النعمان لـ عكاظ: نجوت بعقلي من الاستقطاب وبنفسي من الاعتقال
استحضر قصته من صنعاء إلى القاهرة
الجمعة / 27 / شعبان / 1442 هـ الجمعة 09 أبريل 2021 01:29
حاوره: علي مكي (القاهرة) ali_makki2@
بين الوعي السياسي والتجربة الكتابية، صنع الباحث لطفي فؤاد نعمان سيرة ثقافية ومسيرة إعلامية مرت بعدد من المحطات وأثمرت العديد من الإصدارات التي تبلغ ٣٤ كتاباً حتى الآن، لكن صوت الحكمة الذي يحاول أن يكرسه بـ«عزفه» الخاص يصطدم مع واقع سياسي يمني حرج دائماً، بينما رهان الوعي الذي يمتحن به تجربته يجعله يراهن دائماً، -كما أسلافه من آل «نعمان»-، بأن اليمن الجديد يوماً (ما) سوف ينهض من غبار العصبيات القبائلية ويتحالف مع المستقبل مثلما كان مكتنزاً بإرث الماضي.
بين السياسة والكتابة وعلى ضفاف الماضي وتخوم المستقبل كان هذا الحوار:
• البدايات.. هي بوصلة الطريق، كيف تستعيد بداياتك في الحياة الثقافية والإعلامية السياسية والكتابة بعد ذلك؟
•• زينت جدران بيت والدي فؤاد أحمد محمد نعمان رحمه الله، صورة جامعة لقمم تاريخية شامخة، تاجها الاعتزاز بالذات الوطنية والتاريخ العريق والحكمة اليمانية، كانت تلك صورة الأستاذ أحمد محمد نعمان ونجله الشهيد محمد مع الرئيس الحكيم القاضي عبدالرحمن الإرياني، وصورة للشهيد النعمان يلقي خطاباً أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، تعبر عن رؤية اليمن تجاه مشكلات العصر وقتها.. ومن الصغر بدأت أتحرى وأبحث عما وعمن وراء اغتيال «داعية الجمهورية ورجل الحوار» النعمان الابن في لبنان الذي نحب فيه رمزية الحرية والديمقراطية والتعايش.. فيما مضى.
وأذكر زيارة إلى منزل الشيخ عبدالله الأحمر رحمة الله عليه، وكنت وقتها بسن صغير، ما إن دخل وجلس معنا حتى بادرته بطلب سلاح، سألني: لماذا؟ أجبت: لأقتل من قتل عمي محمد!. فضحك وأجاب: حين تكبر.
وحينما كبرت أدركت أن الثأر الحقيقي للمناضلين والمفكرين والشهداء يكون بالوفاء لذكراهم والسير على مبادئهم وحفظ ونشر تراثهم. ومن خلال رموز التاريخ اليمني اتسعت آفاق الاطلاع على ما مر ويمر من الأحداث والتفاعلات الداخلية والخارجية، التي سبق ويتكرر حدوثها.
ووسط مكتبة زاخرة تظهر عناوين أدبيات الحركة الوطنية اليمنية بجانب كتب تاريخية وسياسية وروايات أدبية ودواوين شعرية كان يشجعني والدي على نقل محتوياتها خلال إجازة الصيف، والانتهال منها لتحسين الخط وتنمية المدارك في الوقت عينه.
وبمتابعة بعض الصحف ومشاهدة بعض الأفلام والروايات التي يتمحور فيها دور الصحافي والسياسي مع التعرف على كثير من أصدقاء والدي الذي عمل في القطاع الخاص، وأسرتنا من كبار الصحافيين والسياسيين والأدباء العرب واليمنيين وبعض الدبلوماسيين الأجانب، وجدتني أميل إلى احتراف مجال الصحافة والكتابة السياسية والتاريخية والاهتمام بالعلاقات الخارجية. وتطلعتُ إلى مزيد التعارف مع قمم السياسة والتاريخ من شخصيات يمنية وعربية، وصحافيين أجانب كانوا أصدقاء لوالدي وكبار الأسرة. وفي القاهرة التقيتُ المفكر والكاتب الشهير الشيخ عبدالله القصيمي رحمه الله، وتشرفتُ بمعرفة غيره من أدباء مصر وكبار الصحافيين والسياسيين.. وكذلك لبنان والسعودية وغيرها من الأقطار العربية.
بدأت في سن الحادية عشرة من عمري تصميم صحيفة اسمها «النقاش»، طبعاً بعد مساهمة بتحرير بعض مجلات الحائط بالمدرسة. وخلال تلك الفترة أجريت حديثاً قصيراً مع الرئيس القاضي عبدالرحمن الإرياني بصنعاء واصطحبني والدي لزيارته واستأذنت بسؤاله لتلك الصحيفة عن بداية وتاريخ علاقته ومعرفته المباشرة بزميله الأستاذ نعمان، وقد أجابني بود وإقبال وحنو.. ولاحقاً بلغني تعليقه الطريف على تلك المقابلة القصيرة من أحد أصدقائه: ذكاء بيت نعمان بلغ حد احتراف حفيدهم الصغير الصحافة وهو لم يبلغ الحلم بعد..!
• قضيت طفولتك في اليمن وجدك الأستاذ النعمان كان في المنفى الاختياري بسويسرا فهل التقيت به؟
•• سافرت لزيارته مرافقاً لوالدتي حفظها الله، غير مرة، كنت تواقاً للجلوس إليه والحديث معه، وسألته عن محطات حياته وألقى «الأستاذ» بجوابه درساً في التسامح مترحماً على بعض معاصريه وشرح أسباب الخلاف معهم؛ وذات مساء بصنعاء، بعدما سألني والدي «الفؤاد» عما تلقيت من دروس يومئذ وكانت قصيدة المتنبي الشهيرة: «صحب الناس قبلنا ذا الزمانا»، اتصل إلى جنيف يحدث أباه الأستاذ وأمرني بإنشاد القصيدة فما إن سمع البيتين الأولين حتى أطرب سمعنا يتلو بقية أبياتها رغم ما أصاب ذاكرته من تعب السنين الأخيرة، إذ كان مولعاً بشعر المتنبي كثير الاستشهاد به وبغيره أيضاً، ولطالما ردد الأستاذ نعمان منها ما ينهى عن الصراع والتحاسد: «ومراد النفوس (أحقر) من أن نتعادى فيه أو نتفانى».
• متى بدأت تنشر مقالاتك في الصحف، وتحضر الفعاليات والندوات الثقافية وتسهم في عملية النشر؟
•• نُشِرَت لي أولى مقالاتي الاجتماعية بجريدة الشروق ومجلة معين اليمنيتين وعمري 13 سنة. وبدأت حضور الفعاليات الثقافية بمؤسسة العفيف الثقافية التي كانت تعد ممر المواهب الأدبية والكفايات السياسية والوطنية، وشرعتُ في تنظيم بعض الفعاليات والندوات قبل التحاقي بكلية الإعلام، وعلقت إحدى الصحف الأهلية على إحدى الفعاليات برعاية إحدى الوزارات بما معناه: ناب عن الوزارة في مهمتها. ثم مع بعض زملاء لي أسسنا مجموعة «نجوم الإعلام»، وأصدرنا نشرة بنفس الاسم، وعقدنا فعاليات وندوات لعدد من نجوم السياسة والإعلام اليمنيين والعرب.
