كتاب ومقالات

توبة الإرهابي والأمن الفكري

علي بن محمد الرباعي

قام بعض العلماء بتغطية عيون قطط حديثة الولادة طيلة الأسابيع الأولى من ولادتها، فأظهرت النتائج لاحقاً أنه أصابها (العمى الوظيفي)، وبحكم تنامي أخبار الحرب والضرب وجدتني أردد مع نزار قباني «والعنفُ في الأرض شيء من تخيّلنا، لو لم نجده عليها لاخترعناه» بتحوير المطلع، خصوصاً عند متابعتي لمسؤول أمريكي يُحذّر من عودة داعش المُحتملة!

يمكن تفهّم الاعتداء لدوافع دنيوية، أو تحت مؤثرات قسرية، إلا أن ظاهرة القتل والتفجير، والسحل والحرق والتعذيب لأسباب دينية عصيّة على الفهم، ومدعاة لكثير من الاستفهامات، وإن علّل الشهرستاني في مقدمة كتاب الملل والنِحل بأنه «ما سُل سيف في الإسلام على قاعدة دينية مثل ما سُلّ على الإمامة أو الخلافة في كل زمان».

الإرهاب وجه من وجوه السلوك البشري المتوحّش، الناتج عن خبرة دِينية، ناجمة عن معتقدات، وتربية، وحالات مزاجية، ومشاعر، وثقافة مجتمعية، وأزمنة، وفصول تاريخية، ومؤهلات نفسية، وقابلية ذاتية، وطواعية روحية، وانسجام مع تزكية ذاتية، فيرى الإرهابي نفسه (خيّراً) والآخرين أشراراً، وأنه فائق الكفاءة العقلية والذهنية والبقية حمقى.

يلجأ الإرهابي للعزلة، لتعويد النفس على التقشف، بسكن الكهوف، والاكتفاء بقليل من الطعام والشراب، ويسند عزلته بمندوحات نبوية، بدءاً من خلوة موسى عليه السلام أربعين ليلة، وقضاء عيسى عليه السلام أربعين ليلة في البريّة، واختلاء النبي عليه الصلاة والسلام الليالي ذوات العدد في غار حراء.

ولا ريب أن لقناعاتنا أصلاً في طبيعتنا، وقابلية في فطرتنا، واستجابة مبطنة تنتظر المحفزات، ومهما انبرت أقلام في سبيل إعادة الظاهرة للعَوَز، أو تحميل الخلل لطفولة وتنشئة، أو إرجاع الأزمة لغياب الديمقراطيات والحريات، إلا أن كل التحليلات والتأويلات تذهب أدراج الرياح عندما نجد شاباً أو شيخاً أو سيدة أو فتاة نشأوا في محضن اجتماعي ميسور الحال وخالٍ من العُقد وبيئاتهم النفسية والاجتماعية والسياسية قريبة من المثالية ومع ذلك يتطرفون ويتحولون إلى إرهابيين!!

ومن المفارقات، التقاء جِديّة دول تدّعي أنها أم الديموقراطية، والمدنية، بعبثية ملالي وميليشيات وجماعات، تقسم العالم والمجتمع إلى فسطاطي إسلام وكُفر، وكلاهما (الدول والجماعات) سادرُ في غي تكييف وتصنيف الإرهاب بمقاسه لتوفير الغطاء الأخلاقي لوحشيته.

الإرهاب كلنا نعرفه إلا أنه يتعذّر علينا تعريفه، ونتطلّع إلى أن يتوبَ كل الإرهابيين في العالم. إلا أن التطلع لا يخرج عن إطار الأماني، لأننا لو سألنا إرهابياً: هل تتوب؟ ربما يجيبنا: ممَ أتوب؟ وقد يرفع الصوت مع قيس بن ذريح «وتلك وربي توبة لا أتوبها»، ليظل السؤال عن محفزات العنف، ومقومات التطرف، ومؤصِّلات الإرهاب قائماً. وبما أن السؤال يثير أسئلة، فالإجابة لن تكون في الغالب إلا ظنية وليست قطعية، والظنيُّ غيبٌ لا يعلمه إلا الله.

كُلّ الإرهابيين يلتقون في النتيجة، لكنهم لا ينطلقون جميعهم من سبب واحد. ولو قرّرنا في هذه اللحظة الذهاب لتقصي الأسباب، والتفكر في الدوافع، سنجد أن كل سبب محتمل، وكل دافع ممكن، ولعل أحدنا يرجعه إلى «آيديولوجيا» وثانٍ يعزوه إلى «ابستمولوجيا» وثالث يرده إلى «هرطقلوجيا» ورابع يفرّق بين مصنوع ومطبوع، وخامس يراهُ (هوىً) والهوى لا يُفسّرُ.

ظاهرة الإرهاب إشكالية وليست مُشكلة، فالمشاكل بسيطة وقابلة للحل، والإشكالات معقّدة ومركّبة تركيباً عصيّاً على الحلحلة، والإرهاب ليس إسلامياً ولا مسيحياً ولا يهودياً، ولا سعودياً ولا عربياً، ولا شرقياً ولا غربياً، فغالبية العالم أمم متدينة، إلا أنه ليس كل متدين إرهابياً، وإن كان غالب الإرهابيين متديّنين بمعاييرهم.

تكشّف لنا مع الأيام أن التطرف الديني المفضي للإرهاب قام على خيالات وطموحات ومنامات، وكلها تحتاج إلى دراسات عميقة، ومعالجات طويلة المدى، قدر حاجتنا لأزمنة تستعيد فيها المجتمعات المضطربة السلوك السلمي والحياة الآمنة.

كل غدرٍ يمكن أن يُغتفر إلا غدر المواطن لوطنه. والقانون يصنف خيانة الوطن بالخيانة العظمى، الموجبة عقوبة مُغلظة، وغير القابلة للعفو، وما السيرورة السعودية نحو مجتمع الإنتاج والبيئات الجاذبة إلا دليل تعافٍ على مستويات عدة. إلا أن تحصين الفكر من أوّل واجبات المؤسسات، ونثمن للتعليم تبني استراتيجية أمن فكري، بقدر عالٍ من المسؤولية، لتجاوز أخطاء مهادنة الخطابات المؤدلجة والمسيّسة.

لن ينبتّ الإرهاب تماماً فجذوره ممتدة في قلب التاريخ، وبصماته مطبوعة بوجه الجغرافيا، والمسوغات الشكلية حاضرة في ذهن الإرهابي، دون مراعاة ولا تحسّب للعواقب، والتجارب علمتنا أن الإرهابي مناور خطير، يذعن لسياسة الأمر الواقع ظاهرياً بإبداء وجهه الوطني المزايد على وطنية المنتمين، إلا أنه متى ما وجد فرصة كشّر عن الوجه القبيح.

لعل في استعادتنا حادثة قتل عثمان بن عفان رضي الله عنه، أبلغ الدروس، بعدم ارعواء القتلة عن دم ذي النورين، وتجاهلهم العلني لتحذير القرآن من قتل النفس، وبتأويل فاسد للنص شرعنوا للخروج، في ظل تغييب واضح للعقل، وإغفال المصالح الكبرى، وتبني الفوضوية في الاحتجاج على خليفة مُزكّى من الله ورسوله، فبالغوا في تضخيم تجاوزاته، وقرروا الاستدراك العملي على قراراته، ثم تسوّروا عليه جدران بيته، وحزّوا عنقه، وهو يتلو كتاب الله، فأراقوا دمه على المصحف، بدعوى الانتصار للدِّين، والتقرب إلى الله بدماء الحاكمين.