ثقافة وفن

لغة منيف وتجليات كورونا تحت مجهر المفرّح ومشرط الحضرين

ملتقى الرواية يرصد تضخّم القصة

غلاف الرواية.

علي الرباعي (الباحة) Al_ARobai@

يواصل ملتقى الرواية السادس في أدبي منطقة الباحة أعمال يومه الثالث بأوراق متخصصة لم تبتعد عن ملامسة الواقع وتقصي متاعب الإنسان، وتقاطعت مع الشاغل اليومي والمعيشي، ففي الوقت الذي يضج العالم بأخبار وتداعيات وباء كورونا، وضعت الناقدة الدكتورة حصة المفرّح الأوبئة تحت مجهر نقدها، واستقصت في ورقتها تجليات الأوبئة في الرواية العربية بين الواقع والتخييل، وعدّت الأوبئة من أهم المؤثرات في تشكيل الوعي الإنساني، والتاريخ الأدبي؛ إذ تناولها الأدباء في أعمال تصور المعاناة الإنسانية، فغدت مصدراً للإلهام الإبداعي ومادة موضوعية مهمة للسرد، وأكدت المفرح أنه برغم اختلاف التعامل مع الأوبئة من منظورات عدة؛ فإن الأدب يتخذ لنفسه وجهة مغايرة، إذ لا يعتزم -كعادته- تقديم حلول ممكنة لمواجهة الوباء؛ كونه ليس هدفًا من أهدافه، وإنما يتجه نحو تصوير التجربة الوبائية بتفاصيلها الدقيقة، وكيفية تعامل الإنسان معها بوصفه مستهدفًا ضمن هذه التجربة وجزءًا منها. وأوضحت أن علاقة الرواية بالأوبئة تنطلق من كون الرواية ترتبط بالواقع وإن ابتعدت عنه، وباعتبار السرد جزءا من التجربة الإنسانية الواقعية بثرائها، ويعتمد التخييلية الإبداعية من جهة ثانية. ومايزت في ورقتها بين الروايات التي تستند على أوبئة واقعية يمكن أن تشكل فيها الأوبئة رمزًا أو استعارة وتظل محتفظة بهذا البعد الواقعي الذي نعنيه، والروايات الأخرى التي تطرح وباء متخيلًا لم يمرعلى تاريخ البشرية، أو تتعامل مع ظاهرة واقعية أو مرض فتجعله وباء منتشرًا بفعل تخييلي يذهب به إلى أبعاد أخرى، وقد يكون الوباء فكرة استشرافية تخييلية حين تكتب الرواية عن الوباء قبل حدوثه، واستخلصت سرديات للوباء عبر الروايات التاريخية أو ذات البعد التاريخي، وروايات الخيال العلمي، وروايات الديستوبيا (المدينة الفاسدة)، لأنها من الأنواع المندرجة تحت أدب الخيال العلمي، وهذا النوع من الروايات عادة يصور الهروب من الوباء إلى الوباء، والروايات/‏السرديات البيئية، والسرديات البينية، وفيها تداخل السرد مع العلوم الأخرى مثل الطب، والمعارف الأخرى، والسرديات التنبؤية، بالنظر إلى الزمن الروائي داخل الرواية والزمن الواقعي خارجها بما بينهما من علاقتي الاتصال والانفصال في الوقت نفسه، فالزمن الروائي له حضوره المختلف عن الزمن الواقعي إلا أنه لا يمكن أن ينفصل تمامًا عن ذلك الزمن، وسرديات الوباء أو السردية الوبائية. ولفتت إلى استدعاء الوباء الواقعي/‏تأريخ الوباء: بوصفه حدثًا واقعيًا مباشرًا يظهر في فترة زمنية ما تستدعيها الرواية، فيكون استدعاء الوباء جزءًا من استعادة ذلك الزمان. وعدته النموذج الواقعي للوباء في بعض الروايات إذ يظهر متجانسًا مع البعد الواقعي له عبر رصد الواقع من خلال التركيز على أوبئة حدثت بالفعل في تاريخ البشرية، ليضعنا أمام تأريخ للوباء يتضمن توثيقه وعرض الأحداث الواقعية المتصلة به، إضافة إلى مسار تخييل الوباء الواقعي وربطه بالحاضر: ومن مظاهر تخييل الوباء أن يكون شخصية روائية كما في إيبولا؛ الوباء شخصية رئيسة تفكر وتخطط وتتحرك حتى توقع بضحاياها الواحد تلو الآخر وكأن الوباء/‏الشخصية يغدو مكشوفًا أمام القارئ يعرف خفاياه وأدق تفاصيله. ويغدو الوباء أو الفايروس المسبب له هو الراوي نفسه كما في رواية (هواء فاسد) لأحمد خالد توفيق، كما حضر الوباء في رواية ربيع جابر (أمريكا 2010) ولم يكن حضوره جانبيًا هامشيًا؛ إذ شغل مساحة لا بأس بها من الأحداث وارتبط بالفترة الزمنية التاريخية/‏الواقعية بين عامي 1918-1920، وتميزت بوضع حد لهذا الوباء وتوقع نهايته، وتحويلها إلى ذكرى وتاريخ ماض سرعان ما يختلط بواقع أو حاضر مختلف.

