كتاب ومقالات

الانقضاض من الفضاء ؟!

طلال صالح بنان

حدث هذا الشهر، خلال عشرة أيام، اختراقٌ تكنولوجي، بعيداً عن الدولة، هذه المرة، للصعود إلى أطراف الغلاف الجوي، والعودة إلى الأرض. اللافت أن صاحبي شركتي فيرجن كلاتيك ريتشارد برانسون (بريطاني) وأمازون جيف بيزوس (أمريكي)، كانا ضمن الفريق المكون لطاقم الرحلتين الفضائيتين التجريبيتين. لا أحد يعرف (بالضبط) ما كانا يفكران فيه وهما يُطلان على كوكب الأرض من خارج الغلاف الجوي، وبعد أن تحررا من جاذبية الأرض لدقائق.

بالتأكيد: لم يكن تفكيرهما يقتصر على إمكانات مشروعهما السياحي والتجاري الواعد. بل ولا حتى الاهتمام بالبيئة والقلق على مستقبل الحياة وتنوعها على الأرض، كما يزعمان. ربما كان في تفكيرهما استخدام ثرواتهما لما هو أبعد من مجرد الربح المادي، تطلعاً للسلطة وإحداث تغييرات جذرية في فلسفتها.. ومنطق السياسة.. وتاريخية الحكم، لإحداث تحولات تاريخية غير تقليدية، تتجاوز احتمالات حكم مجتمعاتهم، إلى طموحات بعيدة للهيمنة الكونية.

بالقطع: «سيناريو»، مثل هذا، يحتاج لدلائل مادية كمية يمكن قياسها لرفض أو تأكيد فرضيته، لكن المغامرة ليست بريئة، تماماً. الخطورة هنا: في امتلاك ناصية تكنولوجيا متقدمة كانت حكراً على (الدولة) بمؤسساتها العسكرية، لأسباب إستراتيجية، وإن اختبأ ذلك وراء أقنعة وأستار علمية، في سباق محموم للسيطرة على الفضاء، كأحد الأدوات في صراع الدول العظمى على مكانة الهيمنة الكونية، وتعزيز أمنها القومي.

تكنولوجيا متقدمة، مثل هذه، اخترقتها شركات خاصة عملاقة، وربما تحتكر تطورها، للمنافسة في مضمار كان السَبقُ فيه حكراً على الدول العظمى وأنظمتها ونخبها السياسية، التي كانت مدفوعةً بأيديولوجيات وفلسفات وقيم متضاربة تعكس ثقافات، تاريخياً، أُستنفدت في صراع حضاري ووجودي بينها.

الخطر هنا: يتمثل في احتمالية تطور شمولية سلطوية لهذه النخبة الرأسمالية، التي تعتمد في انقضاضها على السلطة من الفضاء، على جدارة وإمكانات ذاتية، بعيدة عن مصادر شرعية السلطة التقليدية للدول.. وقواعد محاسبتها، وآليات تداولها. عندها لن تكون هناك مشاركة سياسية.. ولا منافسة لشغل مناصب ومسؤوليات عامة.. ولا حتى مؤسسات سياسية.. ولا صيغة متوازنة للفصل بين السلطات.. ولا منظمات لمجتمع مدني.. ولا معارضة.. ولا صحافة حرة، ولا أي شكل من أشكال الالتزامات السياسية والاجتماعية.. دعك من الحديث عن دستور، ينتج عن عقد اجتماعي ملزم.

عالمٌ جديدٌ تماماً تستمد شرعية السلطة فيه من إبداع وسطوة رأسمال. عندها الدولة تزول بدستورها.. ومؤسساتها السياسية.. ونخبها التقليدية، بل وحتى فلسفة ومنطق وجودها. لتتولى شركات عملاقة السلطة، بمجالس إداراتها وملاكها المعدودين، الذين قد يتقلصون إلى مالكٍ أوحد، وحفنة صغيرة من حملة الأسهم، لا دور لهم في الإدارة.

سيناريو شبيه لـنظرية ماركس بحتمية زوال الدولة، مع فارقٍ كبيرٍ. المآل: في هذا التحول ليس إقامة مجتمعٍ «حُرٍ» بديل عن الدولة، ولا زوالَ حتمياً للرأسمالية.

مستقبل غامض ومخيف للإنسانية.