أخبار

أبحاث فريدة تكشف تأثير الضوضاء البشرية على عالم الكائنات الحية

دراسة أصوات المحيطات لمعرفة ظروف الحياة البحرية

منظر تحت الماء لسمكة حوت حدباء مع عجلها. (كاوست)

«عكاظ» (جدة) OKAZ_online@

يشهد عالمنا اليوم ازدياداً كبيراً للضوضاء في المحيطات الناتجة عن العمليات البشرية؛ مثل شحن البضائع وسفن الصيد والتفجير والحفر التنقيبي تحت الماء، والسونار النشط في السفن والغواصات، وهذه العمليات تؤثر سلباً على الحياة البحرية وموائلها من خلال تغيير طبيعة المشهد الصوتي للمحيطات؛ وهو مجال لم يأخذ نصيبه من الدراسة والبحث والتوثيق. وفي هذا السياق، نشرت مجلة ساينس (Science) العلمية دراسة بحثية قامت بها مؤسسات متعددة، في فبراير 2021، عن المشهد الصوتي للمحيط، توثق الآثار الضارة للبصمة الصوتية البشرية، وتقترح حلولاً لدعم صحة المحيطات ودورها في الاقتصادات المستدامة. يقول البروفيسور كارلوس دوارتي، المؤلف الرئيسي للورقة وأستاذ العلوم البحرية المتميز في جامعة الملك عبدالله للعلوم والتقنية «كاوست»: «هذه الورقة هي حصيلة ورشة عمل كنت قد نظمتها في «كاوست» في فبراير 2019، بعد عامين من التخطيط وأكثر من خمس سنوات من البحث، بمشاركة الزملاء من جميع أنحاء العالم لمعالجة هذه الفجوة المعرفية، حيث تشير الدلائل إلى أن ضوضاء المحيطات تؤثر على سماع الحيوانات البحرية وتواصلها وتفاعلها مع البيئة للبقاء على قيد الحياة». تضمنت الورقة تجميع وتلخيص نتائج أبحاث حوالى 10.000 ورقة بحثية ومراجعات من تخصصات متعددة، بما في ذلك علم الأعصاب، وتطور السمع، والبيولوجيا البحرية، ودور الصوت في سلوك الحيوانات، وعلم المحيطات، ودراسات الخصائص الفيزيائية للمحيطات وتأثيرها على الصوتيات، وتأثيرات الصوت على الموائل والبيئة البحرية، والبيانات الضخمة، وتعّلم الآلة، وتصنيف وفك شفرات الصوت البحري، وهو «جهد هائل» يعتقد دوارتي أنه سيساعد صانعي القرار والسياسات على تطوير أجندة عمل تهدف لتحسين صحة المحيطات. ومن بين المشاركات المتميزة للورقة كانت تسجيلات أصوات المحيط الطبيعية أو من صنع الإنسان من تأليف الموسيقارة وفنانة الصوتيات والمؤلف المشارك في الورقة جانا وندرين التي التقت البروفيسور دوارتي على متن سفينة أبحاث في القطب الشمالي أول مرة في عام 2016.

أصوات المحيطات

تفيد إحدى الافتراضات الشائعة أن المحيط عبارة عن بيئة صامتة، ويعزو ذلك لحقيقة أن البشر لا يسمعون جيداً تحت الماء، وتصف الورقة ثلاث فئات من أصوات المحيطات: الأصوات الحيوية (البيوفونية)؛ وهي مجموعة الأصوات التي تصدرها الكائنات البحرية، والأصوات البيئية (الجيوفونية)؛ وهي أصوات البيئة المادية مثل الرياح والأمطار والعواصف، والأصوات البشرية (الأنثروفونية)؛ وهي الأصوات الناشئة عن العمليات والتدخلات البشرية.

