«العِطر».. مدرسة روائية مُغلقة للأبد
الجمعة / 19 / محرم / 1443 هـ الجمعة 27 أغسطس 2021 01:59
كمال العيادي الكينغ
في مثل هذا الشهر، من سنة 1985، أعلنت دار نشر سويسرية مغمورة في ذلك الوقت، ومقرّها بمدينة زوريخ، وهي دار (ديوجنس فرلاج) عن إصدارها لرواية بعنوان (العطر.. قصّة قاتل)، لكاتب ألماني شاب في السادسة والثلاثين من العمر. وورد في كلمة الناشر على غلاف الطبعة الأولى المتواضعة، بأنّه «كاتب ألماني من مدينة ميونيخ وأنهّ روائي واعد وألمعيّ، ويتمتّع بحسّ ونضج وقدرة فائقة وتمكّن من أدواته مع موهبة نادرة في حبك النسيج السردي بسلاسة وعمق، وأنّ أسلوبه لا يخلو من التشويق البوليسيّ الممتع، على الرّغم من أنها روايته الأولى».
ولكنّ أحدا من النّقاد الكبار، لم يتحمّس للرواية، سواء في سويسرا حيث نُشرت، أو في ألمانيا، حيث عُرضت لدى العديد من المكتبات الكبرى، بل وقوبلت الرواية في البداية ببرود شديد، ولم يكتب عنها سوى بعض الصحافيين خاملي الذكر من الصفّ الثاني والثالث وفي منابر أدبية محدودة الانتشار. وربّما كان ذلك بسبب فتور العلاقات والتنافس الشرس بين صنّاع الحدث في كلا البلدين، فالنّقاد الألمان الألمعيون والكبار، يتعاملون عادة بحذر شديد مع كلّ إصدار إبداعي بلغة ألمانية لا يصدر في ألمانيا أوّلا، والنّقاد الكبار في سويسرا في المُقابل، كانوا أكثر توجّسا من الكتّاب الألمان، بسبب ظروف تاريخية ضاربة بعمق في وجدان الشعب السويسري منذ منتصف الثلاثينات، وحتّى قبل اندلاع الحرب العالميةّ الثانية، مع بداية هيمنة أبواق الدعائيّة النازية، وتجنيد الكتّاب الألمان لخدمة الحلم الآري القديم، عبر جبروت آلة (البروباغاندا) النازيّة. ولكنّ ربمّا أيضا بسبب طبيعة (باتريك زيوسكيند) الانطوائيّة أيضا. فهو يبدو دائما وكأنّه متعالٍ، وعنيد، ولا يقبل إطلاقا الحوارات الصحفيّة، بل وينفر منهم بشدّة، ويرفض الأضواء والدّعاية ودعوات المنابر الإذاعيّة والتلفزيونيّة بشدّة وحاسم لا يقبل المجادلة، ويرفض نهائيا وبشكل قاطع الموافقة على الترشّح لأيّ جائزة أدبيّة، مهما كان مصدرها أو قيمتها، محليّة كانت أم أجنبيّة. ويكتفي بالذهاب اليومي لحانة صغيرة خاملة بمنطقة شبابينغ بميونيخ، مدينته، محافظا على نظام صارم ودقيق لجدولة مواعيده. فهو يجلس إلى طاولته كلّ يوم بداية من السّاعة الخامسة مساء، ويغادرها في تاكسي عند الساعة الواحدة أو الثانية صباحاً في نهاية الأسبوع. وخلال هذه الفترة، يجلس صامتا وشاخصا إلى الطّاولة أو منفضة السجائر، لا يقرأ ولا يكتب ولا يردّ إلا بإيماءة من رأسه أو يديه وتقلصّ عضلات وجهه أو انفراجها، معبرّا عن الموافقة أو الرّفض.
ومثل هذه الطبيعة، من شأنها طبعا أن تزعج وتنفّر المتحمّسين من الصحفيين والنّقاد والسماسرة المنخرطين في الآلة الإعلامية والمؤمنين بها كلّ الإيمان وعن مبدأ وقناعة. وفي ألمانيا، العاصمة الاقتصاديّة العالمية، كلّ شيء بضاعة، لا بدّ وأن تسوقّ. ولا يُستثنى الأدب من ذلك طبعا، بل إنّ عوائد تسويق الثقافة والأدب في ألمانيا، يحتلّ المرتبة الثالثة، مباشرة بعد عائدات ترسانة الآلات الحربيّة والميكانيكيّة والتكنولوجيا الضخّمة والإنتاج المِزاجي، الذي تتجنّد له شركات ومؤسسات عملاقة، لصنع المشروبات الكحولية والتبغ والرهان (القمار) وألعاب التسلية.
