اضطراب سياسي جــديد في مــالــي...؟!
الأحد / 10 / ذو القعدة / 1442 هـ الاحد 20 يونيو 2021 00:04
صدقة يحيى فاضل
كثيرا ما يستولي الجيش في بعض البلاد، على السلطة عبر الانقلاب على الحكومة القائمة، ممثلا بقادته الكبار، الذين قد يشكلون مجلسا حاكما منهم (المجلس العسكري) يمارس الحكم، سرا وعلنا. وكثيرا ما ينفرد قائد معين منهم بالسلطة، مؤسسا حكما فرديا عسكريا، بعد تهميش واستبعاد بقية زملائه القادة، أو تصفية بعضهم. وفى أكثر الحالات، يقيم قادة الجيش «مرحلة انتقالية»، تنتهي بإجراء بعض الشكليات الديمقراطية، كعمل انتخابات رئاسية وبرلمانية، يتحكم الجيش غالبا في نتائجها، ليظهر النظام بقالب «مدني»، يخفي ديكتاتورية العسكر ويبقيها في الظل. وتعتبر معظم الديكتاتوريات العسكرية أكثر الديكتاتوريات فشلا وبطشا تجاه شعوبها، لامتلاكها وسائل الإكراه.
وفى العصر الحديث، كثرت الانقلابات العسكرية، واستيلاء العسكر على السلطة، في العالم النامي. وشهدت قارات أمريكا الجنوبية وأفريقيا وآسيا، عدة انقلابات، خاصة في النصف الثاني من القرن العشرين الماضي. ولكنها خفت منذ بداية القرن الواحد والعشرين. وهناك جيوش وطنية قامت بانقلابات ضد حكومات فاسدة وظالمة، وتولت السلطة مؤقتا. ثم أجرت انتخابات رئاسية وبرلمانية نزيهة... وسلمت السلطة لمن تم انتخابهم، وعادت إلى ثكناتها، مكانها الطبيعي. فالوضع الأصح هو أن يتفرغ الجيش للدفاع عن وطنه، ويخضع العسكر للقيادة المدنية الشرعية، وهو الأمر الذى تؤكد عليه الدساتير. وتلك الجيوش يحمد لها انضباطها، وحرصها على الدفاع عن وطنها ضد ما يهدده، دون التطلع للتسلط. ولكن هذا النوع من الجيوش أضحى نادرا في العالم الثالث. وإن وجد، دخل تاريخ بلاده من أوسع الأبواب. إذ يشار إليه، عنــدئذ، بأنه يمثل نموذج «القلة الديكتاتورية المصلحة».
****
وقد شهدت جمهورية مالي، يوم 18 أغسطس 2020، ثالث الانقلابات العسكرية، في تاريخها. وهي بلد مسلم، ومغلق يقع غرب أفريقيا، ويحسب من دول العالم الثالث الأكثر فقرا. استقلت مالي رسميا عن فرنسا بتاريخ 22/9/1960. ومنذ استقلالها، حصلت فيها ثلاثة انقلابات عسكرية، أعوام 1991، 2012، 2020. وقد لا يكون انقلاب 2020 آخرها. وتبلغ مساحتها 1.240.000كم2، معظمها صحراء. ويصل عدد سكانها لحوالى 15 مليون نسمة.
وبموجب أول دستور تبنته مالي، بتاريخ 19/11/1968، تم الأخذ بالنظام الديمقراطي الرئاسي. حصل بعد ذلك انقلاب. وعاد الحكم المدني بموجب دستور جديد، صدر عام 1974، واعتمد يوم 19/6/1979. ثم علق دستور 1974، حتى صدر الدستور المعمول به الآن، واعتبارا من 14/2/1992. ومؤخرا قام جنود من الجيش المالي، بزعامة العقيد عاسمي غويتا، بالإطاحة برئيس الدولة إبراهيم بوبكر كيتا، وإقالته، بادعاء فساد حكمه. وعرف الانقلابيون أنفسهم بأنهم «اللجنة الوطنية لإنقاذ الشعب»، ووعدوا بإجراء انتخابات عامة، رئاسية وبرلمانية، وإقامة حكومة مدنية.