تكشف التسجيلات الصوتية باستخدام أجهزة متخصصة مثل الهايدروفون (المايكرفون المائي) أن البيئات الصحية للمحيطات مليئة بالأصوات البيولوجية؛ مثل نداءات الحيتان، وطقطقة الروبيان والأسماك وغيرها، كما تكشف لنا أيضاً عن وجود ضوضاء في المحيطات ناتجة عن الأنشطة البشرية، ويتضح لنا أن البيئات البحرية المتضررة تهيمن عليها الأصوات الجيوفونية والأنثروفونية فقط، وتقل أو تختفي تماماً فيها الأصوات الحيوية (البيوفونية).

جدير بالذكر، أن الكائنات البحرية تدرك الفرق بين هذه الأصوات، على سبيل المثال، يمكن للثدييات والأسماك البحرية -حتى القشريات واللافقاريات التي تنجرف مع التيارات البحرية- أن تسمع الأصوات الطبيعية الواسعة للشعاب المرجانية، ثم تحدد ما إذا كانت أماكن جيدة للاستقرار، وبهذه الطريقة، تعمل البصمة الصوتية الطبيعية على توجيه اللافقاريات والأسماك للتجمع في الشعاب المرجانية السليمة. كما أن لظاهرة تغيّر المناخ تأثيرا كبيرا على المشهد الصوتي للشعاب المرجانية والبيئات البحرية الأخرى، حيث وصفت دراسة سابقة أجراها مؤلفون مشاركون في هذا البحث كيف أدت ظاهرة ابيضاض المرجان العالمي الذي حدث بين عامي 2015 و2017 إلى انخفاض بمعدل أربعة أضعاف في المشهد الصوتي للحاجز المرجاني العظيم في أستراليا، وانخفاض البصمة الصوتية للكائنات البحرية إلى 25٪ عما كانت عليه قبل حدوث الابيضاض المرجاني.

يراقب العلماء جودة البيئات البحرية المختلفة من خلال رصد تنوع الأصوات الموجودة فيها – الحيوية والبيئية، والبشرية، حيث إن لكل بيئة بحرية بصمتها الصوتية الخاصة، من المياه العميقة في النرويج إلى المياه الضحلة في بليز.

الأسباب والآثار

تعتبر سفن الصيد وناقلات الشحن العملاقة السبب الرئيسي لضوضاء المحيطات، حيث تولد أصواتًا عالية ذات ترددات منخفضة يمكن سماعها على بعد كيلومترات من قبل العديد من الحيوانات البحرية المختلفة، وتعمل هذه السفن والناقلات على مدار الساعة طوال أيام الأسبوع وعلى نطاق عالمي، وينتشر ضوضاؤها عبر مختلف البيئات البحرية في المحيطات.

تتمتع الثدييات البحرية بحاسة سمع قوية وحساسة، حيث تستخدم الصوت للعثور على الغذاء، والتكاثر، وتجنب الحيوانات المفترسة، وهو أمر مهم بصورة خاصة للحيتان والدلافين التي تعتمد على الصوت بصورة أساسية في حياتها. ومع الأسف، فإن الضوضاء التي تنتجها السفن تحيط بهذه الكائنات وتشوش على وظائفها.

يقول المؤلف المشارك الدكتور دانيال كوستا، مدير معهد العلوم البحرية في جامعة كاليفورنيا في سانتا كرور، الذي يمتلك خبرة في مجال الثدييات البحرية وعلم الأحياء التطوري، يقول إن ضوضاء المحيطات تؤثر على الثدييات البحرية بعدة طرق، وإحدى هذه التأثيرات هي «التشويش الصوتي»، أي عندما يمنعك الصوت من سماع الأصوات الأخرى المحيطة. يقول كوستا: «تستخدم ذكور الحيتان الحدباء، على سبيل المثال، الأصوات المتناغمة لإظهار قدراتها وإثارة الإناث والتنافس مع الذكور الآخرين، وتعمل الضوضاء البشرية على التشويش على هذه الأصوات وأشكال الاتصال الأخرى وتؤثر على حاسة السمع لدى هذه الحيتان».