وذهبت إلى أن استشراف الوباء الواقعي (مستقبل يرتبط بالواقع): يضيف للرواية بعدًا زمنيًا ثالثًا هو المستقبل. فالوباء هنا فكرة استشرافية تخييلية حين تكتب الرواية عن الوباء قبل حدوثه، ولا يمكن إغفال دور الجانب العلمي الطبي في تحقيق هذا الاستشراف نحو المستقبل؛ فالأمر لا يتعلق برواية قادرة على استشراف المستقبل فحسب، بل بمدى استفادة هذه الرواية من كتابات علمية تستشرف بدورها وقائع وتصورات علمية مبنية على خبرة متراكمة في المجال العلمي الطبي، ما يمكن أن يرتبط به مستقبلًا والتصورات العلمية للحياة، وتراها تجارب ثرية ومستمرة دون توقف وتتجانس مع سيرورة الزمن كما في رواية إيبولا.

وكشفت الورقة عن سرد يشكّل الوباء/‏وباء غير موجود في الواقع (مستقبل ينفصل عن الواقع): كما في السؤال الذي تطرحه رواية (حرب الكلب الثانية) لإبراهيم نصرالله: كيف يمكن أن يكون الطب والاكتشافات العلمية أداة من أدوات الهيمنة؟ باعتبار السؤال إشكالية لفتت انتباه عدد من المفكرين والفلاسفة والمؤرخين والنقاد في إطار تناولهم خطاب المرض وتداعياته الفلسفية والفكرية.

فيما شرّح الناقد الدكتور محمد علي الحضرين بمشرطه الفني مستويات اللغة في رواية (الآن هنا... أو شرق المتوسط مرة أخرى) للروائي عبدالرحمن منيف، وعدها محاولة استظهار معطيات تفاعلها الفني والاجتماعي، والموقف النقدي منها، وطبيعة المستوى اللغوي الذي انتحاه الشاعر فصيحا كان أم عاميا. مستلهماً أنحاء النظرة التداولية، ومحدداتها التخاطبية.

وأوضح الحضرين أن الازدواجية اللغوية (الفصيحة/‏‏العامية) من أبرز مظاهر النص الروائي عند عبدالرحمن منيف، ويراه ازدواجاً يفرز عدة مآخذ، منها تسويغ مسألة اختلاط العامي بالفصيح في النص السردي والروائي بحجة الواقعية اللغوية، ومحاكاة الواقع اللهجي، وانعدام مسألة التجانس اللغوي، واضطراب مستويات اللغة، وهشاشة البناء اللغوي، وانحراف وحدة الثقافة؛ إذ إن ذلك مرهون بوحدة اللغة. وذهبت الورقة إلى أن إدراك القاص ماهية اللغة الفصيحة إدراكا بوصفها الجمالي، والتداولي، وامتدادها الزماني والمكاني هو ما يكرس وجودها في النص الروائي والقصصي. وعدّ الانحراف عنها قصورا في قدرته على إدراك أوصافها تلك. وكشف أن الراسم الكلي للغة الشعر، ولغة الرواية سمته الأدبية التي تجنح بالضرورة إلى مفارقة الواقع، إلا أن لغة الرواية والسرد بشكل عام مفارقة إلى حد كبير للغة الشعر رغم اتصافها بالأدبية، إذ إن الأدبية متحينة للواقع، ومؤاتية له إلى حد كبير، ما يولّد إشكالا يحتاج إلى برهنة نقدية موضوعية.

واستظهرت الورقة في محور الحديث عن لغة الرواية أن عبدالرحمن منيف (كاتب صبور متمكن ذو نفس طويل) ينزع إلى المفردة الفصيحة عندما يكون ساردا، ويزاوج بين العامي والفصيح عندما يكون محاورا، ما يشكل -رغم اتسامها بالمباشرة- لغة مرتبكة مجافية للاتساق والانسجام. وتحفّظ على اعتبار العامية مستوى من مستويات اللغة العربية الفصيحة؛ كونها ليست مكونا من مكوناتها، وعلاقتها بها علاقة انحراف عن أصل لا علاقة تبدل وتطور، والانحراف عن الأصل لا يشكل مستوى منه. لافتاً إلى ما نجم عن ذلك من تعدد واستغلاق، وأزمة تلقٍّ نتيجة لذلك التعدد اللهجي المتسع والمتباين، ما يضع أمامنا مدّين لغويين متصارعين، يتمثلان في: مد اللغة العربية الفصيحة، ومد اللهجة العامية الدارجة وإن كان قليلاً جدا.

