدار من خارج فلسطين بأهواء وأجندات غير فلسطينية، والعرب الذين احتشدت جيوشهم في ذلك العام ليس منهم أحد على استعداد لتكرار التجربة.

دار حديث بين صديقين عربيين لم يغب عن ذهن أحدهما على الأقل أن هناك بوناً شاسعاً بين مشاعر الفرد واعتبارات الدولة، فالسياسة لا تقوم على عاطفة ولا تنتمي لردود الفعل الفورية، فمشاعر الشخص شأن فردي لا يملك أحد إجباره على كراهية من يحب ولا محبة من يكره، وتوجهات الدولة مسؤولية تقوم على حسن تدبر وكياسة وتغليب لغة المصالح على أي لغة، وضرورات السياسة ليست مرتبطة بتحفظ متشائم ولا باندفاع متفائل.

قال أحدهما: أنا مواطن عربي. أنتمي لموطن لطالما كان مهوى أفئدة أمم وشعوب وملاذاً آمناً لفارين بعقائدهم وعاداتهم وتقاليدهم ومن يقرأ المكون الكوزموبوليتي لوطني سيشعر أننا بالفعل ملتقى حضارات ومحيط صبت فيه أنهار بشرية جمعت الشامي باليمني والآسيوي بالأفريقي وصهرت الجميع تحت راية واحدة، دون تمييز، ما يفرض ثقافة التسامح ويخفف حدة التعصب ضد أي مخلوق على كوكب الأرض. وليس بالإمكان اليوم الانغلاق بوجه سائح أو زائر أو باحث يود قراءة التاريخ مجدداً وفق ما تحتفظ به الجغرافيا من شهود وشواهد، والأيام والأحداث تثبت أن الذي حابى وفاوض وسالم ظفر بأضعاف ما طمح إليه المحارب والمشاغب، وليس من المعيب في شيء أن نكون دعاة سلام ووئام ونتجاوز تصفية الحسابات بعبور نهر المسافات الطويلة على جسر المكاسب المتبادلة.

قال الآخر: لا تنسَ أننا جند الله في أرضه، وأن القدس لنا ، وأن دعاوى التطبيع صهيونية ومشبوهة، والوعد الحق ظاهر ومعلن وقابل للتحقق، ومن الهوان أن نضعف، أو نستسلم، بل نعد العدة، ونجاهر بمواقف العداء والكراهية، ونغرسها في الأجيال.

فقال الأول: الشعارات التي رفعناها في الخمسينات ورثتموها في الثمانينات، ونسيتم أو تناسيتم أن الثابت الوحيد في السياسة هو (المتغيّر) والمتغيّر لا يتغيّر عبثاً ولا مزاجاً بل تُحتّمه ظروف وتفرضه معطيات وتوجبه أحداث كثيراً ما تقلب المعادلات رأساً على عقب؛ ولذا لا عداء دائم ولا صداقات مستمرة، بل مصالح متجددة وفق ما يراه الساسة وصناع القرار، علماً أن جميع الفصائل الفلسطينية قبلت التعايش مع الإسرائيليين، فلماذا انفعال البعض ومغالاته ومزايدته على أهل الأرض، بتقمص دور صاحب قضية هي في الأصل ليست قضيته، لينطبق عليه المثل (أهل الميّت صبروا والمعزون كفروا)؟

فقال الآخر: العداء لدولة إسرائيل له مسوغات منها إنسانية، ومنها دينية، ومنها قومية، ومنها اقتصادية واجتماعية وثقافية، وكل ما بين أيدينا وما خلفنا يُملي علينا أن نجابه ونواجه ونتصدى.

فقال الأول: العداء على ميراث تاريخي مروي في كتب التراث يوقع في إشكالات منهجية، وليس من الموضوعية أن نميل بالكفة لصالح طرف لمجرد كونه مستضعفاً، وما يختلج في نفوس بعض الشعوب ضد خصومه دافعه التشويش والتشويه للصورة الواقعية وتكثيف الدعاية المصحوبة بمشاهد تراجيدية مستثيرة للوعي العام ومستفزة لردات الفعل.

طلبا مني التدخل، فأبديت وجهة نظري من منطلق النص القرآني الذي دعا للتعاون بين الشعوب والقبائل، ونهى عن الظلم والتجاوز، وأعلى مكانة العدل، وقلت: بالطبع لم يرد نص قرآني صريح يطالب إن نقاتل الآخرين بسبب خلاف بيننا أو اختلاف. إلا إن قاتلونا. نحن شعب عربي مسلم. لنا منهج رباني وانتماء قومي ولنا دول لها كياناتها وساستها ونظامها. وأتساءل: (هل التفكير أو التمني أو الاقتناع بتطبيع علاقة مع شعب يراه البعض عدواً يدخل في إطار التجريم)؟ خصوصاً حين لا يطال بلدي أي أذى واقع ولا متوقع من ذلك الشعب وحكوماته.

وذكّرتهما بأن النبي عليه الصلاة والسلام في مكة راعى ما يمكن تسميته توازن القُوى، وكانت المهادنة، وعدم الاستثارة، والصبر، ثم الهجرة للمستضعفين مرتين، وثالثة إلى المدينة، التي عامل أهلها زراعة وتجارة وتبايع، ومنهم اليهود والنصارى وغيرهم، وعندما مرّت به جنازة وقف لها، فقالوا: جنازة يهودي يا رسول الله، فقال: أليست نفساً.

ليس العداء أصلاً في الإسلام ولا الحروب قاعدة فآية (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا) مندوحة لكل راغب في السلام بتطبيع أو دونه، ولكل مواطن مشاعره حبّاً أو كراهية أو ميلاً أو إعجاباً إلا أن ضابط كل هذه المشاعر هو قانون ونظام وطنه واتفاقياته والتزاماته مع منظوماته الإقليمية والدولية.

إذا كان التطبيع يحل إشكالات وينهي خلافات ويثري علاقات بين دول متكافئة فأين الجُرم الذي يحاول البعض تكييفه وتصنيفه وإلصاقه بكل من نادى بالسلام؟

للعداء حيثياته، وللنفور مسبباته، لكن الحس الإنساني في الكائن السوي يجعل كل الناس إخواناً أو أصدقاء أو معارف أو خلقاً من خلق رب العالمين الذي إن أراد شيئاً فإنما يقول له كن فيكون.

كاتب سعودي

Al_ARobai@