وبدأت نشر مقالات سياسية وتحقيقات واستطلاعات بمختلف الصحف والمجلات اليمنية، الأهلية والرسمية. وشرعت النشر بصحف خارجية في جرائد الشرق الأوسط والنهار و«عكاظ» من سنة 2000م.
أصدرت أول كتاب وهو «الفكر والموقف» مجموع مؤلفات الشهيد محمد أحمد نعمان سنة 2001م، وكان أبرز حدث ثقافي يمني، بشهادة كثير من الساسة والمثقفين يومها، لما لهذه المؤلفات من قيمة سياسية وفكرية مهمة، تتسق وقامة النعمان الابن نفسه كشخصية سياسية عربية ووطنية يمنية لا يختلف عليها اثنان.
علاوةً على ما بدأتُ توثيقه بجهد شخصي من أدبيات ومراسلات للأستاذ أحمد محمد نعمان، وقد شرفني بتقدير هذا الجهد الشيخ الحكيم عبدالعزيز التويجري رحمة الله عليه، برسائل تحيي «وفاء الأحفاد للأجداد» وتحث على استمراره. وكذلك جمع «أشعار الفضول» الأستاذ عبدالله عبدالوهاب نعمان باتت كل تلك الآثار في إصدارات بمتناول الجميع.
وتوالت من خلال منتدى النعمان الثقافي للشباب، الذي أُشهِر في 2002م، عملية نشر التراث الوطني والسياسي اليمني، في حدود المستطاع والمتاح، مع ما أمكن تقديمه في جانب النشر للمذكرات والسير التاريخية والتجارب السياسية لعدد من الشخصيات اليمنية المهمة من أدباء ومؤرخين وساسة وعسكريين ودبلوماسيين. وقد أنجزتُ بحمد الله، حتى الآن ما يزيد على 30 كتاباً بين إعداد ومراجعة وتأليف وتوثيق. مع اهتمامي بتوثيق تاريخ اليمن المعاصر حيث تتشابك وتترابط الأحداث الداخلية مع العلاقات الخارجية وتتأثر هذه العلاقات بتلك الأحداث، وتشجع العناية بدراسة العلاقات اليمنية الخارجية.
• قدمت أكثر من كتاب ومادة عن العلاقات السعودية اليمنية، ما هي الغاية من توثيق علاقات البلدين، من وجهة نظر باحث سياسي وتاريخي؟
•• حسناً.. دعني أقول لك إن توثيق تاريخ العلاقات مما يزيد روابط العلاقات «توثيقاً» وتمتيناً، فمنذ زمن بعيد وحتى الآن في ظل قيادتي البلدين الرئيس عبدربه منصور هادي وخادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز وولي عهده الأمين الأمير محمد بن سلمان وبقية القيادات المعنية بالشأن اليمني، فإن العلاقات تزخر بمزايا وخفايا وخبايا تستحق التدوين والكشف عنها دونما إغفال تباين وجهات النظر والبحث عن أسبابه وتقصي دوافعه الإيديولوجية التي قدمت وتقدم تاريخ العلاقات على غير حقيقتها. إذ جرى تجسيم نوايا تتناقض تماماً مع ما يشهده العقلاء من أثر طيب، لا تطيب له بعض نفوس يحسبون أنهم يحسنون بالزيف صنعاً.. وكلما تكشفت الحقائق ودُرِسَت بعقلانية وموضوعية بعيداً عن الدعاية والتجاهل والتناسي المتعمد تتلاشى الأوهام والشعارات والحزازات.
• كيف ترى حديث الشاعر اليمني الكبير د. عبدالعزيز المقالح عنك: «يواصل العزيز لطفي نعمان تحدي النسيان من خلال ما ينشره عن المناضلين والشهداء» تعليقاً على بعض إصداراتك؟
•• الدكتور عبدالعزيز المقالح شفاه الله، أحد كبار أدباء اليمن وأبنائه البررة -هو من تلاميذ الأستاذين النعمان الأب والابن- يتابع كل النتاج الثقافي والأدبي ويُنعِم على أهل الإبداع بشهادات تقدير وكلمات تشجيع، نعتز بها آملين أن نكون بحق أهلاً لها، وقادرين على تحدي الجحود بإنعاش الذاكرة الوطنية بإنصاف وأمانة وموضوعية.
• ما هي قراءتك لتجربة بيت النعمان السياسية؟
•• قراءتي أو شهادتي مجروحة، لكني سأنقل قراءة القائلين وإجماعهم على أنها تجربة مشهودة وريادة استثنائية في العطاء الوطني والأداء السياسي والنشاط التنويري والثقافي والإداري والعمل المجتمعي لصالح اليمن واليمنيين بتفانٍ وإخلاص نادر، بدءاً من تحقيق المشاريع الوطنية على الأرض إلى التحليق والتغريد في فضاء التواصل الاجتماعي. وبالطبع هذا يضاعف الحرص على الإضافة للمجد التاريخي دون الخصم منه بأن يسلك كل امرئ نهجه الخاص في الإضافة الخلاقة إلى هذا الرصيد.
• كل رحلة تتخللها معاناة، أم أنك وجدت هذا المجال طريقاً سهلاً فسلكته؟
•• اجتياز هذا الطريق وأي طريق آخر ليس سهلاً البتة، بل تعترضه صعوبات وتحُفُه مشاق جمة تسبب المعاناة مع شعور الإحباط بتأثير «من لا يعملون ويؤذيهم أن يعمل غيرهم»، ونتغلب عليها بأن نجعلها حافزَ استمرار الأمل والعمل مع التسامح والترفع وعدم التوقف أمام عقبات الرحلة وتخطيها.
• خارج دائرة البحث والتأليف والنشر.. هل ارتبطت بعمل رسمي؟
•• نعم، عملتُ بوكالة الأنباء اليمنية سبأ مديراً لإدارة التحليلات والتقارير السياسية، ثم عُينتُ سكرتيراً صحافياً لرئيس مجلس الشورى منذ 2012م، والارتباط بعمل رسمي وتنظيمي لا يُقيد الفكر أو النبوغ، ويمكن السير بشكل متوازٍ ومتوازن، طالما تفتح الوظيفة الرسمية مجالاً للخلق والتجديد والمعرفة إذا أحسنا الإفادة من مناخ ومحيط العمل، حيث تكون بحضرة شخصيات يتمتع معظمهم بتاريخ معروف وكفاية عملية وخبرة نافعة لتقديم الرأي والمشورة المطلوبة، وأكثرهم مُلهِمٌ غير مُهمِل لخدمة المجتمع.
