ثريا التركي.. أول إنثروبولوجية سعودية
الأحد / 06 / رمضان / 1442 هـ الاحد 18 أبريل 2021 00:56
بقلم: د. عبدالله المدني
مما لا شك فيه، أنه خلال السنوات الأخيرة قطعت المرأة السعودية شوطا كبيرا في سبيل تحقيق الإنجازات والمكتسبات لوطنها على المستويات المحلية والإقليمية والعالمية، بفضل الدعم المستمر من القيادة الرشيدة معطوفا على إرادتهن وعزيمتهن الصادقة. هذه المكتسبات طالت مختلف المجالات والميادين دون استثناء. غير أن هناك ثلة من نساء المملكة العربية السعودية قدر لهن البروز الأكاديمي في تخصصات عالية معينة قبل سنوات طويلة من موجة الانفتاح الراهنة بقيادة ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، مما جعل أسماءهن محل تقدير واحترام في الخارج. الأسماء -بطبيعة الحال- كثيرة، إلا أننا سنتوقف هنا عند من تعد أول امرأة سعودية تتخصص -أكاديمياً- في علم الأنثروبولوجيا. ولعل ما حدث للإنثروبولوجي السعودي الدكتور سعد بن عبدالله الصويان، من بعد عودته إلى بلاده من الولايات المتحدة الأمريكية حيث عاش أكثر من عشر سنوات دارسا وباحثا، خير شاهد. والإنثروبولوجيا كما يعرّفه الصويان هو «علم البحث عن البذور البدائية للحضارة البشرية، وجذور التاريخ الإنساني، والغوص إلى أعماق النفس البشرية بحثاً عن طبيعة مشتركة بين الإنسان والإنسان، وبين الإنسان والطبيعة. نظرة الآنثروبولوجيا للمجتمعات الأخرى، وخصوصاً البدائية منها، ليست نظرة إدانة وازدراء، وإنما نظرة متفحصة ترى في مؤسسات المجتمعات البدائية الأصول الأولى التي انبثقت منها مؤسسات العالم المتحضر».
هذه المرأة التي سنتناول سيرتها بالتفصيل في ما يلي من سطور هي الدكتورة ثريا بنت محمد السليمان البراهيم التركي، التي قيل إنها ليست فقط أول سعودية تتخصص في الإنثروبولوجيا، وإنما هي أيضا مع مواطنتها الدكتورة ابتسام البسام (ابنة الدبلوماسي السعودي في مصر وباكستان وتونس واليونان السفير الراحل عبدالرحمن البسام، وأول عميدة لكليات البنات الأدبية والعلمية ومؤسسة أكاديمية الملك فهد بلندن، ومستشارة منظمة اليونيسيف)، من أوائل السعوديات اللواتي حصلن على شهادة الدكتوراه. والمفارقة هنا أن كلتيهما من عنيزة، المدينة النجدية التي سبقت غيرها من مدن نجد لجهة الاهتمام بتعليم البنين والبنات بعيدا عن نظام الكتاتيب التقليدي. أما المفارقة الأخرى فهي أنهما عاشتا في مصر وبدأتا المشوار الجامعي من القاهرة لأسباب تعود إلى وجود عائلتيهما هناك، مما أثر على لهجتهما التي صارت أقرب إلى المصرية من اللهجة القصيمية.
التعليم على يد الكتاتيب
وطبقا لما ورد في مراسلات بيني وبينها فإنها ولدت في جدة؛ حيث أمضت سنوات طفولتها الأولى وتعلمت مبادئ القراءة والكتابة في أحد الكتاتيب التي كانت تديرها سيدة مغربية، ثم تلقت بعض العلوم المتقدمة على أيدي مدرسين خصوصيين ممن أحضرهم لها والدها من السفارات الأجنبية. والدها هو الشيخ محمد السليمان التركي المولود في عنيزة سنة 1337 للهجرة والمتوفى في جدة سنة 1391 للهجرة، الذي شغل منصب عضو مجلس الشورى القديم لمدة عام واحد تقريبا بين سنتي 1356 و1357 للهجرة، قبل أن يعين الملك المؤسس عبدالعزيز آل سعود -طيب الله ثراه- الشيخ إبراهيم العبدالرحمن الفضل مكانه، حيث ورد في الخطاب الذي افتتح به جلالته جلسات مجلس الشورى عام 1358 ما يلي: «وبالنظر لعدم تمكن محمد السليمان التركي من حضور جلسات المجلس، لاضطراره البقاء في جدة، فقد أمرنا بأن يحل مكانه إبراهيم العبدالرحمن الفضل».