وتشير النتائج إلى أن الحيتان أصبحت مضطرة لزيادة شدة الأصوات التي تطلقها للتعويض وتجاوز التشويش الصوتي الحاصل، ولكن الأمر لا ينطبق على بقية الأنواع الأخرى، التي يصعب عليها تغيير ترددات أصواتها. على سبيل المثال، لدى الدلافين نظام تواصل يعتمد على التصفير، وهي بمثالة شفرة ثابته تدل على أسمائها وتستخدمها للتواصل مع بعضها البعض وتنسيق أنشطتها الاجتماعية، ولا نعلم كيف ستتكيف هذه الكائنات البحرية وغيرها مع الضوضاء الحاصلة اليوم في المحيطات.

ومن التأثيرات الأخرى للضوضاء الناتجة عن سفن وناقلات الشحن أنها تمنع الحيوانات البحرية من تحديد مواقع فريستها أو تجنب المناطق التي تحتوي على حيوانات مفترسة، حتى القوارب الصغيرة تؤدي إلى اضطراب بهذه الطريقة، خاصة بالنسبة لمجموعات الأسماك الصغيرة. ووفقًا للورقة، فإن هذه القوارب هي المصدر الأكثر شيوعاً للضوضاء في المحيط، وهي المسؤولة عن زيادة الضوضاء بنسبة 3% خلال الـ50 عاماً الماضية.

تعد التجارب الزلزالية وعمليات الحفر في قاع البحار مصدرين للضوضاء البشرية التي لا تحدث باستمرار؛ مثل ضوضاء سفن الشحن والقوارب، لكنها أكثر حدة عبر المكان والزمان.

تُستخدم التجارب الزلزالية لرسم خريطة لقاع البحر، وعادة ما تستخدم لغرض التنقيب عن مكامن النفط والغاز، وتتم عبر إطلاق مدافع من الهواء المضغوط على عمق عدة كيلومترات تحت السطح، ويحدث عنها انفجارات مفاجئة وصاخبة ومستمرة، وتشير الدراسات إلى أنها تؤثر على حاسة السمع لدى الحيوانات البحرية بشكل مؤقت ودائم، مما يؤدي إلى ضعف السمع أو التسبب في طنين في الأذنين مشابه للذي يحدث في أذن الإنسان عند سماع الأصوات الحادة، الا أنه في بعض الأحيان قد تتسبب هذه الأصوات الناجمة عن هذه الانفجارات بنفوق بعض الحيوانات البحرية خصوصاً المحيطة بمكان التفجير.

يوضح كوستا قائلاً: «في بعض الحالات، قد لا تكون الضوضاء بحد ذاتها سيئة؛ مثل عوامل الإجهاد البيئي الأخرى، ولكنها بلا شك ستؤثر سلباً على حياة الكائنات البحرية بشكل كبير في البيئات التي تعاني من قلة توفر الغذاء».

حلول تقليل الضوضاء

توثق الورقة على نطاق واسع تأثيرات ضوضاء المحيطات، كما تسلط الضوء على الحلول الممكنة لتقليلها، والتي قال البروفيسور دوارتي إنه تم اختبار معظمها، وهي متوفرة، وتحقق مجموعة من الفوائد.

اقترحت الورقة اعتماد إستراتيجيات لتخفيف الضوضاء تستهدف 15٪ من إجمالي عدد السفن التجارية وسفن الصيد التي تساهم بأكثر من نصف إجمالي ضوضاء المحيطات، ورغم أن هذه الجهود لن تمنع جميع الضوضاء البشرية، إلا أنها ستقلل منها ومن تأثيراتها اللاحقة.

تتمثل إحدى هذه الإستراتيجيات في بناء سفن بمواد مبتكرة تمتص الضغط الناتج عن تفاعل جسم السفينة مع الأمواج وبالتالي تخفف أو تمنع الضوضاء، وإحدى الطرق الأخرى هي عمل تعديل في تصميم السفن عبر تزويدها بتقنية نفاثة تقلل من الضوضاء والاهتزازات، واستشهد دوارتي بشركة ميرسك (Maersk)، وهي أكبر شركة لصيد الأسماك في العالم، لتركيبها مراوح للحد من الضوضاء في خمس من أكبر سفن الصيد الخاصة بها، ونتيجة لذلك، أصبحت سفن الشركة أكثر هدوءا وكفاءةً في استخدام الطاقة؛ وهو مكسب للجانبين يقلل من تكاليف النقل وكذلك انبعاثات غازات الاحتباس الحراري.