• كيف كان موقف مؤسسات الدولة في صنعاء لإحلال السلام، من واقع تجربتك كمستشار إعلامي سياسي وسكرتير صحافي لرئيس مجلس الشورى؟
•• لا أخفيك أن مجلس الشورى وعدداً من أعضائه المقيمين بصنعاء، بعدما تم تشكيل المجلس السياسي الأعلى باتفاق جماعة أنصار الله والمؤتمر الشعبي العام، في أغسطس 2016م، لم يتأخروا خلال اجتماع عام عن الدعوة للسلام وحث المعنيين على الانفتاح على خطط ومبادرات السلام المقترحة، غير أن تقديراً معيناً محا تلك الدعوة الصادرة عن المجلس، معتبرين أن لا صلة للمجلس بهذه المسألة في ذلك الوقت، بينما هو «مجلس الحكماء» ذوي التجربة العريضة!
• ممن كان هذا التقدير؟
•• من جانب «النافذين» بسلطة الأمر الواقع بصنعاء، وهو ما جعلني أنصرف عن العمل تماماً «فرجعتُ إلى كتبي وأوراقي».
• رجوعاً إذاً إلى تجربتك في الكتابة كيف تشرحها، في خضم كل الأحداث التي شهدها اليمن، وبماذا تصف نفسك من خلالها؟
•• بدايةً ما من كاتب لم يجرب محاولة نظم الشعر حتى الحلمنتيشي، أو قص القصص الخيالية، أو سرد السير الواقعية، لكنه يستقر على ما يناسبه من الفنون. وينهج أسلوبه الخاص وحصيلة محاولاته الفنية الأولى، وإذا بدا متأثراً بأسلوب آخرين ستختلف رؤيته ومعالجته للقضايا، أصاب فيما رأى أم أخطأ فيما اجتهد.
لست كاتباً إيديولوجياً موجَّهاً أو موجِهاً للجماهير، بحكمٍ مسبق، إلى اتخاذ مواقف خاطئة يندمون عليها لاحقاً كون تبعاتها الخطيرة لم تتبين لهم مبكراً، ولا أرفع شعارات سياسية أو أزكي مواقف تتناقض مع حاجيات الناس، ورغبتهم الحقيقية في السلام. ولأن لكل نادٍ رواده، نأيتُ بقلمي عن منح صكوك الوطنية بدافع شكوك سياسية وظنون آثمة تسقط أهلها وسط بئر الأحقاد والأحكام المسبقة والخاطئة وعدمية «إن لم تكن معي فأنت ضدي»، كنتاج طبيعي لغياب العقلنة والترشيد الإعلامي والسياسي.
وهذا ما مكنني النجاة بعقلي من التعرض للاستقطاب والشعارات الجوفاء والإساءة إلى الذات ممن يغضون قدر الآخرين ظناً بأنها ترتقي بقدرهم هم، كما نجوتُ بنفسي من خطر الاعتقال والاختفاء القسري والأضرار الجانبية للحرب في اليمن.
ووسط التحولات والاضطرابات «بقيتُ حياً»، كما قال أحد رجال الدولة الفرنسيين، مراقباً ومواكباً مجمل التفاعلات فنتفاءل حيناً ونتشاءم حيناً و«نتشاءل» دوماً.
وبالكلمة والقلم وزِر الكمبيوتر، على صفحات التواصل والاجتماعي بالتغريد والفسبكة نكتب بمبدأ «غرد خيراً أو اصمت» فلا ننقل غثاء الصحف الصفراء إلى فضاء الصفحات الزرقاء.
• تنشر لك أيضاً مقالات في صحف عدة مثل النهار و«عكاظ» والشرق الأوسط وإيلاف يغلب عليها الطابع التاريخي والبحثي والتوثيقي، وبعضها جدلي، مثل طلب احتفال الجمهوريين بذكرى وفاة الإمام أحمد، وغيرها من التناولات المتعلقة بتاريخ الثورة والوحدة، ودعوات السلام، هل أنت مؤرخ هارب من قضايا الحاضر والراهن والمستقبل؟
•• بدايةً ما أنا بمؤرخ وإن كان قدر الصحافي أن يكون مؤرخاً لكنني مجرد قارئ للتاريخ، وذاك المقال لم يكن نكاية بعهد أو تعريضاً بأحد، إنما «دعوة للتفكير بصوت عال» حسب تعليق على المقال للسياسي الكويتي المرحوم الأستاذ أحمد الربعي. ولا ننسى أنها قضايا تحتفظ بحيويتها وديمومتها الجدلية تأكيداً على امتداد التاريخ فينا وتجدده بما يجعل الحاضر وسياساته تاريخاً حياً. إذاً يرتبط تناول القضايا الراهنة بكتابة التاريخ، «إذا كنت أهرب منك إليك فقل لي بربك أين المفر»؛ ثم إن العمل والتحليل السياسي والكتابة الصحافية واستشراف المستقبل يعد ناقصاً بدون وعي تاريخي، «والمؤرخ الجيد بالنتيجة محلل سياسي جيد» طبقاً للكاتب السياسي الأديب اللبناني جهاد الزين.
بالإضافة إلى المقالات والبحوث التاريخية انظر إلى الروايات، كيف غدت فناً متداولاً، بما تنطوي عليه من تواريخ أو إسقاطات تعين على فهم الأحداث وملامسة جذور الأزمات.. واستمرار التذكير بها ييسر إدراك تعقيدات الحاضر بشكل أفضل مهما تشعبت فيه التعقيدات وتضاعفت. مع ملاحظة عدم تغير السلوك الإنساني، وثبات السياسة بينما يتبدل الساسة. ومن أدرك أحوال الماضي هانت عليه أهوال الحاضر.
وبغية الابتكار وليس التكرار تبقى الحاجة إلى الاستلهام والتذكير بتجارب ماضية والقياس عليها. وقد يفسد القياس نتيجة سوء النقل وعدم إحكام القواعد والأصول، حسب ابن خلدون، لذا فإن إجادة «التأريخ» قد تَقي أهل الحاضر -متى قرأوا- التخلف عن فُلكِ النجاة من طوفان الأزمات والحروب.
• قلت إنك نجوتَ بعقلِكَ من الاستقطاب وبنفسك من الاعتقال، ماذا حدث لك حتى غادرت صنعاء، بعد بقائك فيها مدة ثلاث سنوات من الانقلاب والحرب؟
•• دون ادعاء بطولات زائفة أو مزايدة بمواقف معينة، فوجئتُ في ديسمبر 2017م عقب استشهاد الرئيس السابق علي عبدالله صالح حين ثارت نوازع ثأر الحوثيين، بأن رصدت الجماعة اسمي مع إعلاميي المؤتمر الشعبي العام ضمن المطلوبين، كوني من مستشاري الدائرة الإعلامية للمؤتمر الشعبي العام، زِد أن كان سيجرى معي لقاء بقناة اليمن اليوم خلال أيام الصدام المسلح بينهما، ثم استنكرتُ المعارك يومها ونعيتُ «صالحاً» بمقال ومنشورات عدة.. المهم تأكد لي رصد اسمي من مصادر خاصة وبعض الإخوة الناصحين لي بعدم الكتابة والتغريد خشية تهور الجماعة تجاهي كما تهوروا تجاه زملاء وأصدقاء آخرين ما زالوا قيد الاعتقال. فنصحوني باتقاء الشر الناجم عن سوء الفهم والتصرف، مقترحين المغادرة تلافياً لضرر يفوق الأضرار المعنوية والمادية الناجمة عن السنوات الثلاث الأولى، ليضاف إلى «الدياسبورا» اليمنية أو الشتات اليمني، أفراد أسرة صغيرة.