والشيخ التركي اقتدى بالكثيرين من أبناء القصيم الذين ارتحلوا إلى الحجاز في زمن مبكر، إما للتجارة أو العلم أو هرباً من حالة عدم الاستقرار في نجد قبل توحيد شبه الجزيرة العربية وقيام المملكة العربية السعودية. حيث عمل هناك في التجارة، وغدا عينا من أعيان جدة بدليل وجود اسمه ضمن من أسسوا غرفة تجارة جدة قبل 75 عاما ونيف أي في عام 1946، جنبا إلى جنب مع محمد عبدالله علي رضا وأحمد محمد باعشن، ومحمد عطار وأحمد أبوبكر باغفار وأحمد عبدالرحمن باعشن وإبراهيم حمد الصنيع وإبراهيم شاكر وفيصل المبارك وعمر عبدالقادر باناجة ومحمد علي إسماعيل وحسن عبدالقادر قابل وسعيد محمد عبيد بن زقر، ثم بدليل تعيينه من قبل الدولة مديرا لمالية جدة حتى عام 1948.
إلى ما سبق شارك الشيخ التركي ثلاثة من وجهاء الحجاز وهم: رائد الطباعة محمد حسين إصطفهاني (توفي عام 1993م) ورجل الأعمال عبدالله الخريجي (توفي عام 2011) والوزير السابق محمد سرور الصبان (توفي عام 1972) في إطلاق أول مطبعة حديثة في السعودية سنة 1954م. وفي عام 1932 م صدر الأمر الملكي بإرسال موظفين إلى منطقة جازان، فاختار الملك عبدالعزيز مدير مالية جدة محمد السليمان التركي للقيام بالتنظيمات المالية في المنطقة (طبقا لكتاب مراحل العلاقات اليمنية ــ السعودية 1754 ــ 1934 م لمؤلفه د. سعد مصطفى سالم والصادر عن مكتبة مدبولي بالقاهرة سنة 2003)، وهذا الأمر مهد الطريق للرجل لاحقا ليكون عضوا في اللجنة التي تولت ترسيم الحدود السعودية ــ اليمنية.
الاقتران بأسرة فكهاني
في جدة اقترن الشيخ التركي بسيدة من عائلة فكهاني الحجازية التي سكنت جدة قبل هدم سورها في عام 1948، وهي نور عمر فكهاني التي أنجبت له أبناء من بينهم ثريا. والطريف هنا -كما ذكر أستاذنا الأديب محمد بن عبدالرزاق القشعمي في مقال له عنها بمجلة اليمامة (18/7/2019)- أن ابن عم والد ثريا «عبدالله العبدالرحمن التركي» متزوج من خالتها الكبرى، فيما عمها «إبراهيم السليمان البراهيم التركي» متزوج من خالتها الثانية (أي أن ثلاث أخوات من بيت الفكهاني متزوجات أخوين وابن عمهما من عائلة التركي)، الأمر الذي يؤكد -طبقا للقشعمي- أن التزاوج والمصاهرة بين أبناء الحجاز ونجد موجود من قبل توحيد المملكة. ويستدرك القشعمي قائلا: «ولكن من الغريب أن الرعيل الأول من الرائدات -بمن فيهن ثريا- كلهن تزوجن من غير سعوديين. وقد أوضحت ثريا أسباب ذلك في كلمة ألقتها في إثنينية عبدالمقصود خوجة بجدة سنة 2009، فقالت: «كان معنا أخوة سعوديون كثر في الجامعات، ولكن كانوا لا يقتربون منا كثيرا، أكثر من صباح الخير، ومساء الخير، وكيف حالك؟، فاضطررنا أن نتزوج من خارج البلد، وأراد الأهل لنا هذه الحياة». (طالع: القشعمي، اليمامة، مصدر سابق)
طلب العلم في بيروت
عند بلوغها السابعة من عمرها أرسلها والدها، الحريص على أن تتلقى ابنته العلوم والمعارف العصرية، إلى بيروت حيث التحقت فيها بمدرسة داخلية اسمها British Lebanese Training College، ومن بيروت سافرت إلى القاهرة لتقيم في الزمالك عند أختها المتزوجة من ابن عمها الموظف بالسفارة السعودية في القاهرة، فدرست هناك مراحل الدراسة الابتدائية والثانوية وزاملت بعض الفتيات الخليجيات والعربيات بالقسم الداخلي من مدرسة English Girls College في الإسكندرية. وبمجرد تخرجها من هذه المدرسة وحصولها على البكالوريا في عام 1962 التحقت بكلية الآداب في جامعة القاهرة الأمريكية بحي غاردن سيتي، حيث كان من زميلاتها بعض السعوديات اللواتي نلن الدكتوراه فيما بعد وبرزن في مجال تخصصاتهن مثل الدكتورة سميرة إسلام والدكتورة فاتن أمين شاكر والدكتورة ثريا أحمد عبيد، فحصلت منها على ليسانس الأدب العربي عام 1966، وفي العام التالي حصلت على منحة من جامعة كاليفورنيا في بيركلي لاستكمال تحصيلها العالي، فسافرت إلى الولايات المتحدة في مطلع ذلك العام، واستمرت المنحة إلى أن نالت شهادتي الماجستير والدكتوراه في علم الإنثروبولوجيا، علما بأن أطروحتها لنيل الدكتوراه كانت بعنوان «الإيديولوجيا والدين عند بعض الأسر الرائدة في جدة» (نشرت الأطروحة في كتاب من قبل جامعة كولومبيا بنيويورك ثم تمت ترجمة الكتاب إلى العربية)، وكانت المشرفة الأساسية عليها هي الدكتورة «لورا نادر».