ولكن وبعد مرور سنة فقط، نشرت مجلّة (شبيجل- المرآة) الألمانية، ذائعة الصيت، مقالا نقديا، احتفى بالرواية أيّما احتفاء، وبشّر بأنّ الكاتب الروائي المبدع الشاب (باتريك زيوسكيند)، هوّ الوريث الشرعيّ، إبداعيّا لعمالقة السرد الألماني، وذكر أنّه لا يقلّ موهبة عن العظيم (هنريش بول) والمشاكس (مارتين فالزر) واليساري المُحنّك (جونر غراس) وغيرهم.
ولم تمض ثلاث سنوات، حتّى كانت رواية (العطر) تتصدّر واجهات أغلب المكتبات ودور العرض في العالم، بعد أن تُرجمت لما يزيد عن سبع وأربعين لُغة، وبيع منها أكثر من ستّة عشر مليون نسخة، وامتدّ نجاحها لاحقا إلى الشاشات الكبرى وهوليود، عبر فيلم يجسّد أحداثها قام بإخراجه الألماني (طوم تيكوير)، سنة 2006، وتحصلّ زيوسكيند مقابل توقيع العقد والموافقة على تحويل روايته الوحيدة اليتيمة إلى فيلم، على مبلغ قدره عشرة ملايين يورو، معفاة من الضرائب.
تدور أحداث الرواية في القرن 18 في فضاءات (باريس) و(أوفرن) و(مونبيلييه) و(كراس). وتروي سيرة حياة السفّاح (جان باتيست جرونوي)، وهي شخصية غرائبية مُختلقة، شديدة التعقيد ومنبثقة من العوالم السفلى لمدينة باريس وتتابع الرواية تطور حياته منذ لحظة ولادته المؤسفة، في سوق شعبيّة للسمك، مليئة بالروائح الكريهة والقاذورات، حيث تحاول أمّه أن تتخلّص منه مباشرة بعد ولادته، وتقطع سرّته بسكين قذر لترميه في كوم النفايات وبقايا السّمك، قبل أن ينتبهوا لها ويتمّ إعدامها فورا، كونها المرّة الرابعة التي تتخلص فيها من وليد غير شرعي، ويتابع الراوي سرد أحداث نموّ هذا الطفل الملعون، الذي رفضت كلّ المرضعات قبوله، حتّى وصل إلى المرضعة والمربيّة (مدام غايار)، المرأة المسخ القاسيّة الفظّة، ثمّ فترة شبابه المبكّر وعمله بمصانع الدّباغة عند الدبّاغ (جريمال)، وانتقاله فيما بعد للعمل لدى (بالديني)، أفضل صانع وبائع العطور في باريس، الذي كان قد بلغ الشيخوخة، وفقد حاسة الشمّ وكاد أن يتعرّض للإفلاس، قبل أن ينتبه إلى هذا الصبيّ المعجزة الذي يمتلك حاسّة شمّ متطوّرة وفوق بشريّة.
وفعلا ينجح الشاب اليافع الأميّ العصاميّ (غرنوي) في صنع وإعادة تركيب خليط عطور بديعة، وشديدة التعقيد في تركيبتها الكيميائية، قبل أن يتعلّم المبادئ الأساسيّة في تركيب العطر المركّز وينجح بشكل أسطوري في ذلك، مما يجعل الزبائن يتهافتون عليه، ولكنّ ذلك لا يكفيه، فهو يريد بلوغ الكمال في صنعته، وينشد صنع عطر فوق أرضيّ. فيهجر الناس ويختار كهفا ليعتكف فيه سبع سنوات كاملة، لم ير فيها بشرا، وبعد خروجه من عزلته، يقرّر أمرا خطيرا وهو أن يقطّر من رائحة النساء الفاتنة أعظم عطر عرفته البشريّة. وهكذا تبدأ حياته كسفاّح يثير الذعر الشديد في كلّ مكان يحلّ به، وتبدأ أجمل الفتيات الأبكار بالاختفاء الواحدة إثر الأخرى، فهو يقتلهن ويجزّ شعرهنّ.. ويمزق ملابسهنّ، دون أن يمسسهنّ جسدياً، ليلقي بهنّ ثانية في الشارع جثثا هامدة وعاريّة، بعد أن يدهنهنّ بمرهم خاص، ليشفطه مع روائحهنّ، وليجمّع به عناصر التركيبة الأساسيّة لصنع العطر المُركّز من اثنتي عشرة مادّة أوليّة رئيسة.
