زوايا متخصصة

أفلام «برلينية».. صناعة نسائية

لقطة من فيلم «سعاد».

علا الشيخ - ناقدة سينمائية OlaAlsheikh@

السينما هي السينما، بعيدا عن تصنيفها سينما نسائية أو ذكورية، وهذا التصنيف تم إلغاؤه من قبل مهرجان برلين السينمائي حين أعلن أن جائزة التمثيل لن تقسم إلى جائزة أفضل ممثلة وأفضل ممثل، وهذا الحال الذي يجب اعتماده تجاه صناع الأفلام، فالفيلم الجيد سيجد طريقه ليحتفى به بعيدا عن الجندرية، ومع هذا من الصعب تجاهل السعادة بوجود أسماء لصانعات أفلام أثبتن قدرتهن على التنافس بسبب القيمة الفنية التي قدمنها، وليس بسبب وضعهن في خانة أنهن نساء فيجب دعمهن، والدورة 71 من مهرجان برلين السينمائي شهدت على هذا، وتصدرت أسماء مخرجات بينهن عربيات مقالات وأحاديث المتابعين الذين شاهدوا أفلامهن عبر الأونلاين. وسابقا تم تناول الفيلم الأول الذي عرض في المهرجان ضمن المسابقة الرسمية وهو (أنا رجلك) للممثلة والمخرجة الألمانية ماريا شرادير، وفي نفس المسابقة تم عرض الفيلم الإيراني «أغنية بقرة بيضاء» (سيتم الحديث عنه لاحقا) للمخرجة مريم مقدم التي مثلت في فيلم المخرج المعارض الإيراني جعفر بناهي ستائر مغلقة، وأيضا ينافس على الدب الذهبي الفيلم اللبناني «دفاتر مايا» للمخرجة جوانا توما خليل (تم تناوله سابقا)، كما شهدت المسابقة الفيلم التسجيلي (السيد باهمان وفصله الدراسي) للمخرجة الألمانية ماريا شبيث، إضافة إلى الفيلم الفرنسي (أمي الصغيرة) للمخرجة سيلين سياما.

في المقابل تظهر أسماء لمخرجات أيضا في الأقسام الأخرى، من بينهن أسماء لمخرجات عربيات، مثل المخرجة اللبنانية إليان الراهب وفيلمها التسجيلي (أعنف حب) الذي عرض في قسم البانوراما، وفيلم (سعاد) للمخرجة آيتن أمين الذي عرض أيضا في نفس القسم، ومن الأسماء العربية النسائية أيضا المخرجة الفلسطينية سماهر القاضي (كما أريد) الذي يعرض في قسم لقاءات وتم تناوله سابقا.

أما اليوم فسنتناول فيلمي «أعنف حب» لإليان الراهب، و«سعاد» لآيتن أمين، المعروضين في قسم البانوراما.

الوثائقي «أعنف حب»

لدى مخرجة الأفلام الوثائقية اللبنانية إليان الراهب قدرة غريبة في استفزاز شخصياتها، بحيث عندما تتعرف عليهم في المشهد الأول من أفلامها تشعر أنه من الصعب على مثل هذه الشخصيات أن تروي حكايات خاصة، وهذا حدث فعلا في فيلمها ليالي بلا نوم وفيلمها ميل يا غزيل، أما بالنسبة لفيلمها الجديد الذي عرض في قسم البانوراما في مهرجان برلين السينمائي، ثمة تحد مختلف، فالجرأة التي تتميز بها الراهب، التي تحوم عادة حول ما حدث فعلا في الحرب الأهلية اللبنانية، تعدتها هذه المرة لترصد ماضي ميشيل، الشاب اللبناني الذي هاجر بالثمانينات إلى إسبانيا، بعد أن كان مقاتلا في الكتائب، حسنا إلى هنا تبدو الحكاية مألوفة أو مكررة، لكن مع الراهب ثمة أسرار دائما تستطيع الكشف عنها.

في أعنف حب، تقرر الراهب أن تستخدم تقنية الكولاج في تتبع حكاية ميشيل، بحيث تعيده طفلا ومراهقا وشابا، بتقنية القص واللزق، فتضفي شيئا من الكوميديا على قصة لا شيء أمامها سوى البكاء.