الدكتوراه من بيركلي والتدريس الجامعي
درجة الدكتوراه من جامعة مرموقة مثل جامعة كاليفورنيا في بيركلي فتحت أمامها الآفاق لمسيرة طويلة في البحث والعمل في الجامعات الأمريكية والعربية والسعودية ستقودها إلى الشهرة في مجال تخصصها الانثروبولوجي ورفد المكتبتين الأجنبية والعربية بالعديد من المؤلفات الرصينة، خصوصا تلك التي ألفتها بالاشتراك مع زميلها الأستاذ المشارك في جامعة القاهرة الأمريكية، عالم الانثروبولوجيا الأمريكي «دونالد باول كول»، صاحب المؤلفات والأبحاث الكثيرة في مواضيع: الإسلام، والبدو، والمستوطنين، ومجاهل الصحراء العربية، وتاريخ القبائل العربية وهجراتها، والتنمية الاجتماعية في مصر ودول الخليج العربية، وأثر اكتشاف النفط على حياة مجتمعات شبه الجزيرة العربية، وغيرها.
عملت ثريا بعد نيلها الدكتوراه في التدريس الجامعي. فقامت بالتدريس في جامعة هارفارد العريقة بولاية بوسطون، وجامعة لوس أنجيلس بولاية كاليفورنيا، وجامعة جورج تاون بولاية واشنطون، وجامعة بنسلفانيا بولاية فيلاديلفيا، وغيرها من الجامعات الأمريكية المرموقة. أما في وطنها فقد تولت التدريس في جامعة الملك عبدالعزيز بجدة وجامعة الملك سعود بالرياض (كأستاذة زائرة). كما تولت تدريس علم الاجتماع والانثروبولوجيا في الجامعة اللبنانية ببيروت، ناهيك عن التدريس في الجامعة التي انطلقت منها وهي الجامعة الأمريكية في القاهرة حيث عاشت جل حياتها.
بين عنيزة وجدة.. وفاء للوالدين وتأريخ للمرحلة
وما بين هذا وذاك، تمكنت من وضع أول دراسة إنثروبولوجية اجتماعية عن مدينة عنيزة بالقصيم موطن آبائها وأجدادها، ونعني بذلك كتابها الأول الموسوم «عنيزة: التنمية والتغيير في مدينة نجدية عربية» وهو كتاب شاركها في تأليفه العالم الأمريكي «دونالد باول كول»، وصدر باللغة الإنجليزية في عام 1991 قبل أن يقوم بنقله إلى العربية «د. أمين جلال والأستاذ حليم أسعد» ويصدر عن «مؤسسة الأبحاث العربية». والمفارقة أن ثريا ألفت هذا الكتاب، وهي التي لم تلد أو تعش في عنيزة ولم تعرفها إلا حينما عزمت على كتابة دراستها عنها، فخلال عامي 1986 و1987 راحت تتردد على عنيزة وتتصل بنسائها وترصد مشاكلهن وتسجل ما يخصهن، فيما كان شريكها الأمريكي يفعل الشيء ذاته مع رجال عنيزة. في هذا السياق، سجل عنها قولها إن ما دفعها لهذه الدراسة الاجتماعية المتميزة غير المسبوقة هو حب أبيها لعنيزة التي لم يعش فيها سوى أيام صباه المبكرة.
