كتاب ومقالات

ظلال على خارطة البوح

منى المالكي

بداخل كل منا صوت هامس يبوح له، يحاوره، يسأله، لكنه يظل سرا صعبا إفشاءه، عندما يكسر الصوت حاجز الصمت فيرسم الظل حضوره على الورق أو شاشة المحمول هنا ترتسم الظلال بوحاً يشاركك الجميع أسراره وخفاياه، وهنا أيضا يظهر حضور المتلقي قويا يكسر حدود التأويل ويوسع آفاق المجازات!

يذهب فيني جيرار في كتابه «الكتابة والإقناع» إلى أن العلاقة بين المنشئ والمتلقي هي علاقة مبنية على عدم اليقين، بحيث إن الكاتب وهو ليس متأكدا من نوايا القارئ، كما أن القارئ وهو يقرأ ليس متيقنا من مقاصد الكاتب، فالعلاقة بين الطرفين تقوم على الشك والاحتمال أصلا، وهذا يعود إلى طبيعة الخطاب الأدبي وإلى عملية التلقي من جهة ثانية، فالعلاقة متأرجحة تقوم على الشك والسؤال، وبذلك يحقق النص الإبداعي تميزه بقدر ما يكون قادرا على تعدد التأويلات وإثارة التساؤلات!

ولكن لابد أن يرتكز النص الإبداعي على نقطة انطلاق معينة، تمثل الخيط الذي إذا لم يقبض المتلقي على رأسه تاه وخرج بلا نتيجة وهنا يظهر الغموض عقبة لتلقي الشعر الحديث مثلاً مع أن الغموض الشفيف ميزة إن استطاع الشاعر إشعال ناره المقدسة ليستضيء بها الحيران في ليالي الشعر المدلجة!، وهذا ما يسميه الجابري الوصل والفصل عندما يتحدث عن قراءة التراث مثلا يقول: «اندماج الذات في التراث شيء آخر أن يحتوينا التراث شيء، وأن نحتوي التراث شيء آخر... إن القطيعة التي ندعو إليها ليست القطيعة مع التراث بل القطيعة مع نوع من العلاقة مع التراث، القطيعة التي تحولنا من كائنات تراثية إلى كائنات لها تراث»، بمعنى أن يكون المتلقي قادرا على الاندماج في النص ليعيش أجواءه، وأن يكون قادرا بعد ذلك على الانسحاب منه بمسافة فاصلة تسمح له بأن يحركه في رحابة ذهنية، وهذا بالضبط ما يشكله النص الإبداعي الذي يعتبر جزءا أصيلا من تراثنا!

المحافظة على المسافات هو ما يحقق قدرة تأثير الخطاب الأدبي على المتلقي، وهذا يحتاج منا الوعي بكيفية التعاطي مع هذه النصوص، والوعي بدرجة عالية من حضور الذهن والالتقاطات الذكية لما يطرحه الخطاب، فحضور خطاب واضح المعالم لا يحتاج إلى جهد مثل «خطاب التواصل الاجتماعي» بجميع أشكاله أدى إلى كسل ذهني وغياب وعي وهو ما سيشكل الذهنية القادمة إن لم نتدارك ذلك.

المتلقي حلقة قوية في خارطة البوح والاعتناء بحضوره أصيل في نفس المبدع الذكي وإن كان مولانا أبوتمام له موقف مخالف عندما رد على أبي العميْثَل عندما قال له: لمَ لا تقول ما يُفهَم؟ فأجابه: ولمَ لا تفهم ما يُقال؟ ولكن هذا لا ينطبق على أبي تمام فليس من شك في أن الذين سبقوا أبا تمام كانت شعريتهم بسيطة وسهلة حتى جاء أبو تمام فساق الشعرية العربية إلى خرائط بوح لم تألفها بعد.