فالراهب التي قصدت برشلونة للبحث عن حبيبة والدها السابقة وبرأسها أن تصنع فيلما عنها، غيرت كل خطتها عندما قابلت ميشيل، الذي كان من المفترض أن يساعدها بالبحث عن تلك الحبيبة واسمها (باكيتا) فلدى الراهب حكاية معها، لأن كل مشكلة تحدث بينها وبين أمها تذهب للبكاء ويلحق بها والدها ويحدثها عن تلك الحبيبة لدرجة أنها شعرت أن باكيتا هي المفترض أن تكون أمها، قصة كشفت عنها الراهب في المشاهد الأخيرة في الفيلم وهي تحكيها لأمها، فموضوع الأم أساسي في الفيلم، وهو الذي يجب العودة له للحديث عن ميشيل.

فقد تم ذكر تقنية الصناعة التي اعتمدتها الراهب، لذلك يحتمل الفيلم أن يكون خليطا بين توثيق وتسجيل وحتى روائي ومسرحي، فهي تحاول البحث عن شخصيات عبر اختبار أداء لتمثيل قصة ميشيل، بحيث يجلس إلى جانبها ليقارب بين ما يعلق بذاكرته وبين شكل الشخصيات التي تريد تأدية دورها لأجله، وهنا عملية تتحول إلى إعطاء ميشيل فرصة ليتخلص من كوابيسه، المرتبطة بعقد ساهمت فيه أمه، شقيقه الي، وبشير جميل على ما يبدو.

عندما تسأل الراهب ميشيل عن سنة تاريخ ميلاده، يجيبها «31 أكتوبر 1994» مع أن عمره قارب على الخمسين، لكن هذا التاريخ هو يوم وصول ميشيل إلى إسبانيا، لذلك يعتبره يوم ميلاده.

ميشيل شخصية هاربة من كل شيء يحيط به، قالت أمه له يوما «أنت مستحيل تكون ابني»، تراكمات هذه العلاقة غير السوية جعلت ميشيل يعيش مع أمنياته التي تتلخص بقتل أمه وقتل أخيه الذي تفضله العائلة، وهذا الشعور هو السبب في التحاقه ضمن صفوف الكتائب بمعركة الجبل، الذي لا يعرف صدقا من كان يقاتل من فيها.

أحلام ميشيل دائما فيها قتل الآخر، والتي عملت الراهب إلى تحويلها كقصص كرتونية على أمل التخفيف من وطأتها. والأهم أن ميشيل الهارب حتى من اسمه بحيث غيره إلى ميغيل ليتناسب وإسبانيا التي يعيش بها، أنه قرر أن يحكي كل ما في جعبته، حتى لو اختلطت القصص ببعضها وتزعزعت ثقتك إذا كانت حقيقة أم خيالا.

ساعتان هما مدة الفيلم، تقسمهما الراهب إلى عناوين أشبه بعناوين لوحات، وتفاصيل عاشها ميشيل جعلته يصل إلى حالة الرضا، تكمن في قصة أحد عناصر الكتائب الذي قرر أن يقوي قلب ميشيل عبر حكاية قالها بكل فخر «بشاتيلا بعد ما صفيت عيلة كاملة، انتبهت لبنت صغيرة شقراء حلوة، رحت اغتصبتها وقتلتها بعدها»، هنا شعر ميشيل بأنه إذا لم يهرب سيؤول حاله مثل حال الطفلة الفلسطينية التي يتغنى راوي حكايتها بفخر اغتصابها. وبالفعل هرب ميشيل إلى إسبانيا والمفارقة أن الهروب كان بمساعدة أمه، التي ماتت بسورية قبل أن تشهد الدمار الكامل فيها.

تفصيل آخر في حياة ميشيل أيضا له تأثيره في عملية التهذيب التي قررها في روحه، وهي تقلا المربية السورية التي تعيش في سورية حاليا، عندما يذكرها ميشيل يبكي، والغريب أنه وصل إلى حد البكاء على ما يحدث في سورية وهو الذي كان يوما يتمنى زلزالا أرضيا ينهيها من الوجود. هنا تعي كم كان الزمن كفيلا في تصفية روحه، هنا تدرك فعلا أن تاريخ ميلاد ميشيل كان في 1994، تاريخ بدأ بسرده في أول الفيلم وانتهى معه مرة أخرى مع أمنية أن يجد من يحبه قبل موته.