وإذا كان حب والدها لعنيزة وراء تأليفها لكتابها الأول، فإن حبها لوالدتها الجداوية وحبها لمدينة جدة التي أبصرت فيها النور وعاشت فيها سنوات طفولتها الأولى قبل ذهابها إلى مصر هو الذي جعلها تضع كتابا عن عروس البحر الأحمر تحت عنوان «جدة: أم الرخا والشدة»، مستعيرة العنوان من العبارة الشعبية الدارجة في الحجاز عن جدة. وضعت ثريا هذا الكتاب بمشاركة زميلها عالم الاجتماع السعودي الدكتور أبوبكر باقادر وبمساعدة من تلميذة الأخير الدكتورة آمال طنطاوي، وأصدرته في عام 2006 عن دار الشروق المصرية. في هذا الكتاب سعت لتحليل تاريخ جدة الاجتماعي من خلال تحليل تاريخ الأسر الجداوية بصفة عامة وحياة نسائها بصفة خاصة، مع الأخذ في الاعتبار السياقات الاجتماعية والاقتصادية العامة والسياسات الموجهة للحياة الاجتماعية لأهل المدينة، علما بأنها استعانت في جمع ما تضمنه الكتاب بفريق بحثي مكون من: ليلى جمال (إعلامية ومديرة سكن دار الرحمة)، فوزية باشطح (محاضرة بقسم الاجتماع بجامعة الملك عبدالعزيز)، والدكتورة نورة العمودي (باحثة اجتماعية).
وبقدر ما كان كتابها عن عنيزة متميزا، كذلك كان كتابها عن جدة، بدليل الاحتفاء الكبير الذي حظيت به من قبل المجتمع الجداوي والصحافة السعودية ونادي جدة الأدبي. فمثلا وصفت الدكتورة سهير حسن القرشي عميدة جامعة دار الحكمة الكتاب بأنه نواة عمل بحثي نسائي بنسبة 80%، وأنه يتميز بمنهجية علمية وبصيرة اجتماعية ورصد دقيق للمعلومات ولقاءات ميدانية. أما الدكتورة فوزية أبوخالد -أستاذة علم الاجتماع بجامعة الملك سعود- فقد قالت إن الكتاب محاولة غير مسبوقة لدراسة فريدة من نوعها ورصد متميز لمرحلة تاريخية تمتد لنحو نصف قرن، ناهيك عن أنه يطرح ورقة عمل لمطالب ومعاناة المرأة من واقع التجارب.
وفي سياق اهتماماتها بالمرأة والأسرة في السعودية ومصر بصفة عامة أصدرت كتابا آخر في عام 2006 عن دار ميريت المصرية تحت عنوان «هكذا تكلمت النساء» حللت فيه أوضاع ومشاكل النساء من الطبقة الدنيا.
مصر.. بلد البدايات وتشكيل الوعي
إلى ذلك، لم تنس الدكتورة ثريا مصر البلد الذي علمها في بداياتها وتشكل فيه وعيها وعاشت فيه جلّ حياتها، فأولته جزءا من جهودها البحثية؛ التي تجلت في كتاب بالإنجليزية ألفته مع «دونالد باول كول» تحت عنوان «أهل مطروح: البدو والمستوطنون والذين يقضون العطلات»، وهو كتاب قام محمد فرج بترجمته إلى العربية لاحقا وتمّ إصداره من المركز القومي للترجمة بالقاهرة. في هذا الكتاب قام المؤلفان بدراسة التركيب الديمغرافي والنشاط البشري لسكان مدينة مرسى مطروح المصرية من البدو الذين يختلفون عن المجموعات السكانية الأخرى لكنهم يشتركون في الزي والأعراف، موضحين المؤثرات الاقتصادية والسياسية عليهم من تلك الناجمة عن النهضة الحضارية والعمرانية التي تقودها الدولة المصرية في الساحل الشمالي.
كتب عنها الكاتب أحمد الواصل في جريدة القبس (16/9/2009) تحت عنوان «أنثروبولوجيا خارج المكان.. أزمة العلوم الاجتماعية عند السعوديات»، مستعرضا سيرتها وأعمالها، ثم كتب عنها في المجلة العربية (العدد 502 الصادر في أغسطس 2018) فقال: «ثريا التركي سليلة أسماء نساء عظيمات من نجد، من مدينة عنيزة، من القصيم، شاهدات على أزمنة وأمكنة، شاعرات ومحسنات وفارسات وسيدات أعمال ومناضلات ومبدعات في الأدب والفن، فمن نورة الهطلاني إلى موضي البسام ومزنة المطرودي ولولوة العرفج وصولاً إلى عائشة المانع ولبنى العليان وسناء الخراز... وحين تخصصت في شؤون الأسرة في الجزيرة العربية درست تاريخ المرأة السعودية، فأجملت نظرتها بأنها تسهم في كل المجالات دون تحديد مجال معين تؤدي دورها فيه طالما تملك من الكفاءة ما يمكنها أن تحافظ على التوازن بين اختياراتها، وحالياً يجب أن تعمل في المجال المفتوح أمامها والمتوافر لها... وهي على درجة عالية من الكفاءة... واليوم لم يعد عمل المرأة مجرد مساهمة أو ترفيه أو كسر أوقات الفراغ، بل أصبح حاجة ملحة لكي تستمر الحياة، فمرتب الرجل لم يعد يكفي لسد احتياجات الأسرة... وأنا لدي قناعة بأن المرأة السعودية تحب عملها جدا ويمكنها حتى أن تتفوق على الرجل وتحتاج فقط للفرصة التي تثبت فيها قدراتها».