وبعد اختفاء الفتاة الخامسة والعشرين، يتمّ القبض عليه ويعترف، دون أن يفهم لماذا هم مستاؤون منه، كونه لم يكن يدرك الحدّ الفاصل بين الخير والشرّ، بل كان يعتقد، وحتىّ آخر لحظة بأنّه يقوم بعمل نبيل لفائدتهم، ويعتقد كامل فترة التحقيق والسجن أنهم حمقى لا يفهمون نبل غايته وسموها.
وقبل إعدامه بلحظات، يرشّ في الجوّ وحول منصّة الإعدام قطرة واحدة من العطر الذي استخلصه من الضحايا.. فيعلو اللغط، ويفهم الشعب الحقيقة، كما يراها هوّ فيطالب بإطلاق سراحه لأنه بريء وغير مذنب، ثمّ يصاب الجميع فجأة بحالة عجيبة من الهيام والعشق والصفاء.. وينتهز (غرنوي) الفرصة لكي يتركهم ويعود إلى باريس، وحين يصل إلى مكان مولده، يسكب كلّ قنينة العطر العجيب على ثيابه، فتتهافت عليه الجموع وعامّة الشّعب وينهشون لحمه ويأكلونه في دقائق من فرط العشق والهيام برائحته الساحرة.
هذه هيّ أحداث الرواية باختصار شديد، لكن يبقى السؤال المُحيّر طبعا، ما الذي جعل هذه الرواية نفسها تتحولّ إلى أسطورة في عالم الأدب، وما الذي ميزّها لكي يعتبرها النّقاد والقراء البسطاء على السوّاء، أحد أعظم الروايات في التاريخ؟
الجواب، ليس بسيطا بالتأكيد. ذلك أنّه حدث فعلا وأن تقاطعنا في الأدب كثيرا مع ظواهر مربكة، لم يجد لها النقاد ولن يجدوا لها تفسيرا معقولا ومقنعا، فرواية مثل رواية (لوليتا) لنوباكوف، كان من المفروض أنّ تحقق فشلا ذريعا، ولا تنتشر، خاصّة أنّها تقوضّ قناعات ومبادئ وأسسا أخلاقية كاملة اتكأت عليها الرواية الأدبيّة المعاصرة، كأحد روافد التأثير والإصلاح والتقويم ولعب دور الموجّه والضمير العام. ولكنّها، ورغم أنّها لوّحت بكلّ القيم والثوابت، فقد نجحت نجاحا أسطوريا، رغم بساطة لغتها، ورغم أنّها فنيّا، لا ترقى حتّى لمرتبة (المتوسط). ولكنهّا رغم ذلك، وحتى بعد كلّ هذه العقود، مازالت تتصدّر قائمة الروايات الأكثر مبيعا وتأثيرا في الأدب العالمي.
ونفس الشيء بالنسبة لرواية (المعلمّ ومارغاريتا) لبولغاكوف، التي صدرت لأولّ مرة بعد موت كاتبها بسبع وعشرين سنة كاملة، حيث ما كان ينبغي لها أن تنتشر كلّ ذلك الانتشار في الاتحاد السوفياتي وروسيا بالذات، روسيا التي كانت تمضغ وتجترّ ما يتوفرّ وما يسمح به من أدب مسالم ويساهم في تنمية مبادئ الطّاعة والقناعة، والنظام والترتيب وتقديس الواجب والتعاليم، ولكنّ رواية (المعلّم ومارغاريتا) ضربت بكلّ ذلك وما تعوّد عليه القارئ عرض الحائط، فكان الشيطان الذي يثير الفوضى ويربك المدينة ويبعثر كلّ شيء ويعصف بالقناعات، بنزق وصبيانيّة وعبث هوّ شحنة الرواية وفتنتها. فما الذي جعلها تنتشر بذلك الشكل العجيب، رغم أنهّا وعلى عكس رواية (نوباكوف)، رواية متينة تقنيا وحداثيّة في وقتها وألمعيةّ ولكنّها ليست رواية شعبيّة استهلاكيّة للعامة. ولم تكن صالحة للشعب الروسي بالذات لا وقت كتابتها سنة (1940)، ولا وقت صدورها لأولّ مرةّ سنة (1967).