الروائي الطويل «سعاد»

بعد فيلمها الروائي الطويل الأول فيلا 69.. لفتت المخرجة آيتن أمين الانتباه لها، بالرغم من تجربتها السابقة في صناعة عدة أفلام وثائقية، وأثبتت اختلافها عندما توجهت للدراما في إخراج مسلسل سابع جار، هذا العام استطاع فيلمها الروائي الثاني (سعاد) التواجد في أهم مهرجانين، بحيث تم اختياره في مهرجان كان (الدورة الملغاة) لينتقل بعدها إلى قسم البانوراما في مهرجان برلين السينمائي.

أهمية هذا الفيلم الذي ينتمي إلى السينما المستقلة، أنه تميز بطريقة إدارة أمين للممثلات، وهنا نتحدث عن ممثلات غير معروفات، وهذا بحد ذاته نجاح يحسب لأمين، بحيث استطاعت مع وضوح في ارتجالية الحوار أن تقدم فيلما يوصلك إلى حد اللبس في كونه تسجيليا أم روائيا من شدة الطبيعية في كل عناصره، حتى في اللقطات المهزوزة.

فالفيلم يدور حول حكايات فتيات مراهقات، يعشن الوهم الذي يسيطر عليهن نتيجة ما تبثه وسائل التواصل الاجتماعي، وينقسم الفيلم إلى ثلاثة أجزاء تحمل أسماء الشخصيات الرئيسية فيه، سعاد، رباب، أحمد.

ومن ناحية أخرى، ركزت أمين على أن تكون البطولة لطبقة اجتماعية تعتبر هي الأكثرية في مصر، والتي لا تنتمي إلى العشوائيات ولا إلى الطبقة الغنية، ولم تصل حتى للوسطى، هذا الشكل من الطبقة هو الذي تشاهده في كل مكان وشارع في مصر، أشكالهن، أزياؤهن، طريقة حديثهن، هي قدمت الشكل المصري السائد، والذي عادة لا يحمل البطولة في السينما وتحديدا التجارية منها أو الدراما إلا بعدد قليل، وهذه قوة أخرى تحسب في الفيلم.

الحس الوثائقي تستشعر به، بسبب طريقة السرد والحوارات التي تلمس أنها ارتجالية أكثر منها نصا مكتوبا، لذلك تشعر بقرب الشخصيات وتتفاعل معها، تحديدا سعاد وشقيقتها رباب، وصديقاتهن اللواتي تحمل كل واحدة منهن حلمها أو وهمها الخاص.

الوهم في شخصيات فيلم أمين، هو نسج القصص والكذب، والتخيل، هو وهم أبيض على غرار كذب أبيض، تعيشه تلك المراهقات اللواتي لا يتركن هواتفهن النقالة بل يتورط بعضهن في قصص كثيرة، مثل قصة سعاد التي تنتهي بشكل لا تعرف إذا كان انتحارا أم بالفعل سقطت بالخطأ من الشرفة حسب رواد العزاء، فهي تتعلق بأحد مشاهير السوشال ميديا الذي يوهمها أيضا بحبه ويزيد من طلباته التي عادة ما تنفذها سعاد، علاقة تشبه الكثير من القصص التي يتم تناقلها في الوسط الافتراضي، لتنتقل الحكاية إلى شقيقتها الأصغر سنا رباب، التي تجدها بالرغم من ظهور وعيها في بداية الفيلم تنساق وراء حكايات سعاد، تشعر بالبداية أنها تريد الانتقام لشقيقتها، لكن بعد ذلك يتغير كل شيء تحديدا بعد أن تسافر الإسكندرية للقاء أحمد الذي كانت تحبه سعاد، ولأحمد قصة مغايرة تنتهي معها أحداث الفيلم.

لا يوجد حل وسط مع فيلم سعاد، إما أن تقبله أو ترفضه، ولكل جانب الأسباب المقنعة، وهذا من شأنه وضع الفيلم في خانة الاختلاف بالرأي تجاه طريقة صناعته، وهل إذا كان هذا الشكل بالفعل هو شكل السينما المستقلة؟