ويبدو للمتابع لأخبار الدكتورة ثريا، التي تقيم ما بين القاهرة والولايات المتحدة بحكم زواجها ولا تزور السعودية إلا في المناسبات العائلية أو لأداء الحج والعمرة أو لأغراض علمية، أنها لا تؤمن بالتقاعد والراحة وتفضل أن تهب ما تبقي من حياتها المديد للعلم والبحث.
هذه المرأة التي سنتناول سيرتها بالتفصيل في ما يلي من سطور هي الدكتورة ثريا بنت محمد السليمان البراهيم التركي، التي قيل إنها ليست فقط أول سعودية تتخصص في الإنثروبولوجيا، وإنما هي أيضا مع مواطنتها الدكتورة ابتسام البسام (ابنة الدبلوماسي السعودي في مصر وباكستان وتونس واليونان السفير الراحل عبدالرحمن البسام، وأول عميدة لكليات البنات الأدبية والعلمية ومؤسسة أكاديمية الملك فهد بلندن، ومستشارة منظمة اليونيسيف)، من أوائل السعوديات اللواتي حصلن على شهادة الدكتوراه. والمفارقة هنا أن كلتيهما من عنيزة، المدينة النجدية التي سبقت غيرها من مدن نجد لجهة الاهتمام بتعليم البنين والبنات بعيدا عن نظام الكتاتيب التقليدي. أما المفارقة الأخرى فهي أنهما عاشتا في مصر وبدأتا المشوار الجامعي من القاهرة لأسباب تعود إلى وجود عائلتيهما هناك، مما أثر على لهجتهما التي صارت أقرب إلى المصرية من اللهجة القصيمية.
التعليم على يد الكتاتيب
وطبقا لما ورد في مراسلات بيني وبينها فإنها ولدت في جدة؛ حيث أمضت سنوات طفولتها الأولى وتعلمت مبادئ القراءة والكتابة في أحد الكتاتيب التي كانت تديرها سيدة مغربية، ثم تلقت بعض العلوم المتقدمة على أيدي مدرسين خصوصيين ممن أحضرهم لها والدها من السفارات الأجنبية. والدها هو الشيخ محمد السليمان التركي المولود في عنيزة سنة 1337 للهجرة والمتوفى في جدة سنة 1391 للهجرة، الذي شغل منصب عضو مجلس الشورى القديم لمدة عام واحد تقريبا بين سنتي 1356 و1357 للهجرة، قبل أن يعين الملك المؤسس عبدالعزيز آل سعود -طيب الله ثراه- الشيخ إبراهيم العبدالرحمن الفضل مكانه، حيث ورد في الخطاب الذي افتتح به جلالته جلسات مجلس الشورى عام 1358 ما يلي: «وبالنظر لعدم تمكن محمد السليمان التركي من حضور جلسات المجلس، لاضطراره البقاء في جدة، فقد أمرنا بأن يحل مكانه إبراهيم العبدالرحمن الفضل».
والشيخ التركي اقتدى بالكثيرين من أبناء القصيم الذين ارتحلوا إلى الحجاز في زمن مبكر، إما للتجارة أو العلم أو هرباً من حالة عدم الاستقرار في نجد قبل توحيد شبه الجزيرة العربية وقيام المملكة العربية السعودية. حيث عمل هناك في التجارة، وغدا عينا من أعيان جدة بدليل وجود اسمه ضمن من أسسوا غرفة تجارة جدة قبل 75 عاما ونيف أي في عام 1946، جنبا إلى جنب مع محمد عبدالله علي رضا وأحمد محمد باعشن، ومحمد عطار وأحمد أبوبكر باغفار وأحمد عبدالرحمن باعشن وإبراهيم حمد الصنيع وإبراهيم شاكر وفيصل المبارك وعمر عبدالقادر باناجة ومحمد علي إسماعيل وحسن عبدالقادر قابل وسعيد محمد عبيد بن زقر، ثم بدليل تعيينه من قبل الدولة مديرا لمالية جدة حتى عام 1948.