أعتقد أنّ الجواب يكمن ببساطة فيما يجمع بين هذه الآثار الثلاثة. وأعني الجدّة، وعدم الاستنساخ، والخروج عن القطيع والحرث في أرض بكر، أو ما أسمّيه (بغرز راية ملكيّة في أرض غير مملوكة). ولكن، ينبغي أيضا الاعتراف، أنّ الظواهر الخارقة في الإبداع، لا تترك نفس الآثار، حتّى إن اشتركت في الحظوظ.. فإذا كان (نوباكوف)، بروايته (لوليتا) الفاضحة، قد نجح في فتح طريق جديد في الكتابة، وأسس مدرسة هوّ شيخ طريقتها، وأنتج لنا تلامذة كبارا في كتابة الرواية الايروتيكية، وإذا كان (بولغاكوف)، قد مهّد الطريق لتلامذة كبار مثل غابريال غارسيا ماركيز وأمين معلوف وعشرات من كبار الروائيين العالميين، حين فتح الباب على مصراعيه أمام ما سيسمى بعده بعقود برواية الواقعية السحرية، ورواية الفنطازيا التاريخية البلانطنيّة (نسبة إلى بلانطس البيلانطي حاكم أورشليم الذي صلب المسيح)، فإنّ (باتريك زيوسكيند)، يبقى من بينهم جميعا ظاهرة إبداعية فردية عقيمة، وستقف مدرسته عنده بعد موته. فلا يمكن لأحد أن يمشي في حفير وآثار خطاه، ذلك أنهّ غطّى تقريبا كلّ ما يمكن أن تتحمّله حاسّة الشمّ كحاسة خلاّقة وتحرّك كلّ أحداث الرواية. ونجح في ذلك بشكل ليس فقط يصعب تقليده، بل ربمّا عاد من المؤسف القول بأنّها تيمة حُفظت، وأغلقت، وسجلّت رسميا، وللأبد باسم الكاتب الألماني (باتريك زيوسكيند) الانطوائي الخامل الذي يكتب تقريبا، وكأنّه يعدّل وصيّته، ولن تتطور بعده. والحقيقة، وبصراحة، فهو في غير حاجة لكتابة رواية أخرى. ولا لإقناعنا من جديد بأنه كاتب عبقريّ وخالد ولا يمكن طمس اسمه، رغم إصراره الشخصيّ على عدم نشر رسمه. علينا ربّما الاكتفاء بما وفرّه لنا في هذا النهج غير المطروق.
ولكنّ أحدا من النّقاد الكبار، لم يتحمّس للرواية، سواء في سويسرا حيث نُشرت، أو في ألمانيا، حيث عُرضت لدى العديد من المكتبات الكبرى، بل وقوبلت الرواية في البداية ببرود شديد، ولم يكتب عنها سوى بعض الصحافيين خاملي الذكر من الصفّ الثاني والثالث وفي منابر أدبية محدودة الانتشار. وربّما كان ذلك بسبب فتور العلاقات والتنافس الشرس بين صنّاع الحدث في كلا البلدين، فالنّقاد الألمان الألمعيون والكبار، يتعاملون عادة بحذر شديد مع كلّ إصدار إبداعي بلغة ألمانية لا يصدر في ألمانيا أوّلا، والنّقاد الكبار في سويسرا في المُقابل، كانوا أكثر توجّسا من الكتّاب الألمان، بسبب ظروف تاريخية ضاربة بعمق في وجدان الشعب السويسري منذ منتصف الثلاثينات، وحتّى قبل اندلاع الحرب العالميةّ الثانية، مع بداية هيمنة أبواق الدعائيّة النازية، وتجنيد الكتّاب الألمان لخدمة الحلم الآري القديم، عبر جبروت آلة (البروباغاندا) النازيّة. ولكنّ ربمّا أيضا بسبب طبيعة (باتريك زيوسكيند) الانطوائيّة أيضا. فهو يبدو دائما وكأنّه متعالٍ، وعنيد، ولا يقبل إطلاقا الحوارات الصحفيّة، بل وينفر منهم بشدّة، ويرفض الأضواء والدّعاية ودعوات المنابر الإذاعيّة والتلفزيونيّة بشدّة وحاسم لا يقبل المجادلة، ويرفض نهائيا وبشكل قاطع الموافقة على الترشّح لأيّ جائزة أدبيّة، مهما كان مصدرها أو قيمتها، محليّة كانت أم أجنبيّة. ويكتفي بالذهاب اليومي لحانة صغيرة خاملة بمنطقة شبابينغ بميونيخ، مدينته، محافظا على نظام صارم ودقيق لجدولة مواعيده. فهو يجلس إلى طاولته كلّ يوم بداية من السّاعة الخامسة مساء، ويغادرها في تاكسي عند الساعة الواحدة أو الثانية صباحاً في نهاية الأسبوع. وخلال هذه الفترة، يجلس صامتا وشاخصا إلى الطّاولة أو منفضة السجائر، لا يقرأ ولا يكتب ولا يردّ إلا بإيماءة من رأسه أو يديه وتقلصّ عضلات وجهه أو انفراجها، معبرّا عن الموافقة أو الرّفض.