وتقصى الحضرين مد اللغة العربية الفصيحة المتمثل في المستوى المعياري، ليخرج من هذا المستوى مستويان آخران: مستوى اللغة الفصحى (المثالية)، ومستوى اللغة الفصيحة (المعاصرة)، والمستوى الآخر هو مستوى عربية المثقفين: وهذا المستوى يقدم اللغة في أدنى شرطها اللغوي والتقعيدي؛ ويظهر أن دافعها التعالق السياسي، الذي يجد في حوارية العامية نجاعة لتصوير أحداثها المؤلمة. وتلامس الورقة النسق المضمر بما تضمنه من: السلطة/‏‏الوعي، وما بينهما من تلازم تضاد لا تلازم اتفاق وانسجام، ما يرجح تسبب ازدواجية اللغة عند منيف في ذلك، كون السلطة تتمثل في ذلك الشرطي الجاهل الذي لا يحسن غير التعذيب والبطش. ويفسر بعض الباحثين -وأراه محقا في تفسيره- أن «هزيمة 67» كانت حدا فاصلا في حياة الرواية العربية؛ فتبنى البعض الازدواجية في الرواية (الفصحى/‏‏العامية/‏‏الأجنبية) والتعالق الفكري، وهو تعالق فرضته خلفية الكاتب المتمردة، تعالق يتشظى في كل اتجاه، داخل شخصية الكاتب في منظورها السياسي، وفي منظورها الاجتماعي والثقافي. وأوضحت الورقة أن التمظهرات السياقية في التلفظ العامي تتبدى في البُعد التداولي في جانب النزق اللفظي الوارد في سياق التوبيخ والشتم والانتقاص مثل: «الله لا يسلم فيك عظم يا بن الحرام»، و «الله، يا بن الحرام لأخليك تشتهي الموت وما تحصله، ها لحين حضر نفسك».

ويرى أن هذا المد اللغوي منحاز إلى الجانب الأسوأ، ويمثل لغة دونية مجافية لطبيعة التواصل (السوقي) فكيف بغيره في جوانب وظائف اللغة الأخرى. ولاحظ أنه يضعها دائما على لسان شخصية الشرطي (المساعد خليل) وهو محمول دلالي يستلزم دلالة نسقية تصف ذلك المحقق بشكل ضمني بالجهل، وقلة المعرفة وانعدام الثقافة، وسلاطة اللسان وبذاءته. ما يخلق مغايرة ثقافية في شخوص الرواية مؤداها أن من يملك زمام الأمور ليس جديرا بها، ولا مؤهلا لها، ويتمظهر البعد التداولي في جانب المأساة، وفي حالة حوار الذات، وحالة الخلوص إلى التواصل البيني. وخلص إلى أن طبيعة لغة الرواية المعنية بالنظر تساوقت إلى حد ما مع نظرة بعض النقاد في قبولهم مستويين للغة النص الروائي، السرد ولغته الفصحى، والحوار ولغته العامية، وتخطت قليلا في موطن حوارية الذات، أو ما يسمى بالمونولوج الداخلي، إتماماً لحدث معين. ويرى الناقد أن عبدالرحمن منيف لم يكن بدعا من الكتاب في هذه الازدواجية.

وقدم الناقد الدكتور أحمد العدواني في ملتقى الرواية السادس ورقة رصد من خلالها تداخل القصة القصيرة مع الرواية، استناداً إلى مبدأ التناص الذاتي الذي يقوم على التوسيع والنشر، ليتحوّل النص القصير إلى حجم أكبر، إذ تستند الرواية إلى قصة قصيرة كتبها الروائي نفسه في مرحلة سابقة، مع وعيه التام بذلك وقصده إليه، سواء من خلال تصريحه، أو وجود قرينة واضحة تدل على ذلك. ولفت إلى انطلاق معظم التجارب الروائية من كتابة القصة القصيرة قبل الانتقال لكتابة الرواية. ويرى العدواني أن الدوافع وراء ذلك تختلف بين دلالية وفنية وشخصية، إذ ربما يكون إحساس الكاتب بعدم تحقيق الإشباع الدلالي من خلال القصة القصيرة في صدارة تلك الدوافع، إضافة إلى قناعته بعدم تحقيق المعايير النوعية للقصة القصيرة، أو ارتباط الموضوع بجوانب سيرية للمبدع، أو الرغبة في تحقيق السيرورة من خلال الجنس الروائي الأقوى حضوراً.

ورصد العدواني أبرز خمس علاقات تتضخم فيها القصة القصيرة لتصبح رواية من خلال: التأطير، والتوازي، والتكرار، والتراكم، والتحوير، لتتحقق العلاقة المثالية بين القصة القصيرة والرواية في التوازي الذي يعكس وعياً نوعياً لدى المؤلف، ليغدو إيقاع الرواية موازياً لإيقاع القصة القصيرة بشكل واضح، فتتضمن الرواية غالب نصوص القصة القصيرة ومكوناتها الحكائية. وعدّ (التحوير) أضعف مستويات العلاقات، إذ يكون الحضور الصريح للقصة القصيرة ضمن بنية الرواية محدوداً، في مقابل شيوع التعالق الضمني بينهما، مع تغيير ملحوظ في بنية الرواية.