إلى ما سبق شارك الشيخ التركي ثلاثة من وجهاء الحجاز وهم: رائد الطباعة محمد حسين إصطفهاني (توفي عام 1993م) ورجل الأعمال عبدالله الخريجي (توفي عام 2011) والوزير السابق محمد سرور الصبان (توفي عام 1972) في إطلاق أول مطبعة حديثة في السعودية سنة 1954م. وفي عام 1932 م صدر الأمر الملكي بإرسال موظفين إلى منطقة جازان، فاختار الملك عبدالعزيز مدير مالية جدة محمد السليمان التركي للقيام بالتنظيمات المالية في المنطقة (طبقا لكتاب مراحل العلاقات اليمنية ــ السعودية 1754 ــ 1934 م لمؤلفه د. سعد مصطفى سالم والصادر عن مكتبة مدبولي بالقاهرة سنة 2003)، وهذا الأمر مهد الطريق للرجل لاحقا ليكون عضوا في اللجنة التي تولت ترسيم الحدود السعودية ــ اليمنية.
الاقتران بأسرة فكهاني
في جدة اقترن الشيخ التركي بسيدة من عائلة فكهاني الحجازية التي سكنت جدة قبل هدم سورها في عام 1948، وهي نور عمر فكهاني التي أنجبت له أبناء من بينهم ثريا. والطريف هنا -كما ذكر أستاذنا الأديب محمد بن عبدالرزاق القشعمي في مقال له عنها بمجلة اليمامة (18/7/2019)- أن ابن عم والد ثريا «عبدالله العبدالرحمن التركي» متزوج من خالتها الكبرى، فيما عمها «إبراهيم السليمان البراهيم التركي» متزوج من خالتها الثانية (أي أن ثلاث أخوات من بيت الفكهاني متزوجات أخوين وابن عمهما من عائلة التركي)، الأمر الذي يؤكد -طبقا للقشعمي- أن التزاوج والمصاهرة بين أبناء الحجاز ونجد موجود من قبل توحيد المملكة. ويستدرك القشعمي قائلا: «ولكن من الغريب أن الرعيل الأول من الرائدات -بمن فيهن ثريا- كلهن تزوجن من غير سعوديين. وقد أوضحت ثريا أسباب ذلك في كلمة ألقتها في إثنينية عبدالمقصود خوجة بجدة سنة 2009، فقالت: «كان معنا أخوة سعوديون كثر في الجامعات، ولكن كانوا لا يقتربون منا كثيرا، أكثر من صباح الخير، ومساء الخير، وكيف حالك؟، فاضطررنا أن نتزوج من خارج البلد، وأراد الأهل لنا هذه الحياة». (طالع: القشعمي، اليمامة، مصدر سابق)
طلب العلم في بيروت
عند بلوغها السابعة من عمرها أرسلها والدها، الحريص على أن تتلقى ابنته العلوم والمعارف العصرية، إلى بيروت حيث التحقت فيها بمدرسة داخلية اسمها British Lebanese Training College، ومن بيروت سافرت إلى القاهرة لتقيم في الزمالك عند أختها المتزوجة من ابن عمها الموظف بالسفارة السعودية في القاهرة، فدرست هناك مراحل الدراسة الابتدائية والثانوية وزاملت بعض الفتيات الخليجيات والعربيات بالقسم الداخلي من مدرسة English Girls College في الإسكندرية. وبمجرد تخرجها من هذه المدرسة وحصولها على البكالوريا في عام 1962 التحقت بكلية الآداب في جامعة القاهرة الأمريكية بحي غاردن سيتي، حيث كان من زميلاتها بعض السعوديات اللواتي نلن الدكتوراه فيما بعد وبرزن في مجال تخصصاتهن مثل الدكتورة سميرة إسلام والدكتورة فاتن أمين شاكر والدكتورة ثريا أحمد عبيد، فحصلت منها على ليسانس الأدب العربي عام 1966، وفي العام التالي حصلت على منحة من جامعة كاليفورنيا في بيركلي لاستكمال تحصيلها العالي، فسافرت إلى الولايات المتحدة في مطلع ذلك العام، واستمرت المنحة إلى أن نالت شهادتي الماجستير والدكتوراه في علم الإنثروبولوجيا، علما بأن أطروحتها لنيل الدكتوراه كانت بعنوان «الإيديولوجيا والدين عند بعض الأسر الرائدة في جدة» (نشرت الأطروحة في كتاب من قبل جامعة كولومبيا بنيويورك ثم تمت ترجمة الكتاب إلى العربية)، وكانت المشرفة الأساسية عليها هي الدكتورة «لورا نادر».
