قايضتُ بالكُتب كلّ الدّنيا ولستُ نادماً على شيء
الجمعة / 05 / محرم / 1443 هـ الجمعة 13 أغسطس 2021 00:03
كمال العيادي الكينغ
خلال سنة 1996، وخلال زيارته لميونخ بألمانيا، حيث أقيم، طلب منّي الصّديق الروائي المصريّ جمال الغيطاني، رحمه الله، إعداد ملف لملحق البستان بجريدة أخبار الأدب، عن علاقة المبدعين العرب بالكِتاب، وراسلتُ أيامها عشرات المبدعين الكبار وكان من ضمن الأسئلة، سؤال: «عمّا إذا كنت تتذكّر عنوان أوّل كتاب أدبيّ قرأته؟»، ووصلتني الكثير من الرّدود التي راوحت أيّامها بين الفيض والادعاء، ولكنني لم أجد بينها أيّة إجابة عن سؤالي هذا الذي كنتُ في الحقيقة دسسته بمكر ضمن الأسئلة، لغاية في نفس يعقوب. ولقد فعلتُ ذلك، وكنت على يقين مُسبقًا بأنّني لن أتلقى إجابة، لأنني كنت أعتزّ دائمًا بأنّني أتذكّر جيّدًا عنوان أوّل كِتاب أدبيّ قرأته في طفولتي. وما كان ينبغي لي أن أنساه على أيّة حال.
حدث ذلك سنة، 1978 وكان لي من العمر عشر سنوات وتزيد بأشهر قليلة، وكنت في طريقي إلى المدرسة الابتدائيّة بالمنصورة بالقيروان، حين عثرت عليه. كان كتابًا ضخمًا، ممزقّ الصّفحات ودون غلاف، ملقى على جانب الرّصيف، وكانت الصّفحات الأولى منه مبلّلة بزيت أخضر، عرفت بالخبرة فورًا أنّه زيت ملوخيّة تونسيّة، عرفت ذلك من بقايا الرّائحة وشكل توزيعه الشّفاف على مساحة الورق وخبرتي التي اكتسبتها من تلطيخ كرّاساتي بزيوت أكل الوالدة يرحمها الله. نسيت يومها المدرسة كليًّا، وانهمكتُ بكلّ لهفة ودهشة على ما تبقى من هذا الكنز الورقيّ الذي بين يدي. بعد أن مزّقت بحذر الصّفحات المُلطّخة الأولى والأخيرة منه. والحقيقة أنه كان يتجاوز الخمسمائة صفحة، تبدأ من الصّفحة الخمسين تقريبًا، ولم أكن أعرف أيّامها في ذلك السّنّ المُبكّر، أنّ ما وقع بين يدي هي إحدى الطّبعات المصريّة القديمة نسبيًا، لكِتاب «الحيوان للجاحظ». أولّ كِتاب غيّر مجرى حياتي للأبد.
أذكر كلّ ذلك بالتفصيل الآن، لأنّ أخي الأكبر فاجأني يومها (وقد تغيبت عن المدرسة طبعًا) وأنا مقرفص أقرأ ما بين يدي، وأحاول فكّ طلاسم وأحاجي المئات من العبارات التي لم أكن أتصوّر أنّها يمكن أن تكون عربيّة أصلاً. وطبعًا، ضربني أخي أكرمه الله ضرب من يرى شقيقه الأصغر يهم بأن يبيع للتّوّ حياته ويتبع غواية الشّيطان وطريق اللاّ رجوع والخسارة. وفعلاً. كان أخي على حقّ، فمن يومها نفث الجاحظ سحره العذب في روحي المندهشة الطّريّة المُستفَزَة، فقايضتُ بالكُتب كلّ الدّنيا وخيّبت أحلام الأهل في أن أصبح ضابطًا في الجمارك أو محاميًا أو قاضيًا أو طبيبًا أو مهندسًا، رغم تفوقي المذهل في الدّراسة، عبر كلّ مراحلها. وسلكت طريقًا لا عودة منه، طريق الكتابة والكُتب وعشق الحرف والنّصوص الفصوص والتّيه في أودية وبحور الشّعر والسّرد والحكاية الفاتنة والعبارة المارقة، ووالله، لوّ خيّروني اليوم مليون مرّة، لاخترت الطّريق نفسه. فمهنة الكاتب، على كلّ الشّقاء الذي يصاحبها، وعلى تداخلها وضبابيّتها وعدم الاستقرار النّفسيّ ولا الماديّ ولا حتّى الاجتماعيّ فيها. فضلاً عن أخطار عقم بذورها المحتمل، وطول انتظار مواسم حصاد وجني ثمارها التي قد لا تكون ولا تتحقّق خلال حياة الكاتب أصلاً، رغم ذلك، فهي أروع وأجمل مهنة وأنبلها. وأحسّ بل أعرف بأنّه لو مرّ يوم واحد ولم أكتب فيه ولو صفحة واحدة وأسودها بالملاحظات والخربشات والهوامش، ولم أقرأ فيه بالمقابل خمسين صفحة على الأقلّ من كتاب ورقي وأشمّ رائحته وأنا أتصفّحه، فمن الممكن أن أفقد أعصابي. نعم. يمكن أن أصرحّ علنًا، ودون خجل بأنّني مُدمن للقراءة الورقيّة. وأنّني رغم ضعف بصري، أستطيع حتى لو حدث وأنّني لم أجد نظّارتي الطّبيّة، كما يحدث كثيرًا معي، أن أقرأ نصف الجمل بعيني الواهنة، ونصفها الآخر بقلبي، وخاصة إذا كانت من بين بعض الكُتب التي أعيد قراءتها منذ ربع قرن باستمرار، ولا أملّ منها.