ومن بين الطرق الأخرى المستخدمة لتقليل الضوضاء الناتجة عن أنشطة التجارب الزلزالية وعمليات الحفر والتنقيب تحت سطح البحر هو نظام حاجز الفقاعات الهوائية، الذي يعتمد على نشر فقاعات هوائية حول منطقة العمل لتشكل حاجزاً منخفض التردد يعمل على كتم الصوت، وتظهر الدراسات الأولية لهذه الطريقة نتائج إيجابية.

يتم استكشاف العديد من الطرق والإستراتيجيات الواعدة الأخرى لتقليل الضوضاء البشرية في المحيطات، وتتضمن إحدى الطرق البديلة للتجارب الزلزالية التي يوصي بها البروفيسور دوارتي هو استخدام أصوات الحيتان لبناء نماذج ثلاثية الأبعاد لهيكل قاع البحر، يقول: «بدلاً من الاختبارات الزلزالية الضارة والمكلفة، يمكننا العمل مع الحيتان».

تغييرات ملهمة

شاركت طالبة الدكتوراه في «كاوست» والمؤلفة المشاركة ميشيل هافليك، وهي طالبة في مجموعة البروفيسور دوارتي، في الفريق بقيادة المؤلف المشارك الدكتور هاري هاردينغ من جامعة إكسيتر؛ الذي قام بجمع الأبحاث من أجل تأليف هذه الورقة، وقالت إنها كانت مهتمة بالأنماط الصوتية قبل أن تصبح طالبة في علم الأحياء البحرية، وتشعر بأنها محظوظة جداً لتضمينها في ورقة تبحث هذا المجال.

تقول هافليك: «فتحت هذه الورقة طيفاً من الأبحاث الفريدة عن أصوات المحيطات من جميع أنحاء العالم، وتنسيق مثل هذه الأبحاث على المستوى الدولي، وحتى الوطني، من شأنه التوعية بهذه المشكلات وتثقيف الناس بدور وتأثير الضوضاء البشرية على حياة الكائنات الحية».

صحة المحيطات

يعتقد دوارتي -الذي يعمل عضوا في لجنة رفيعة المستوى لاقتصاد المحيط المستدام؛ وهي هيئة من 14 دولة مكلفة من الأمم المتحدة لوضع جدول أعمال للأنشطة المستدامة للمحيطات- والمؤلفون المشاركون أن توقيت نشر ورقتهم البحثية مناسب جداً للدعوة لعقد المناقشات ودعم الجهود الدولية التي يمكنها وضع سياسات دعم صحة المحيطات، يقول دوارتي: «ينظر الاتحاد الأوروبي (EU) للمشهد الصوتي للمحيطات كعنصر أساسي في صحتها، ويعمل اليوم على جهود تنظيم ضوضاء المحيطات وتأثيرها على الثديات البحرية والنظم البيئية، ونأمل أن تساهم الأدلة المقدمة في ورقتنا، مع إجراءات التخفيف المقترحة، في تشجيع الدول الأخرى على الاستجابة لهذه المشكلة».

جدير بالذكر، أن مؤتمر تغيّر المناخ السنوي (COP26)، سيكون منصة مهمة لتنظيم أعمال صحة المحيطات، حيث يوضح دوارتي أن المحيطات ستحتل مكانة بارزة في جداول أعمال المناخ بسبب زيادة الوعي حول عواقب تغيّر المناخ على صحة المحيطات، بما في ذلك تأثيره على المشهد الصوتي، والحاجة الملحة لتطوير إستراتيجيات مستدامة لمعالجة هذه القضايا.