• أليس لرصد الجماعة لاسمك ضمن المطلوبين والمحرضين على الفتنة علاقة بكتابك السابق «الخطأ الحوثي في اليمن»؟
•• سيكون هذا خطأً جديداً يضاف إلى رصيدهم الضخم بالنسبة لقمع الحريات.. لا سيما وهم الذين عاشوا يعانون ما وصفوه انتهاك حرياتهم.. وينطبق عليهم مقالة المفكر الراحل عبدالله القصيمي: «إنه لمحتوم أن من يثورون باسم الحرية يصبحون إذا انتصروا أشد عداوةً للحرية من كل أعدائها القدماء»!
ثم إن الكتاب سبق صدوره عام 2009م، يحذر من تفاقم الخطأ وعدم تصحيحه لئلا يصير خطراً نضطر للتعايش معه، مبيناً «حق القلق العربي على اليمن» من وقت مبكر. عاب الكتاب أيضاً على السلطات أيضاً خطأ عدم الحسم الفكري والسياسي والعسكري السريع بشكل يصون هيبة النظام اليمني وتماسك المجتمع ويعزز علاقاته وروابطه الخارجية ويحقق أمن واستقرار المنطقة.. إنما ما شاء الله كان.
ظنوا أنني ممن حرضوا على ما سموه الفتنة، وهذا غير صحيح فإذا كنت أدعو إلى السلام في اليمن مع جيرانه وأشقائه، فبالتالي ما كنت لأوقظ فتنة نائمة أو أحرض طرفاً يمنياً ضد طرف يمني آخر. وها نحن نعيش في المنفى بسبب سوء ظنهم.
• وفي المنفى ماذا أنجزت؟ وإلامَ تطمح؟
•• مع أن «الغربة للأحرار ذبحُ» لكن الغربة الحقيقية والمنفى القاتل يكمن في عدم العمل والإنجاز، فأمضيت وقتي بتوفيق من الله وبعون كريم من بعض الإخوة والآباء والأشقاء بتجهيز الإصدارات والمطبوعات عن دور نشر شهيرة: «اليمننة ظاهرة عربية جديدة: خلاصة تجربة» عن الدار العربية للعلوم، وعن منتدى النعمان الثقافي للشباب كتب مشتركة مع أهم دور النشر ببيروت هما «الأستاذ أحمد محمد نعمان المؤلفات المختارة» مع دار رياض الريس للكتب والنشر، «سعود واليمن» مع شركة جداول للنشر والترجمة والتوزيع. والقاهرة مع مؤسسة أروقة للأستاذ عبدالباري طاهر، وثمة مخطوطات أخرى قيد الطبع بجانب متابعة ومراجعة مذكرات شخصيات سياسية يمنية وعربية كبيرة.
علاوةً على قناة يوتيوب اسمها «تاريخساب» أي تاريخ عبر الواتساب، تعنى بتصحيح المعلومات التاريخية الخاطئة المتداولة عبر الواتساب وبقية وسائل التواصل الاجتماعي مع بث دعوات السلام. ولا أزال في طور تحضير برنامج إعلامي ومعرفي جديد أطمح إلى توسيع نطاقه.
• من الملحوظ اهتمامك بجهود ودعوات إحلال السلام في اليمن. فهل لك دور مباشر فيها؟
•• السلام من أسماء الله الحسنى.. فحق الإيمان بالسلام والعمل في سبيله.. ومنذ هبت «عاصفة الحزم» على اليمن بغتةً منتصف ليل 26 مارس 2015م، شرعتُ وغردتُ بالدعوة إلى «عاصفة السلم في اليمن».. وتحت العواصف عقدت مع بعض الزملاء والأصدقاء فعاليات تدعو إلى السلام ووقف الحرب، ولا أزال وسأظل ما استطعت أكتب داعياً وأمضي ساعياً في طريق السلام لليمن.
وقد التزمتُ الدعوة إلى السلام كونه الضمان لاستقرار وأمن الجميع في المنطقة.. ولعل الحرب وقد مضت الأطراف فيها، واختلفت مسمياتها وتقديراتها ومسبباتها عندهم كما تفاوتت غاياتهم، تعد مساراً رئيسياً من مسارات السلام ودافعاً إلى الدعوة إليها والسعي فيها. أو من «أبجديات السلام» كما عددتُها ضمن محاضرة سابقة، وإن اعتبرناها كلفة تعارف غالية بين الأطراف، الأبرياء أكثر من يدفع ثمنها. فندعو الله أن يقصر مداها، وأن يهدينا جميعاً أفراداً ومؤسسات إلى سبيل السلام والرشاد.
• هل تتوقع أن جهود السلام ستجدي نفعاً خاصة أن الحوثيين لا يبدون نية حسنة كما تثبت التجارب والوقائع، ويحبطون المساعي الدولية للحل السياسي بالتصعيد العسكري، وآخرها مبادرة المملكة العربية السعودية، ورفضهم واشتراطاتهم؟
•• ما من شك أن هذه الجماعة وكل منتفع بالحرب يجد قيمته باستمرار الحرب أكثر من السلام لهذا يتأخر الوصول إليه.
ومهما تأخر بلوغ المفاوضات السياسية أو أبدت الأطراف المعنية بما فيها الحوثيون تمنعاً وتقاطعت المُسيرات مع مسار السلام ومختلف المبادرات وآخرها مبادرة المملكة العربية السعودية التي تستهدف تحقيق السلام والوقف الشامل للنار، مشترطين (أي جماعة الحوثي) أموراً وفق مفاهيمهم ومصطلحاتهم الخاصة، بموجب خلفياتهم وارتباطاتهم الخارجية وطبيعة التضاريس التي نشأوا فيها وانعكست على نفسياتهم، والظروف المنعشة لحركتهم ولفساد المنتفعين، لكن مهما أنهكت المسألة اليمنية أو «اليمننة» المبعوثين الأمميين والمعنيين باليمن، لن يصح إلا الصحيح، والسلام آتٍ لا محالة، بالتفاهم أو باستمرار التصادم، «لأن الحرب آخرها سلامُ» تحققه «الإرادة» الداخلية أكثر من «الإدارة» الخارجية، وفي أوانها المحتوم.