الدكتوراه من بيركلي والتدريس الجامعي
درجة الدكتوراه من جامعة مرموقة مثل جامعة كاليفورنيا في بيركلي فتحت أمامها الآفاق لمسيرة طويلة في البحث والعمل في الجامعات الأمريكية والعربية والسعودية ستقودها إلى الشهرة في مجال تخصصها الانثروبولوجي ورفد المكتبتين الأجنبية والعربية بالعديد من المؤلفات الرصينة، خصوصا تلك التي ألفتها بالاشتراك مع زميلها الأستاذ المشارك في جامعة القاهرة الأمريكية، عالم الانثروبولوجيا الأمريكي «دونالد باول كول»، صاحب المؤلفات والأبحاث الكثيرة في مواضيع: الإسلام، والبدو، والمستوطنين، ومجاهل الصحراء العربية، وتاريخ القبائل العربية وهجراتها، والتنمية الاجتماعية في مصر ودول الخليج العربية، وأثر اكتشاف النفط على حياة مجتمعات شبه الجزيرة العربية، وغيرها.
عملت ثريا بعد نيلها الدكتوراه في التدريس الجامعي. فقامت بالتدريس في جامعة هارفارد العريقة بولاية بوسطون، وجامعة لوس أنجيلس بولاية كاليفورنيا، وجامعة جورج تاون بولاية واشنطون، وجامعة بنسلفانيا بولاية فيلاديلفيا، وغيرها من الجامعات الأمريكية المرموقة. أما في وطنها فقد تولت التدريس في جامعة الملك عبدالعزيز بجدة وجامعة الملك سعود بالرياض (كأستاذة زائرة). كما تولت تدريس علم الاجتماع والانثروبولوجيا في الجامعة اللبنانية ببيروت، ناهيك عن التدريس في الجامعة التي انطلقت منها وهي الجامعة الأمريكية في القاهرة حيث عاشت جل حياتها.
بين عنيزة وجدة.. وفاء للوالدين وتأريخ للمرحلة
وما بين هذا وذاك، تمكنت من وضع أول دراسة إنثروبولوجية اجتماعية عن مدينة عنيزة بالقصيم موطن آبائها وأجدادها، ونعني بذلك كتابها الأول الموسوم «عنيزة: التنمية والتغيير في مدينة نجدية عربية» وهو كتاب شاركها في تأليفه العالم الأمريكي «دونالد باول كول»، وصدر باللغة الإنجليزية في عام 1991 قبل أن يقوم بنقله إلى العربية «د. أمين جلال والأستاذ حليم أسعد» ويصدر عن «مؤسسة الأبحاث العربية». والمفارقة أن ثريا ألفت هذا الكتاب، وهي التي لم تلد أو تعش في عنيزة ولم تعرفها إلا حينما عزمت على كتابة دراستها عنها، فخلال عامي 1986 و1987 راحت تتردد على عنيزة وتتصل بنسائها وترصد مشاكلهن وتسجل ما يخصهن، فيما كان شريكها الأمريكي يفعل الشيء ذاته مع رجال عنيزة. في هذا السياق، سجل عنها قولها إن ما دفعها لهذه الدراسة الاجتماعية المتميزة غير المسبوقة هو حب أبيها لعنيزة التي لم يعش فيها سوى أيام صباه المبكرة.
وإذا كان حب والدها لعنيزة وراء تأليفها لكتابها الأول، فإن حبها لوالدتها الجداوية وحبها لمدينة جدة التي أبصرت فيها النور وعاشت فيها سنوات طفولتها الأولى قبل ذهابها إلى مصر هو الذي جعلها تضع كتابا عن عروس البحر الأحمر تحت عنوان «جدة: أم الرخا والشدة»، مستعيرة العنوان من العبارة الشعبية الدارجة في الحجاز عن جدة. وضعت ثريا هذا الكتاب بمشاركة زميلها عالم الاجتماع السعودي الدكتور أبوبكر باقادر وبمساعدة من تلميذة الأخير الدكتورة آمال طنطاوي، وأصدرته في عام 2006 عن دار الشروق المصرية. في هذا الكتاب سعت لتحليل تاريخ جدة الاجتماعي من خلال تحليل تاريخ الأسر الجداوية بصفة عامة وحياة نسائها بصفة خاصة، مع الأخذ في الاعتبار السياقات الاجتماعية والاقتصادية العامة والسياسات الموجهة للحياة الاجتماعية لأهل المدينة، علما بأنها استعانت في جمع ما تضمنه الكتاب بفريق بحثي مكون من: ليلى جمال (إعلامية ومديرة سكن دار الرحمة)، فوزية باشطح (محاضرة بقسم الاجتماع بجامعة الملك عبدالعزيز)، والدكتورة نورة العمودي (باحثة اجتماعية).