ومثل هذه الطبيعة، من شأنها طبعا أن تزعج وتنفّر المتحمّسين من الصحفيين والنّقاد والسماسرة المنخرطين في الآلة الإعلامية والمؤمنين بها كلّ الإيمان وعن مبدأ وقناعة. وفي ألمانيا، العاصمة الاقتصاديّة العالمية، كلّ شيء بضاعة، لا بدّ وأن تسوقّ. ولا يُستثنى الأدب من ذلك طبعا، بل إنّ عوائد تسويق الثقافة والأدب في ألمانيا، يحتلّ المرتبة الثالثة، مباشرة بعد عائدات ترسانة الآلات الحربيّة والميكانيكيّة والتكنولوجيا الضخّمة والإنتاج المِزاجي، الذي تتجنّد له شركات ومؤسسات عملاقة، لصنع المشروبات الكحولية والتبغ والرهان (القمار) وألعاب التسلية.
ولكن وبعد مرور سنة فقط، نشرت مجلّة (شبيجل- المرآة) الألمانية، ذائعة الصيت، مقالا نقديا، احتفى بالرواية أيّما احتفاء، وبشّر بأنّ الكاتب الروائي المبدع الشاب (باتريك زيوسكيند)، هوّ الوريث الشرعيّ، إبداعيّا لعمالقة السرد الألماني، وذكر أنّه لا يقلّ موهبة عن العظيم (هنريش بول) والمشاكس (مارتين فالزر) واليساري المُحنّك (جونر غراس) وغيرهم.
ولم تمض ثلاث سنوات، حتّى كانت رواية (العطر) تتصدّر واجهات أغلب المكتبات ودور العرض في العالم، بعد أن تُرجمت لما يزيد عن سبع وأربعين لُغة، وبيع منها أكثر من ستّة عشر مليون نسخة، وامتدّ نجاحها لاحقا إلى الشاشات الكبرى وهوليود، عبر فيلم يجسّد أحداثها قام بإخراجه الألماني (طوم تيكوير)، سنة 2006، وتحصلّ زيوسكيند مقابل توقيع العقد والموافقة على تحويل روايته الوحيدة اليتيمة إلى فيلم، على مبلغ قدره عشرة ملايين يورو، معفاة من الضرائب.
تدور أحداث الرواية في القرن 18 في فضاءات (باريس) و(أوفرن) و(مونبيلييه) و(كراس). وتروي سيرة حياة السفّاح (جان باتيست جرونوي)، وهي شخصية غرائبية مُختلقة، شديدة التعقيد ومنبثقة من العوالم السفلى لمدينة باريس وتتابع الرواية تطور حياته منذ لحظة ولادته المؤسفة، في سوق شعبيّة للسمك، مليئة بالروائح الكريهة والقاذورات، حيث تحاول أمّه أن تتخلّص منه مباشرة بعد ولادته، وتقطع سرّته بسكين قذر لترميه في كوم النفايات وبقايا السّمك، قبل أن ينتبهوا لها ويتمّ إعدامها فورا، كونها المرّة الرابعة التي تتخلص فيها من وليد غير شرعي، ويتابع الراوي سرد أحداث نموّ هذا الطفل الملعون، الذي رفضت كلّ المرضعات قبوله، حتّى وصل إلى المرضعة والمربيّة (مدام غايار)، المرأة المسخ القاسيّة الفظّة، ثمّ فترة شبابه المبكّر وعمله بمصانع الدّباغة عند الدبّاغ (جريمال)، وانتقاله فيما بعد للعمل لدى (بالديني)، أفضل صانع وبائع العطور في باريس، الذي كان قد بلغ الشيخوخة، وفقد حاسة الشمّ وكاد أن يتعرّض للإفلاس، قبل أن ينتبه إلى هذا الصبيّ المعجزة الذي يمتلك حاسّة شمّ متطوّرة وفوق بشريّة.