• ما هي ملامح المرحلة القادمة من وجهة نظرك؟
•• دعنا نتحدث عما هو المرجو للكشف عن ملامح المرحلة القادمة.. أن تبدأ عاصفة السلم في اليمن، وأن يساعد اليمنيون أنفسهم، ليُسفِر اليمن الجديد عن وجهه وملامحه بيمنيين جدد يعالجون آثار الصراع وأسباب النزاع، ويحرصون على خدمة مصلحة اليمن قبل كل شيء، فيطمئن إليهم جوارهم وكل أشقائهم ويمدون يد العون الخالص لهم لبناء اليمن الجديد حقاً بعون كل المخلصين.
بين السياسة والكتابة وعلى ضفاف الماضي وتخوم المستقبل كان هذا الحوار:
• البدايات.. هي بوصلة الطريق، كيف تستعيد بداياتك في الحياة الثقافية والإعلامية السياسية والكتابة بعد ذلك؟
•• زينت جدران بيت والدي فؤاد أحمد محمد نعمان رحمه الله، صورة جامعة لقمم تاريخية شامخة، تاجها الاعتزاز بالذات الوطنية والتاريخ العريق والحكمة اليمانية، كانت تلك صورة الأستاذ أحمد محمد نعمان ونجله الشهيد محمد مع الرئيس الحكيم القاضي عبدالرحمن الإرياني، وصورة للشهيد النعمان يلقي خطاباً أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، تعبر عن رؤية اليمن تجاه مشكلات العصر وقتها.. ومن الصغر بدأت أتحرى وأبحث عما وعمن وراء اغتيال «داعية الجمهورية ورجل الحوار» النعمان الابن في لبنان الذي نحب فيه رمزية الحرية والديمقراطية والتعايش.. فيما مضى.
وأذكر زيارة إلى منزل الشيخ عبدالله الأحمر رحمة الله عليه، وكنت وقتها بسن صغير، ما إن دخل وجلس معنا حتى بادرته بطلب سلاح، سألني: لماذا؟ أجبت: لأقتل من قتل عمي محمد!. فضحك وأجاب: حين تكبر.
وحينما كبرت أدركت أن الثأر الحقيقي للمناضلين والمفكرين والشهداء يكون بالوفاء لذكراهم والسير على مبادئهم وحفظ ونشر تراثهم. ومن خلال رموز التاريخ اليمني اتسعت آفاق الاطلاع على ما مر ويمر من الأحداث والتفاعلات الداخلية والخارجية، التي سبق ويتكرر حدوثها.
ووسط مكتبة زاخرة تظهر عناوين أدبيات الحركة الوطنية اليمنية بجانب كتب تاريخية وسياسية وروايات أدبية ودواوين شعرية كان يشجعني والدي على نقل محتوياتها خلال إجازة الصيف، والانتهال منها لتحسين الخط وتنمية المدارك في الوقت عينه.
وبمتابعة بعض الصحف ومشاهدة بعض الأفلام والروايات التي يتمحور فيها دور الصحافي والسياسي مع التعرف على كثير من أصدقاء والدي الذي عمل في القطاع الخاص، وأسرتنا من كبار الصحافيين والسياسيين والأدباء العرب واليمنيين وبعض الدبلوماسيين الأجانب، وجدتني أميل إلى احتراف مجال الصحافة والكتابة السياسية والتاريخية والاهتمام بالعلاقات الخارجية. وتطلعتُ إلى مزيد التعارف مع قمم السياسة والتاريخ من شخصيات يمنية وعربية، وصحافيين أجانب كانوا أصدقاء لوالدي وكبار الأسرة. وفي القاهرة التقيتُ المفكر والكاتب الشهير الشيخ عبدالله القصيمي رحمه الله، وتشرفتُ بمعرفة غيره من أدباء مصر وكبار الصحافيين والسياسيين.. وكذلك لبنان والسعودية وغيرها من الأقطار العربية.
بدأت في سن الحادية عشرة من عمري تصميم صحيفة اسمها «النقاش»، طبعاً بعد مساهمة بتحرير بعض مجلات الحائط بالمدرسة. وخلال تلك الفترة أجريت حديثاً قصيراً مع الرئيس القاضي عبدالرحمن الإرياني بصنعاء واصطحبني والدي لزيارته واستأذنت بسؤاله لتلك الصحيفة عن بداية وتاريخ علاقته ومعرفته المباشرة بزميله الأستاذ نعمان، وقد أجابني بود وإقبال وحنو.. ولاحقاً بلغني تعليقه الطريف على تلك المقابلة القصيرة من أحد أصدقائه: ذكاء بيت نعمان بلغ حد احتراف حفيدهم الصغير الصحافة وهو لم يبلغ الحلم بعد..!
• قضيت طفولتك في اليمن وجدك الأستاذ النعمان كان في المنفى الاختياري بسويسرا فهل التقيت به؟
•• سافرت لزيارته مرافقاً لوالدتي حفظها الله، غير مرة، كنت تواقاً للجلوس إليه والحديث معه، وسألته عن محطات حياته وألقى «الأستاذ» بجوابه درساً في التسامح مترحماً على بعض معاصريه وشرح أسباب الخلاف معهم؛ وذات مساء بصنعاء، بعدما سألني والدي «الفؤاد» عما تلقيت من دروس يومئذ وكانت قصيدة المتنبي الشهيرة: «صحب الناس قبلنا ذا الزمانا»، اتصل إلى جنيف يحدث أباه الأستاذ وأمرني بإنشاد القصيدة فما إن سمع البيتين الأولين حتى أطرب سمعنا يتلو بقية أبياتها رغم ما أصاب ذاكرته من تعب السنين الأخيرة، إذ كان مولعاً بشعر المتنبي كثير الاستشهاد به وبغيره أيضاً، ولطالما ردد الأستاذ نعمان منها ما ينهى عن الصراع والتحاسد: «ومراد النفوس (أحقر) من أن نتعادى فيه أو نتفانى».
• متى بدأت تنشر مقالاتك في الصحف، وتحضر الفعاليات والندوات الثقافية وتسهم في عملية النشر؟
•• نُشِرَت لي أولى مقالاتي الاجتماعية بجريدة الشروق ومجلة معين اليمنيتين وعمري 13 سنة. وبدأت حضور الفعاليات الثقافية بمؤسسة العفيف الثقافية التي كانت تعد ممر المواهب الأدبية والكفايات السياسية والوطنية، وشرعتُ في تنظيم بعض الفعاليات والندوات قبل التحاقي بكلية الإعلام، وعلقت إحدى الصحف الأهلية على إحدى الفعاليات برعاية إحدى الوزارات بما معناه: ناب عن الوزارة في مهمتها. ثم مع بعض زملاء لي أسسنا مجموعة «نجوم الإعلام»، وأصدرنا نشرة بنفس الاسم، وعقدنا فعاليات وندوات لعدد من نجوم السياسة والإعلام اليمنيين والعرب.
وبدأت نشر مقالات سياسية وتحقيقات واستطلاعات بمختلف الصحف والمجلات اليمنية، الأهلية والرسمية. وشرعت النشر بصحف خارجية في جرائد الشرق الأوسط والنهار و«عكاظ» من سنة 2000م.