وعين العسكر رئيسا مؤقتا للبلاد (باه نداو)، وكذلك رئيسا للوزراء (مختار وان) ووزيرا للدفاع (سليمان دوكوريه) لإدارة البلاد خلال الفترة الانتقالية، التي يفترض أن تستمر لمدة 18 شهرا من تاريخ الانقلاب. غير أن الانقلابيين أقدموا، يوم الاثنين 24 مايو2021، على اعتقال هؤلاء الثلاثة. الأمر الذي أعاد مالي إلى مرحلة الاضطراب، بعد تسعة أشهر من الانقلاب العسكري، ضد الرئيس السابق كيتا. وذلك بعد ساعات من الإعلان عن تعديل، لم يرق للحكام العسكر، في الحكومة، تم فيه استبدال اثنين من أفراد الجيش. ثم أطلقوا سراحهم، بعد عزلهم. وبعد إزاحة «باه نداو»، عين الكولونيل «عاسمي غويتا» نفسه رئيسا لمالي. الأمر الذي أثار رفضا محليا وإقليميا مدويا.
****
وكان كيتا قد فاز في انتخابات عام 2018 الرئاسية. واتهم عهده بالفساد، وسوء إدارة الاقتصاد، وانتشار الجماعات المسلحة الإرهابية المرتبط بعضها بتنظيم القاعدة، المتواجد في المناطق الصحراوية لمالي والدول المجاورة لها. ودانت الأمم المتحدة، في حينه، الانقلاب، ودانه الاتحاد الأفريقي والمنظمات الدولية ذات العلاقة، بقوة، ووصفته بأنه خروج مشين على الشرعية. وقام وفد منظمة غرب أفريقيا الاقتصادية (ايكواس) برئاسة «غودلاك جوناثان»، رئيس نيجيريا السابق، بزيارة لمالي، والتأكيد بأن «ايكواس» لا تعترف بانقلاب 28 أغسطس 2020، وأنه يجب: «العودة فورا للنظام الدستوري»، عبر حل تفاوضي سلمى بين الرئيس كيتا، والانقلابيين.
ولكن الانقلابيين رفضوا، في حينه، عودة كيتا، ووعدوا وفد «ايكواس» بأن يعيدوا الحكم المدني لمالي بعد فترة انتقالية، لا تتعدى السنة والنصف. ثم حصلت أزمة إقالة الرئيس المؤقت هذه، فزادت من تفاقم التوتر والاضطراب، مثيرة قلق دول الجوار من مخاطر المزيد من الانفلات الأمني والاضطراب في الجارة مالي. وقررت منظمة «ايكواس»، وكذلك «الاتحاد الأفريقي» تعليق عضوية مالي، حتى عودتها للحكم المدني المنتخب. اذ أعربت هذه المنظمات، وغيرها، عن خشيتها من تسبب التحرك العسكري الأخير، في استمرار السلطة بيد العسكر، حتى بعد انتهاء الفترة الانتقالية (فبراير 2022).
و«المعضلة» الآن ليست في إقالة «باه نداو»، وتولي «غويتا» رئاسة الدولة في الفترة الانتقالية. المشكلة هي أن يقوم العسكر، في نهاية الفترة الانتقالية، بإجراء انتخابات رئاسية... و«يفوز» فيها «غويتا»...؟!