وفعلا ينجح الشاب اليافع الأميّ العصاميّ (غرنوي) في صنع وإعادة تركيب خليط عطور بديعة، وشديدة التعقيد في تركيبتها الكيميائية، قبل أن يتعلّم المبادئ الأساسيّة في تركيب العطر المركّز وينجح بشكل أسطوري في ذلك، مما يجعل الزبائن يتهافتون عليه، ولكنّ ذلك لا يكفيه، فهو يريد بلوغ الكمال في صنعته، وينشد صنع عطر فوق أرضيّ. فيهجر الناس ويختار كهفا ليعتكف فيه سبع سنوات كاملة، لم ير فيها بشرا، وبعد خروجه من عزلته، يقرّر أمرا خطيرا وهو أن يقطّر من رائحة النساء الفاتنة أعظم عطر عرفته البشريّة. وهكذا تبدأ حياته كسفاّح يثير الذعر الشديد في كلّ مكان يحلّ به، وتبدأ أجمل الفتيات الأبكار بالاختفاء الواحدة إثر الأخرى، فهو يقتلهن ويجزّ شعرهنّ.. ويمزق ملابسهنّ، دون أن يمسسهنّ جسدياً، ليلقي بهنّ ثانية في الشارع جثثا هامدة وعاريّة، بعد أن يدهنهنّ بمرهم خاص، ليشفطه مع روائحهنّ، وليجمّع به عناصر التركيبة الأساسيّة لصنع العطر المُركّز من اثنتي عشرة مادّة أوليّة رئيسة.
وبعد اختفاء الفتاة الخامسة والعشرين، يتمّ القبض عليه ويعترف، دون أن يفهم لماذا هم مستاؤون منه، كونه لم يكن يدرك الحدّ الفاصل بين الخير والشرّ، بل كان يعتقد، وحتىّ آخر لحظة بأنّه يقوم بعمل نبيل لفائدتهم، ويعتقد كامل فترة التحقيق والسجن أنهم حمقى لا يفهمون نبل غايته وسموها.
وقبل إعدامه بلحظات، يرشّ في الجوّ وحول منصّة الإعدام قطرة واحدة من العطر الذي استخلصه من الضحايا.. فيعلو اللغط، ويفهم الشعب الحقيقة، كما يراها هوّ فيطالب بإطلاق سراحه لأنه بريء وغير مذنب، ثمّ يصاب الجميع فجأة بحالة عجيبة من الهيام والعشق والصفاء.. وينتهز (غرنوي) الفرصة لكي يتركهم ويعود إلى باريس، وحين يصل إلى مكان مولده، يسكب كلّ قنينة العطر العجيب على ثيابه، فتتهافت عليه الجموع وعامّة الشّعب وينهشون لحمه ويأكلونه في دقائق من فرط العشق والهيام برائحته الساحرة.
هذه هيّ أحداث الرواية باختصار شديد، لكن يبقى السؤال المُحيّر طبعا، ما الذي جعل هذه الرواية نفسها تتحولّ إلى أسطورة في عالم الأدب، وما الذي ميزّها لكي يعتبرها النّقاد والقراء البسطاء على السوّاء، أحد أعظم الروايات في التاريخ؟
الجواب، ليس بسيطا بالتأكيد. ذلك أنّه حدث فعلا وأن تقاطعنا في الأدب كثيرا مع ظواهر مربكة، لم يجد لها النقاد ولن يجدوا لها تفسيرا معقولا ومقنعا، فرواية مثل رواية (لوليتا) لنوباكوف، كان من المفروض أنّ تحقق فشلا ذريعا، ولا تنتشر، خاصّة أنّها تقوضّ قناعات ومبادئ وأسسا أخلاقية كاملة اتكأت عليها الرواية الأدبيّة المعاصرة، كأحد روافد التأثير والإصلاح والتقويم ولعب دور الموجّه والضمير العام. ولكنّها، ورغم أنّها لوّحت بكلّ القيم والثوابت، فقد نجحت نجاحا أسطوريا، رغم بساطة لغتها، ورغم أنّها فنيّا، لا ترقى حتّى لمرتبة (المتوسط). ولكنهّا رغم ذلك، وحتى بعد كلّ هذه العقود، مازالت تتصدّر قائمة الروايات الأكثر مبيعا وتأثيرا في الأدب العالمي.