أصدرت أول كتاب وهو «الفكر والموقف» مجموع مؤلفات الشهيد محمد أحمد نعمان سنة 2001م، وكان أبرز حدث ثقافي يمني، بشهادة كثير من الساسة والمثقفين يومها، لما لهذه المؤلفات من قيمة سياسية وفكرية مهمة، تتسق وقامة النعمان الابن نفسه كشخصية سياسية عربية ووطنية يمنية لا يختلف عليها اثنان.
علاوةً على ما بدأتُ توثيقه بجهد شخصي من أدبيات ومراسلات للأستاذ أحمد محمد نعمان، وقد شرفني بتقدير هذا الجهد الشيخ الحكيم عبدالعزيز التويجري رحمة الله عليه، برسائل تحيي «وفاء الأحفاد للأجداد» وتحث على استمراره. وكذلك جمع «أشعار الفضول» الأستاذ عبدالله عبدالوهاب نعمان باتت كل تلك الآثار في إصدارات بمتناول الجميع.
وتوالت من خلال منتدى النعمان الثقافي للشباب، الذي أُشهِر في 2002م، عملية نشر التراث الوطني والسياسي اليمني، في حدود المستطاع والمتاح، مع ما أمكن تقديمه في جانب النشر للمذكرات والسير التاريخية والتجارب السياسية لعدد من الشخصيات اليمنية المهمة من أدباء ومؤرخين وساسة وعسكريين ودبلوماسيين. وقد أنجزتُ بحمد الله، حتى الآن ما يزيد على 30 كتاباً بين إعداد ومراجعة وتأليف وتوثيق. مع اهتمامي بتوثيق تاريخ اليمن المعاصر حيث تتشابك وتترابط الأحداث الداخلية مع العلاقات الخارجية وتتأثر هذه العلاقات بتلك الأحداث، وتشجع العناية بدراسة العلاقات اليمنية الخارجية.
• قدمت أكثر من كتاب ومادة عن العلاقات السعودية اليمنية، ما هي الغاية من توثيق علاقات البلدين، من وجهة نظر باحث سياسي وتاريخي؟
•• حسناً.. دعني أقول لك إن توثيق تاريخ العلاقات مما يزيد روابط العلاقات «توثيقاً» وتمتيناً، فمنذ زمن بعيد وحتى الآن في ظل قيادتي البلدين الرئيس عبدربه منصور هادي وخادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز وولي عهده الأمين الأمير محمد بن سلمان وبقية القيادات المعنية بالشأن اليمني، فإن العلاقات تزخر بمزايا وخفايا وخبايا تستحق التدوين والكشف عنها دونما إغفال تباين وجهات النظر والبحث عن أسبابه وتقصي دوافعه الإيديولوجية التي قدمت وتقدم تاريخ العلاقات على غير حقيقتها. إذ جرى تجسيم نوايا تتناقض تماماً مع ما يشهده العقلاء من أثر طيب، لا تطيب له بعض نفوس يحسبون أنهم يحسنون بالزيف صنعاً.. وكلما تكشفت الحقائق ودُرِسَت بعقلانية وموضوعية بعيداً عن الدعاية والتجاهل والتناسي المتعمد تتلاشى الأوهام والشعارات والحزازات.
• كيف ترى حديث الشاعر اليمني الكبير د. عبدالعزيز المقالح عنك: «يواصل العزيز لطفي نعمان تحدي النسيان من خلال ما ينشره عن المناضلين والشهداء» تعليقاً على بعض إصداراتك؟
•• الدكتور عبدالعزيز المقالح شفاه الله، أحد كبار أدباء اليمن وأبنائه البررة -هو من تلاميذ الأستاذين النعمان الأب والابن- يتابع كل النتاج الثقافي والأدبي ويُنعِم على أهل الإبداع بشهادات تقدير وكلمات تشجيع، نعتز بها آملين أن نكون بحق أهلاً لها، وقادرين على تحدي الجحود بإنعاش الذاكرة الوطنية بإنصاف وأمانة وموضوعية.
• ما هي قراءتك لتجربة بيت النعمان السياسية؟
•• قراءتي أو شهادتي مجروحة، لكني سأنقل قراءة القائلين وإجماعهم على أنها تجربة مشهودة وريادة استثنائية في العطاء الوطني والأداء السياسي والنشاط التنويري والثقافي والإداري والعمل المجتمعي لصالح اليمن واليمنيين بتفانٍ وإخلاص نادر، بدءاً من تحقيق المشاريع الوطنية على الأرض إلى التحليق والتغريد في فضاء التواصل الاجتماعي. وبالطبع هذا يضاعف الحرص على الإضافة للمجد التاريخي دون الخصم منه بأن يسلك كل امرئ نهجه الخاص في الإضافة الخلاقة إلى هذا الرصيد.
• كل رحلة تتخللها معاناة، أم أنك وجدت هذا المجال طريقاً سهلاً فسلكته؟
•• اجتياز هذا الطريق وأي طريق آخر ليس سهلاً البتة، بل تعترضه صعوبات وتحُفُه مشاق جمة تسبب المعاناة مع شعور الإحباط بتأثير «من لا يعملون ويؤذيهم أن يعمل غيرهم»، ونتغلب عليها بأن نجعلها حافزَ استمرار الأمل والعمل مع التسامح والترفع وعدم التوقف أمام عقبات الرحلة وتخطيها.
• خارج دائرة البحث والتأليف والنشر.. هل ارتبطت بعمل رسمي؟
•• نعم، عملتُ بوكالة الأنباء اليمنية سبأ مديراً لإدارة التحليلات والتقارير السياسية، ثم عُينتُ سكرتيراً صحافياً لرئيس مجلس الشورى منذ 2012م، والارتباط بعمل رسمي وتنظيمي لا يُقيد الفكر أو النبوغ، ويمكن السير بشكل متوازٍ ومتوازن، طالما تفتح الوظيفة الرسمية مجالاً للخلق والتجديد والمعرفة إذا أحسنا الإفادة من مناخ ومحيط العمل، حيث تكون بحضرة شخصيات يتمتع معظمهم بتاريخ معروف وكفاية عملية وخبرة نافعة لتقديم الرأي والمشورة المطلوبة، وأكثرهم مُلهِمٌ غير مُهمِل لخدمة المجتمع.
• كيف كان موقف مؤسسات الدولة في صنعاء لإحلال السلام، من واقع تجربتك كمستشار إعلامي سياسي وسكرتير صحافي لرئيس مجلس الشورى؟
•• لا أخفيك أن مجلس الشورى وعدداً من أعضائه المقيمين بصنعاء، بعدما تم تشكيل المجلس السياسي الأعلى باتفاق جماعة أنصار الله والمؤتمر الشعبي العام، في أغسطس 2016م، لم يتأخروا خلال اجتماع عام عن الدعوة للسلام وحث المعنيين على الانفتاح على خطط ومبادرات السلام المقترحة، غير أن تقديراً معيناً محا تلك الدعوة الصادرة عن المجلس، معتبرين أن لا صلة للمجلس بهذه المسألة في ذلك الوقت، بينما هو «مجلس الحكماء» ذوي التجربة العريضة!