وبقدر ما كان كتابها عن عنيزة متميزا، كذلك كان كتابها عن جدة، بدليل الاحتفاء الكبير الذي حظيت به من قبل المجتمع الجداوي والصحافة السعودية ونادي جدة الأدبي. فمثلا وصفت الدكتورة سهير حسن القرشي عميدة جامعة دار الحكمة الكتاب بأنه نواة عمل بحثي نسائي بنسبة 80%، وأنه يتميز بمنهجية علمية وبصيرة اجتماعية ورصد دقيق للمعلومات ولقاءات ميدانية. أما الدكتورة فوزية أبوخالد -أستاذة علم الاجتماع بجامعة الملك سعود- فقد قالت إن الكتاب محاولة غير مسبوقة لدراسة فريدة من نوعها ورصد متميز لمرحلة تاريخية تمتد لنحو نصف قرن، ناهيك عن أنه يطرح ورقة عمل لمطالب ومعاناة المرأة من واقع التجارب.
وفي سياق اهتماماتها بالمرأة والأسرة في السعودية ومصر بصفة عامة أصدرت كتابا آخر في عام 2006 عن دار ميريت المصرية تحت عنوان «هكذا تكلمت النساء» حللت فيه أوضاع ومشاكل النساء من الطبقة الدنيا.
مصر.. بلد البدايات وتشكيل الوعي
إلى ذلك، لم تنس الدكتورة ثريا مصر البلد الذي علمها في بداياتها وتشكل فيه وعيها وعاشت فيه جلّ حياتها، فأولته جزءا من جهودها البحثية؛ التي تجلت في كتاب بالإنجليزية ألفته مع «دونالد باول كول» تحت عنوان «أهل مطروح: البدو والمستوطنون والذين يقضون العطلات»، وهو كتاب قام محمد فرج بترجمته إلى العربية لاحقا وتمّ إصداره من المركز القومي للترجمة بالقاهرة. في هذا الكتاب قام المؤلفان بدراسة التركيب الديمغرافي والنشاط البشري لسكان مدينة مرسى مطروح المصرية من البدو الذين يختلفون عن المجموعات السكانية الأخرى لكنهم يشتركون في الزي والأعراف، موضحين المؤثرات الاقتصادية والسياسية عليهم من تلك الناجمة عن النهضة الحضارية والعمرانية التي تقودها الدولة المصرية في الساحل الشمالي.
كتب عنها الكاتب أحمد الواصل في جريدة القبس (16/9/2009) تحت عنوان «أنثروبولوجيا خارج المكان.. أزمة العلوم الاجتماعية عند السعوديات»، مستعرضا سيرتها وأعمالها، ثم كتب عنها في المجلة العربية (العدد 502 الصادر في أغسطس 2018) فقال: «ثريا التركي سليلة أسماء نساء عظيمات من نجد، من مدينة عنيزة، من القصيم، شاهدات على أزمنة وأمكنة، شاعرات ومحسنات وفارسات وسيدات أعمال ومناضلات ومبدعات في الأدب والفن، فمن نورة الهطلاني إلى موضي البسام ومزنة المطرودي ولولوة العرفج وصولاً إلى عائشة المانع ولبنى العليان وسناء الخراز... وحين تخصصت في شؤون الأسرة في الجزيرة العربية درست تاريخ المرأة السعودية، فأجملت نظرتها بأنها تسهم في كل المجالات دون تحديد مجال معين تؤدي دورها فيه طالما تملك من الكفاءة ما يمكنها أن تحافظ على التوازن بين اختياراتها، وحالياً يجب أن تعمل في المجال المفتوح أمامها والمتوافر لها... وهي على درجة عالية من الكفاءة... واليوم لم يعد عمل المرأة مجرد مساهمة أو ترفيه أو كسر أوقات الفراغ، بل أصبح حاجة ملحة لكي تستمر الحياة، فمرتب الرجل لم يعد يكفي لسد احتياجات الأسرة... وأنا لدي قناعة بأن المرأة السعودية تحب عملها جدا ويمكنها حتى أن تتفوق على الرجل وتحتاج فقط للفرصة التي تثبت فيها قدراتها».
ويبدو للمتابع لأخبار الدكتورة ثريا، التي تقيم ما بين القاهرة والولايات المتحدة بحكم زواجها ولا تزور السعودية إلا في المناسبات العائلية أو لأداء الحج والعمرة أو لأغراض علمية، أنها لا تؤمن بالتقاعد والراحة وتفضل أن تهب ما تبقي من حياتها المديد للعلم والبحث.