****
وكان لهذه التطورات، وما زال، تداعيات محلية وإقليمية وعالمية هامة، لعل من أبرزها: التذكير بأن الديمقراطية الأفريقية ما زالت هشة. وأن ظاهرة الانقلابات العسكرية على الحكومات المنتخبة ما زالت موجودة، وما زال احتمال حدوثها واردا، رغم رفض المجتمع الدولي، ممثلا بالمنظمات الدولية، لهذه الانقلابات بشدة، وبقوة أكبر الآن. كما أن زيادة الانفلات الأمني، الذي تسببه هذه التطورات، يسهم في تمكين الجماعات الإرهابية، الخارجة على القانون، ويدعم تواجدها، لممارسة نشاطها غير المشروع. ومعروف، أن هناك جماعات دينية متشددة، مرتبطة بتنظيمي القاعدة والدولة الإسلامية (داعش)، تسيطر على مناطق شاسعة في الجزء التابع لمالي من الصحراء الكبرى، وتهدد أمن واستقرار مالي، والبلاد المجاورة لها. وهذه الجماعات لا تنشط إلا في ظل الأوضاع الأمنية المضطربة، وخاصة تلك التي تسود في الدول الفاشلة سياسيا.
وفى العصر الحديث، كثرت الانقلابات العسكرية، واستيلاء العسكر على السلطة، في العالم النامي. وشهدت قارات أمريكا الجنوبية وأفريقيا وآسيا، عدة انقلابات، خاصة في النصف الثاني من القرن العشرين الماضي. ولكنها خفت منذ بداية القرن الواحد والعشرين. وهناك جيوش وطنية قامت بانقلابات ضد حكومات فاسدة وظالمة، وتولت السلطة مؤقتا. ثم أجرت انتخابات رئاسية وبرلمانية نزيهة... وسلمت السلطة لمن تم انتخابهم، وعادت إلى ثكناتها، مكانها الطبيعي. فالوضع الأصح هو أن يتفرغ الجيش للدفاع عن وطنه، ويخضع العسكر للقيادة المدنية الشرعية، وهو الأمر الذى تؤكد عليه الدساتير. وتلك الجيوش يحمد لها انضباطها، وحرصها على الدفاع عن وطنها ضد ما يهدده، دون التطلع للتسلط. ولكن هذا النوع من الجيوش أضحى نادرا في العالم الثالث. وإن وجد، دخل تاريخ بلاده من أوسع الأبواب. إذ يشار إليه، عنــدئذ، بأنه يمثل نموذج «القلة الديكتاتورية المصلحة».
****
وقد شهدت جمهورية مالي، يوم 18 أغسطس 2020، ثالث الانقلابات العسكرية، في تاريخها. وهي بلد مسلم، ومغلق يقع غرب أفريقيا، ويحسب من دول العالم الثالث الأكثر فقرا. استقلت مالي رسميا عن فرنسا بتاريخ 22/9/1960. ومنذ استقلالها، حصلت فيها ثلاثة انقلابات عسكرية، أعوام 1991، 2012، 2020. وقد لا يكون انقلاب 2020 آخرها. وتبلغ مساحتها 1.240.000كم2، معظمها صحراء. ويصل عدد سكانها لحوالى 15 مليون نسمة.
وبموجب أول دستور تبنته مالي، بتاريخ 19/11/1968، تم الأخذ بالنظام الديمقراطي الرئاسي. حصل بعد ذلك انقلاب. وعاد الحكم المدني بموجب دستور جديد، صدر عام 1974، واعتمد يوم 19/6/1979. ثم علق دستور 1974، حتى صدر الدستور المعمول به الآن، واعتبارا من 14/2/1992. ومؤخرا قام جنود من الجيش المالي، بزعامة العقيد عاسمي غويتا، بالإطاحة برئيس الدولة إبراهيم بوبكر كيتا، وإقالته، بادعاء فساد حكمه. وعرف الانقلابيون أنفسهم بأنهم «اللجنة الوطنية لإنقاذ الشعب»، ووعدوا بإجراء انتخابات عامة، رئاسية وبرلمانية، وإقامة حكومة مدنية.