• ممن كان هذا التقدير؟
•• من جانب «النافذين» بسلطة الأمر الواقع بصنعاء، وهو ما جعلني أنصرف عن العمل تماماً «فرجعتُ إلى كتبي وأوراقي».
• رجوعاً إذاً إلى تجربتك في الكتابة كيف تشرحها، في خضم كل الأحداث التي شهدها اليمن، وبماذا تصف نفسك من خلالها؟
•• بدايةً ما من كاتب لم يجرب محاولة نظم الشعر حتى الحلمنتيشي، أو قص القصص الخيالية، أو سرد السير الواقعية، لكنه يستقر على ما يناسبه من الفنون. وينهج أسلوبه الخاص وحصيلة محاولاته الفنية الأولى، وإذا بدا متأثراً بأسلوب آخرين ستختلف رؤيته ومعالجته للقضايا، أصاب فيما رأى أم أخطأ فيما اجتهد.
لست كاتباً إيديولوجياً موجَّهاً أو موجِهاً للجماهير، بحكمٍ مسبق، إلى اتخاذ مواقف خاطئة يندمون عليها لاحقاً كون تبعاتها الخطيرة لم تتبين لهم مبكراً، ولا أرفع شعارات سياسية أو أزكي مواقف تتناقض مع حاجيات الناس، ورغبتهم الحقيقية في السلام. ولأن لكل نادٍ رواده، نأيتُ بقلمي عن منح صكوك الوطنية بدافع شكوك سياسية وظنون آثمة تسقط أهلها وسط بئر الأحقاد والأحكام المسبقة والخاطئة وعدمية «إن لم تكن معي فأنت ضدي»، كنتاج طبيعي لغياب العقلنة والترشيد الإعلامي والسياسي.
وهذا ما مكنني النجاة بعقلي من التعرض للاستقطاب والشعارات الجوفاء والإساءة إلى الذات ممن يغضون قدر الآخرين ظناً بأنها ترتقي بقدرهم هم، كما نجوتُ بنفسي من خطر الاعتقال والاختفاء القسري والأضرار الجانبية للحرب في اليمن.
ووسط التحولات والاضطرابات «بقيتُ حياً»، كما قال أحد رجال الدولة الفرنسيين، مراقباً ومواكباً مجمل التفاعلات فنتفاءل حيناً ونتشاءم حيناً و«نتشاءل» دوماً.
وبالكلمة والقلم وزِر الكمبيوتر، على صفحات التواصل والاجتماعي بالتغريد والفسبكة نكتب بمبدأ «غرد خيراً أو اصمت» فلا ننقل غثاء الصحف الصفراء إلى فضاء الصفحات الزرقاء.
• تنشر لك أيضاً مقالات في صحف عدة مثل النهار و«عكاظ» والشرق الأوسط وإيلاف يغلب عليها الطابع التاريخي والبحثي والتوثيقي، وبعضها جدلي، مثل طلب احتفال الجمهوريين بذكرى وفاة الإمام أحمد، وغيرها من التناولات المتعلقة بتاريخ الثورة والوحدة، ودعوات السلام، هل أنت مؤرخ هارب من قضايا الحاضر والراهن والمستقبل؟
•• بدايةً ما أنا بمؤرخ وإن كان قدر الصحافي أن يكون مؤرخاً لكنني مجرد قارئ للتاريخ، وذاك المقال لم يكن نكاية بعهد أو تعريضاً بأحد، إنما «دعوة للتفكير بصوت عال» حسب تعليق على المقال للسياسي الكويتي المرحوم الأستاذ أحمد الربعي. ولا ننسى أنها قضايا تحتفظ بحيويتها وديمومتها الجدلية تأكيداً على امتداد التاريخ فينا وتجدده بما يجعل الحاضر وسياساته تاريخاً حياً. إذاً يرتبط تناول القضايا الراهنة بكتابة التاريخ، «إذا كنت أهرب منك إليك فقل لي بربك أين المفر»؛ ثم إن العمل والتحليل السياسي والكتابة الصحافية واستشراف المستقبل يعد ناقصاً بدون وعي تاريخي، «والمؤرخ الجيد بالنتيجة محلل سياسي جيد» طبقاً للكاتب السياسي الأديب اللبناني جهاد الزين.
بالإضافة إلى المقالات والبحوث التاريخية انظر إلى الروايات، كيف غدت فناً متداولاً، بما تنطوي عليه من تواريخ أو إسقاطات تعين على فهم الأحداث وملامسة جذور الأزمات.. واستمرار التذكير بها ييسر إدراك تعقيدات الحاضر بشكل أفضل مهما تشعبت فيه التعقيدات وتضاعفت. مع ملاحظة عدم تغير السلوك الإنساني، وثبات السياسة بينما يتبدل الساسة. ومن أدرك أحوال الماضي هانت عليه أهوال الحاضر.
وبغية الابتكار وليس التكرار تبقى الحاجة إلى الاستلهام والتذكير بتجارب ماضية والقياس عليها. وقد يفسد القياس نتيجة سوء النقل وعدم إحكام القواعد والأصول، حسب ابن خلدون، لذا فإن إجادة «التأريخ» قد تَقي أهل الحاضر -متى قرأوا- التخلف عن فُلكِ النجاة من طوفان الأزمات والحروب.
• قلت إنك نجوتَ بعقلِكَ من الاستقطاب وبنفسك من الاعتقال، ماذا حدث لك حتى غادرت صنعاء، بعد بقائك فيها مدة ثلاث سنوات من الانقلاب والحرب؟
•• دون ادعاء بطولات زائفة أو مزايدة بمواقف معينة، فوجئتُ في ديسمبر 2017م عقب استشهاد الرئيس السابق علي عبدالله صالح حين ثارت نوازع ثأر الحوثيين، بأن رصدت الجماعة اسمي مع إعلاميي المؤتمر الشعبي العام ضمن المطلوبين، كوني من مستشاري الدائرة الإعلامية للمؤتمر الشعبي العام، زِد أن كان سيجرى معي لقاء بقناة اليمن اليوم خلال أيام الصدام المسلح بينهما، ثم استنكرتُ المعارك يومها ونعيتُ «صالحاً» بمقال ومنشورات عدة.. المهم تأكد لي رصد اسمي من مصادر خاصة وبعض الإخوة الناصحين لي بعدم الكتابة والتغريد خشية تهور الجماعة تجاهي كما تهوروا تجاه زملاء وأصدقاء آخرين ما زالوا قيد الاعتقال. فنصحوني باتقاء الشر الناجم عن سوء الفهم والتصرف، مقترحين المغادرة تلافياً لضرر يفوق الأضرار المعنوية والمادية الناجمة عن السنوات الثلاث الأولى، ليضاف إلى «الدياسبورا» اليمنية أو الشتات اليمني، أفراد أسرة صغيرة.