ونفس الشيء بالنسبة لرواية (المعلمّ ومارغاريتا) لبولغاكوف، التي صدرت لأولّ مرة بعد موت كاتبها بسبع وعشرين سنة كاملة، حيث ما كان ينبغي لها أن تنتشر كلّ ذلك الانتشار في الاتحاد السوفياتي وروسيا بالذات، روسيا التي كانت تمضغ وتجترّ ما يتوفرّ وما يسمح به من أدب مسالم ويساهم في تنمية مبادئ الطّاعة والقناعة، والنظام والترتيب وتقديس الواجب والتعاليم، ولكنّ رواية (المعلّم ومارغاريتا) ضربت بكلّ ذلك وما تعوّد عليه القارئ عرض الحائط، فكان الشيطان الذي يثير الفوضى ويربك المدينة ويبعثر كلّ شيء ويعصف بالقناعات، بنزق وصبيانيّة وعبث هوّ شحنة الرواية وفتنتها. فما الذي جعلها تنتشر بذلك الشكل العجيب، رغم أنهّا وعلى عكس رواية (نوباكوف)، رواية متينة تقنيا وحداثيّة في وقتها وألمعيةّ ولكنّها ليست رواية شعبيّة استهلاكيّة للعامة. ولم تكن صالحة للشعب الروسي بالذات لا وقت كتابتها سنة (1940)، ولا وقت صدورها لأولّ مرةّ سنة (1967).
أعتقد أنّ الجواب يكمن ببساطة فيما يجمع بين هذه الآثار الثلاثة. وأعني الجدّة، وعدم الاستنساخ، والخروج عن القطيع والحرث في أرض بكر، أو ما أسمّيه (بغرز راية ملكيّة في أرض غير مملوكة). ولكن، ينبغي أيضا الاعتراف، أنّ الظواهر الخارقة في الإبداع، لا تترك نفس الآثار، حتّى إن اشتركت في الحظوظ.. فإذا كان (نوباكوف)، بروايته (لوليتا) الفاضحة، قد نجح في فتح طريق جديد في الكتابة، وأسس مدرسة هوّ شيخ طريقتها، وأنتج لنا تلامذة كبارا في كتابة الرواية الايروتيكية، وإذا كان (بولغاكوف)، قد مهّد الطريق لتلامذة كبار مثل غابريال غارسيا ماركيز وأمين معلوف وعشرات من كبار الروائيين العالميين، حين فتح الباب على مصراعيه أمام ما سيسمى بعده بعقود برواية الواقعية السحرية، ورواية الفنطازيا التاريخية البلانطنيّة (نسبة إلى بلانطس البيلانطي حاكم أورشليم الذي صلب المسيح)، فإنّ (باتريك زيوسكيند)، يبقى من بينهم جميعا ظاهرة إبداعية فردية عقيمة، وستقف مدرسته عنده بعد موته. فلا يمكن لأحد أن يمشي في حفير وآثار خطاه، ذلك أنهّ غطّى تقريبا كلّ ما يمكن أن تتحمّله حاسّة الشمّ كحاسة خلاّقة وتحرّك كلّ أحداث الرواية. ونجح في ذلك بشكل ليس فقط يصعب تقليده، بل ربمّا عاد من المؤسف القول بأنّها تيمة حُفظت، وأغلقت، وسجلّت رسميا، وللأبد باسم الكاتب الألماني (باتريك زيوسكيند) الانطوائي الخامل الذي يكتب تقريبا، وكأنّه يعدّل وصيّته، ولن تتطور بعده. والحقيقة، وبصراحة، فهو في غير حاجة لكتابة رواية أخرى. ولا لإقناعنا من جديد بأنه كاتب عبقريّ وخالد ولا يمكن طمس اسمه، رغم إصراره الشخصيّ على عدم نشر رسمه. علينا ربّما الاكتفاء بما وفرّه لنا في هذا النهج غير المطروق.