وعين العسكر رئيسا مؤقتا للبلاد (باه نداو)، وكذلك رئيسا للوزراء (مختار وان) ووزيرا للدفاع (سليمان دوكوريه) لإدارة البلاد خلال الفترة الانتقالية، التي يفترض أن تستمر لمدة 18 شهرا من تاريخ الانقلاب. غير أن الانقلابيين أقدموا، يوم الاثنين 24 مايو2021، على اعتقال هؤلاء الثلاثة. الأمر الذي أعاد مالي إلى مرحلة الاضطراب، بعد تسعة أشهر من الانقلاب العسكري، ضد الرئيس السابق كيتا. وذلك بعد ساعات من الإعلان عن تعديل، لم يرق للحكام العسكر، في الحكومة، تم فيه استبدال اثنين من أفراد الجيش. ثم أطلقوا سراحهم، بعد عزلهم. وبعد إزاحة «باه نداو»، عين الكولونيل «عاسمي غويتا» نفسه رئيسا لمالي. الأمر الذي أثار رفضا محليا وإقليميا مدويا.
****
وكان كيتا قد فاز في انتخابات عام 2018 الرئاسية. واتهم عهده بالفساد، وسوء إدارة الاقتصاد، وانتشار الجماعات المسلحة الإرهابية المرتبط بعضها بتنظيم القاعدة، المتواجد في المناطق الصحراوية لمالي والدول المجاورة لها. ودانت الأمم المتحدة، في حينه، الانقلاب، ودانه الاتحاد الأفريقي والمنظمات الدولية ذات العلاقة، بقوة، ووصفته بأنه خروج مشين على الشرعية. وقام وفد منظمة غرب أفريقيا الاقتصادية (ايكواس) برئاسة «غودلاك جوناثان»، رئيس نيجيريا السابق، بزيارة لمالي، والتأكيد بأن «ايكواس» لا تعترف بانقلاب 28 أغسطس 2020، وأنه يجب: «العودة فورا للنظام الدستوري»، عبر حل تفاوضي سلمى بين الرئيس كيتا، والانقلابيين.
ولكن الانقلابيين رفضوا، في حينه، عودة كيتا، ووعدوا وفد «ايكواس» بأن يعيدوا الحكم المدني لمالي بعد فترة انتقالية، لا تتعدى السنة والنصف. ثم حصلت أزمة إقالة الرئيس المؤقت هذه، فزادت من تفاقم التوتر والاضطراب، مثيرة قلق دول الجوار من مخاطر المزيد من الانفلات الأمني والاضطراب في الجارة مالي. وقررت منظمة «ايكواس»، وكذلك «الاتحاد الأفريقي» تعليق عضوية مالي، حتى عودتها للحكم المدني المنتخب. اذ أعربت هذه المنظمات، وغيرها، عن خشيتها من تسبب التحرك العسكري الأخير، في استمرار السلطة بيد العسكر، حتى بعد انتهاء الفترة الانتقالية (فبراير 2022).
و«المعضلة» الآن ليست في إقالة «باه نداو»، وتولي «غويتا» رئاسة الدولة في الفترة الانتقالية. المشكلة هي أن يقوم العسكر، في نهاية الفترة الانتقالية، بإجراء انتخابات رئاسية... و«يفوز» فيها «غويتا»...؟!
****
وكان لهذه التطورات، وما زال، تداعيات محلية وإقليمية وعالمية هامة، لعل من أبرزها: التذكير بأن الديمقراطية الأفريقية ما زالت هشة. وأن ظاهرة الانقلابات العسكرية على الحكومات المنتخبة ما زالت موجودة، وما زال احتمال حدوثها واردا، رغم رفض المجتمع الدولي، ممثلا بالمنظمات الدولية، لهذه الانقلابات بشدة، وبقوة أكبر الآن. كما أن زيادة الانفلات الأمني، الذي تسببه هذه التطورات، يسهم في تمكين الجماعات الإرهابية، الخارجة على القانون، ويدعم تواجدها، لممارسة نشاطها غير المشروع. ومعروف، أن هناك جماعات دينية متشددة، مرتبطة بتنظيمي القاعدة والدولة الإسلامية (داعش)، تسيطر على مناطق شاسعة في الجزء التابع لمالي من الصحراء الكبرى، وتهدد أمن واستقرار مالي، والبلاد المجاورة لها. وهذه الجماعات لا تنشط إلا في ظل الأوضاع الأمنية المضطربة، وخاصة تلك التي تسود في الدول الفاشلة سياسيا.