• أليس لرصد الجماعة لاسمك ضمن المطلوبين والمحرضين على الفتنة علاقة بكتابك السابق «الخطأ الحوثي في اليمن»؟
•• سيكون هذا خطأً جديداً يضاف إلى رصيدهم الضخم بالنسبة لقمع الحريات.. لا سيما وهم الذين عاشوا يعانون ما وصفوه انتهاك حرياتهم.. وينطبق عليهم مقالة المفكر الراحل عبدالله القصيمي: «إنه لمحتوم أن من يثورون باسم الحرية يصبحون إذا انتصروا أشد عداوةً للحرية من كل أعدائها القدماء»!
ثم إن الكتاب سبق صدوره عام 2009م، يحذر من تفاقم الخطأ وعدم تصحيحه لئلا يصير خطراً نضطر للتعايش معه، مبيناً «حق القلق العربي على اليمن» من وقت مبكر. عاب الكتاب أيضاً على السلطات أيضاً خطأ عدم الحسم الفكري والسياسي والعسكري السريع بشكل يصون هيبة النظام اليمني وتماسك المجتمع ويعزز علاقاته وروابطه الخارجية ويحقق أمن واستقرار المنطقة.. إنما ما شاء الله كان.
ظنوا أنني ممن حرضوا على ما سموه الفتنة، وهذا غير صحيح فإذا كنت أدعو إلى السلام في اليمن مع جيرانه وأشقائه، فبالتالي ما كنت لأوقظ فتنة نائمة أو أحرض طرفاً يمنياً ضد طرف يمني آخر. وها نحن نعيش في المنفى بسبب سوء ظنهم.
• وفي المنفى ماذا أنجزت؟ وإلامَ تطمح؟
•• مع أن «الغربة للأحرار ذبحُ» لكن الغربة الحقيقية والمنفى القاتل يكمن في عدم العمل والإنجاز، فأمضيت وقتي بتوفيق من الله وبعون كريم من بعض الإخوة والآباء والأشقاء بتجهيز الإصدارات والمطبوعات عن دور نشر شهيرة: «اليمننة ظاهرة عربية جديدة: خلاصة تجربة» عن الدار العربية للعلوم، وعن منتدى النعمان الثقافي للشباب كتب مشتركة مع أهم دور النشر ببيروت هما «الأستاذ أحمد محمد نعمان المؤلفات المختارة» مع دار رياض الريس للكتب والنشر، «سعود واليمن» مع شركة جداول للنشر والترجمة والتوزيع. والقاهرة مع مؤسسة أروقة للأستاذ عبدالباري طاهر، وثمة مخطوطات أخرى قيد الطبع بجانب متابعة ومراجعة مذكرات شخصيات سياسية يمنية وعربية كبيرة.
علاوةً على قناة يوتيوب اسمها «تاريخساب» أي تاريخ عبر الواتساب، تعنى بتصحيح المعلومات التاريخية الخاطئة المتداولة عبر الواتساب وبقية وسائل التواصل الاجتماعي مع بث دعوات السلام. ولا أزال في طور تحضير برنامج إعلامي ومعرفي جديد أطمح إلى توسيع نطاقه.
• من الملحوظ اهتمامك بجهود ودعوات إحلال السلام في اليمن. فهل لك دور مباشر فيها؟
•• السلام من أسماء الله الحسنى.. فحق الإيمان بالسلام والعمل في سبيله.. ومنذ هبت «عاصفة الحزم» على اليمن بغتةً منتصف ليل 26 مارس 2015م، شرعتُ وغردتُ بالدعوة إلى «عاصفة السلم في اليمن».. وتحت العواصف عقدت مع بعض الزملاء والأصدقاء فعاليات تدعو إلى السلام ووقف الحرب، ولا أزال وسأظل ما استطعت أكتب داعياً وأمضي ساعياً في طريق السلام لليمن.
وقد التزمتُ الدعوة إلى السلام كونه الضمان لاستقرار وأمن الجميع في المنطقة.. ولعل الحرب وقد مضت الأطراف فيها، واختلفت مسمياتها وتقديراتها ومسبباتها عندهم كما تفاوتت غاياتهم، تعد مساراً رئيسياً من مسارات السلام ودافعاً إلى الدعوة إليها والسعي فيها. أو من «أبجديات السلام» كما عددتُها ضمن محاضرة سابقة، وإن اعتبرناها كلفة تعارف غالية بين الأطراف، الأبرياء أكثر من يدفع ثمنها. فندعو الله أن يقصر مداها، وأن يهدينا جميعاً أفراداً ومؤسسات إلى سبيل السلام والرشاد.
• هل تتوقع أن جهود السلام ستجدي نفعاً خاصة أن الحوثيين لا يبدون نية حسنة كما تثبت التجارب والوقائع، ويحبطون المساعي الدولية للحل السياسي بالتصعيد العسكري، وآخرها مبادرة المملكة العربية السعودية، ورفضهم واشتراطاتهم؟
•• ما من شك أن هذه الجماعة وكل منتفع بالحرب يجد قيمته باستمرار الحرب أكثر من السلام لهذا يتأخر الوصول إليه.
ومهما تأخر بلوغ المفاوضات السياسية أو أبدت الأطراف المعنية بما فيها الحوثيون تمنعاً وتقاطعت المُسيرات مع مسار السلام ومختلف المبادرات وآخرها مبادرة المملكة العربية السعودية التي تستهدف تحقيق السلام والوقف الشامل للنار، مشترطين (أي جماعة الحوثي) أموراً وفق مفاهيمهم ومصطلحاتهم الخاصة، بموجب خلفياتهم وارتباطاتهم الخارجية وطبيعة التضاريس التي نشأوا فيها وانعكست على نفسياتهم، والظروف المنعشة لحركتهم ولفساد المنتفعين، لكن مهما أنهكت المسألة اليمنية أو «اليمننة» المبعوثين الأمميين والمعنيين باليمن، لن يصح إلا الصحيح، والسلام آتٍ لا محالة، بالتفاهم أو باستمرار التصادم، «لأن الحرب آخرها سلامُ» تحققه «الإرادة» الداخلية أكثر من «الإدارة» الخارجية، وفي أوانها المحتوم.
• ما هي ملامح المرحلة القادمة من وجهة نظرك؟
•• دعنا نتحدث عما هو المرجو للكشف عن ملامح المرحلة القادمة.. أن تبدأ عاصفة السلم في اليمن، وأن يساعد اليمنيون أنفسهم، ليُسفِر اليمن الجديد عن وجهه وملامحه بيمنيين جدد يعالجون آثار الصراع وأسباب النزاع، ويحرصون على خدمة مصلحة اليمن قبل كل شيء، فيطمئن إليهم جوارهم وكل أشقائهم ويمدون يد العون الخالص لهم لبناء اليمن الجديد حقاً بعون كل المخلصين.