حدث ذلك سنة، 1978 وكان لي من العمر عشر سنوات وتزيد بأشهر قليلة، وكنت في طريقي إلى المدرسة الابتدائيّة بالمنصورة بالقيروان، حين عثرت عليه. كان كتابًا ضخمًا، ممزقّ الصّفحات ودون غلاف، ملقى على جانب الرّصيف، وكانت الصّفحات الأولى منه مبلّلة بزيت أخضر، عرفت بالخبرة فورًا أنّه زيت ملوخيّة تونسيّة، عرفت ذلك من بقايا الرّائحة وشكل توزيعه الشّفاف على مساحة الورق وخبرتي التي اكتسبتها من تلطيخ كرّاساتي بزيوت أكل الوالدة يرحمها الله. نسيت يومها المدرسة كليًّا، وانهمكتُ بكلّ لهفة ودهشة على ما تبقى من هذا الكنز الورقيّ الذي بين يدي. بعد أن مزّقت بحذر الصّفحات المُلطّخة الأولى والأخيرة منه. والحقيقة أنه كان يتجاوز الخمسمائة صفحة، تبدأ من الصّفحة الخمسين تقريبًا، ولم أكن أعرف أيّامها في ذلك السّنّ المُبكّر، أنّ ما وقع بين يدي هي إحدى الطّبعات المصريّة القديمة نسبيًا، لكِتاب «الحيوان للجاحظ». أولّ كِتاب غيّر مجرى حياتي للأبد.
أذكر كلّ ذلك بالتفصيل الآن، لأنّ أخي الأكبر فاجأني يومها (وقد تغيبت عن المدرسة طبعًا) وأنا مقرفص أقرأ ما بين يدي، وأحاول فكّ طلاسم وأحاجي المئات من العبارات التي لم أكن أتصوّر أنّها يمكن أن تكون عربيّة أصلاً. وطبعًا، ضربني أخي أكرمه الله ضرب من يرى شقيقه الأصغر يهم بأن يبيع للتّوّ حياته ويتبع غواية الشّيطان وطريق اللاّ رجوع والخسارة. وفعلاً. كان أخي على حقّ، فمن يومها نفث الجاحظ سحره العذب في روحي المندهشة الطّريّة المُستفَزَة، فقايضتُ بالكُتب كلّ الدّنيا وخيّبت أحلام الأهل في أن أصبح ضابطًا في الجمارك أو محاميًا أو قاضيًا أو طبيبًا أو مهندسًا، رغم تفوقي المذهل في الدّراسة، عبر كلّ مراحلها. وسلكت طريقًا لا عودة منه، طريق الكتابة والكُتب وعشق الحرف والنّصوص الفصوص والتّيه في أودية وبحور الشّعر والسّرد والحكاية الفاتنة والعبارة المارقة، ووالله، لوّ خيّروني اليوم مليون مرّة، لاخترت الطّريق نفسه. فمهنة الكاتب، على كلّ الشّقاء الذي يصاحبها، وعلى تداخلها وضبابيّتها وعدم الاستقرار النّفسيّ ولا الماديّ ولا حتّى الاجتماعيّ فيها. فضلاً عن أخطار عقم بذورها المحتمل، وطول انتظار مواسم حصاد وجني ثمارها التي قد لا تكون ولا تتحقّق خلال حياة الكاتب أصلاً، رغم ذلك، فهي أروع وأجمل مهنة وأنبلها. وأحسّ بل أعرف بأنّه لو مرّ يوم واحد ولم أكتب فيه ولو صفحة واحدة وأسودها بالملاحظات والخربشات والهوامش، ولم أقرأ فيه بالمقابل خمسين صفحة على الأقلّ من كتاب ورقي وأشمّ رائحته وأنا أتصفّحه، فمن الممكن أن أفقد أعصابي. نعم. يمكن أن أصرحّ علنًا، ودون خجل بأنّني مُدمن للقراءة الورقيّة. وأنّني رغم ضعف بصري، أستطيع حتى لو حدث وأنّني لم أجد نظّارتي الطّبيّة، كما يحدث كثيرًا معي، أن أقرأ نصف الجمل بعيني الواهنة، ونصفها الآخر بقلبي، وخاصة إذا كانت من بين بعض الكُتب التي أعيد قراءتها منذ ربع قرن باستمرار، ولا أملّ منها.