كتاب ومقالات

أقرب إلى الحياد !

منى المالكي

الحياد في السياسة خيانة! لكن للحياد في حياتنا مجازاته وتأويلاته المدهشة له مسالكه ومهالكه المتعددة، هناك المتخمون بالحنين لتلك الأماكن التي عاشت في ثنايا الذاكرة ردحاً من الزمن ثم انتهت في لحظة أقرب إلى الحياد! تلك اللحظة -لحظة الحياد العظيمة- أمام الأشياء والتي وقفت شاهدة علينا ونحن صامتون صمت القبور أمام ذلك المكان الغريب علينا في لحظتنا التاريخية تلك! فلم تجرفنا معه كما تعودنا إلى بحار الأبجدية المتسعة الشاسعة تلك الأبجدية التي ترهلت واهترأت حواراتها! فلم يكن للطلل مقدمته الخالدة التي تعودناها لأنه ذهب مع الريح!

هل كانت لحظة الحياد تلك ألماً أم انتصاراً لبدايات جديدة، بداية لم تتعثر خطواتها بعد بذلك الحنين القاتل، حتى وصلنا إلى أننا عرفنا لماذا شدت فيروز ذات جرح أن لديها حنينا ولكن (ما بعرف لمين) لحظة الحنين الموجعة المؤلمة لم تجد من يستحقها فذهبت غير مأسوف عليها! هذا هو انتصار البدايات! البدايات لحياة جديدة تخلصت من إرث ذلك الحنين القاتل!

«هل فهمت الآن الحكمة من كون عمر الإنسان لا يتجاوز الثمانين على الأغلب؟ لو عاش الإنسان مائتي عام لجن من فرط الحنين إلى أشياء لم يعد لها مكان» نعم للحنين جنون والكارثة عندما لم يعد لتلك الأشياء مكان تركن إليه! ولكن الموت ليس حلاً سحرياً؛ كما قال بذلك أحمد خالد توفيق في مقولته السابقة، موت الحنين هو الانتصار العظيم ولكن كيف؟

يقول برتراند راسيل في كتابه «الفوز بالسعادة»: «السعادة ليست هروبا من الواقع ومآسيه إنما التحرر من تأثيره فينا وسيطرته علينا .... والسعادة هي في الحياة الواقعية لأن الإفراط في التفكير بمستقبلنا يهدم لذة الاستمتاع بحاضرنا». ويقول حسين أمين في كتابه «كيمياء السعادة»: «إن جهل الغالبية بالتاريخ يسهل على الناس تزييف الماضي، فلو عدنا إلى الماضي بملابساته الحقيقية بعد تقديسه وتفخيمه لأصابتنا خيبة أمل عظيمة»، وهذا ما يفعله الحنين أو التفكير بالماضي إنه يقدس ذكرياتنا ويجعلها في محراب التعظيم وصناعة أصنام الذكرى الزائفة!

وهذا ما ذهب إليه أيضاً مارسيل بروست في قوله «إن تذكر أشياء من الماضي ليس بالضرورة أن يكون كتذكر الأشياء كما كانت عليه في وقت مضى»، فالذاكرة ليست شريط فيديو مسجلا عليه كل شيء بدقة، فربما بالغنا قليلا وربما صنعنا نحن الوجع و الألم بالذكرى والحنين، ولذلك ما زلنا هناك نقف في ترقب قاتل حتى أتت لحظة الحياد العظيمة تلك فخرجنا ونحن لا نتألم ولا نتوجع!

فلنكن كما قال محمود درويش: «لا أحد يحن إلى جرحه، لا أحد يحن إلى وجع أو كابوس» فلماذا نحاول التغلب على الحنين للماضي؟ من هنا فقط تأتي خطورة الحنين، فطالما أنك لا تحن إلى وجع أو كابوس، أو إلى شيء يؤذيك، فمن المرجح أنك وصلت إلى لحظة أقرب للحياد عندها ستكون على منصة الانطلاق للبدايات الجديدة المفعمة بالشوق واللهفة للحياة!

كاتبة سعودية

monaalmaliki@