كتاب ومقالات

حمير شهود الزور

علي بن محمد الرباعي

حدّثني أحد كبار السِّن عن مرحلة تساهل فيها البعض، بالشهادة الكاذبة، وتهاون آخرون في حُرمة شهادة الزور، وقال: كُنا نعتبر الشهادة للغير فزعة، ونتلقّى عليها مقابلاً مادياً أو معنوياً، أو تبادل منافع، وعزا تحجيم شهادة الزور، إلى تطبيق الحكومة في بداية عهد الملك عبدالعزيز عقوبة التشهير بالشهود الزور، والتطواف بهم في السوق الأسبوعي على حمير، ويحوّل وجه شاهد الزور باتجاه ذيل الحمار، وخدّاه مطليان بالقطران، والجموع تردد (سوّد الله وجهه) ما ردع الكثيرين، وأصبحت الشهادة في المحاكم والشُرط من المحاذير، فلا يشهد الشاهد، إلا وهو متيقن من صدقه في شهادته المحصّنة ضد الطعن.

لفتنا القرآن إلى ضرورة إشهار العقوبات، ومن ذلك (وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين)، فهناك أقوام تخشى الناس أكثر من خشيتها لله، ويَسْتَخفُون من المجتمع عند مقارفة معصية أو منكر تفادياً للفضيحة، وبما أن الجزاء من جنس العمل، فمن الطبيعي اعتماد التشهير بالمخالف طالما أنه لم يرعََ حُرمة المجتمع ومكانة القوانين والتشريعات.

خلق الله الكون منضبطاً، ومُحكماً في سيرورته، وفق مشيئته، ودعانا إلى أن نتأمل الكون، لنتعلم منه معنى الانضباط، وجاء القرآن مُعززاً للتربية الروحية لتزكو أخلاقنا، وأسند إلى ولي الأمر مهمات جساماً منها حفظ أمن المجتمع، وأطر الناس على الحق والعدل وعدم التجاوز، وإن كرهت بعض الأنفس بحكم ميلها للشهوات ميلاً عظيماً.

وأي مخالفة أخلاقية لا تخلو من حق لله، وحق للمجتمع، وحق للوطن، وحق للإنسانية، وحق للحياة، وحق للسُلْطَة، ما يعني مع تعدد الحقوق، التوسع في عقاب المستمرئ أذية الخلق، والمقترف المحظورات شرعاً وعُرفاً، ما يُعَرّضهُ للتعزير، والتشهير به.

التشهير أحد مفردات التعزير، وهو؛ مأخوذٌ من شهره، بمعنى أعلنه، وأذاعه. وشهّر به أي أذاع عنه السوء الذي وقع فيه، وما ترتب عليه.

والتشهير جائز في حق المُجاهر بالمعصية، ومِن النصح الواجب للمسلمين للتحذير من أذاه، والبُعد عن الاقتراب منه، أو التعامل معه، أو الثقة به، وللحاكم حق التشهير بمن يُقام عليه حدّ، أو يطبّق بحقه تعزير، قال الكاساني في بدائع الصنائع: المقصود من الحدود زجر العامة، ولا يحصل الزجر إلا بإقامة العقوبة على رؤوس الأشهاد، لأن الحضور ينزجرون بأنفسهم بالمعاينة، والغائبين ينزجرون بإخبار الحضور، فيحصل الزجر للكل.

وقال مُطرف بن عبدالله: ومن أمر الناس عندنا، التشهير، لأهل الفسق، رجالاً ونساء، والإعلام بجلدهم، في الحدود، وما يلزمهم من العقوبة، مع كشف وجه المرأة.

ونصّ الفقهاء على أن التشهير في التعزيرات يرجع في تحديد جنسه، وقدره، للحاكم، فقد يكون بالضرب، أو الحبس، أو التوبيخ، أو التشهير، أو غير ذلك، حسب اختلاف مراتب الناس، واختلاف الأعصار والأمصار.

ومما يبهج ما تعلنه وزارة التجارة من تشهير، يذكرني بما كنا نقرأه في الصحف، من عقوبات المزورين والمرتشين، يقول الماوردي: للأمير إذا رأى من الصلاح في ردع السفلة، أن يشهّرهم، وينادي عليهم بجرائمهم، ساغ له ذلك.

ومن يتعامل مع التحولات بجهل ومثله يجهل فحقه التعليم والتعريف، ومن كان مثله لا يجهل فالعقوبات والتشهير أمثل رادع للنفوس المريضة كون عدم الخشية من النظام دليل عدوان مادي على مجتمع آمن مطمئن.

تميّز المجتمع ليس بتجاوز بعض أفراده حدود الأدب، وافتقادهم لـ اللياقة، والشذوذ ليس تميّزاً بأي حال، بل التميّز في احترام إنسانية بعضنا، وعدم جرح أو هتك السِّلم الاجتماعي القائم على منظومة القِيم الأخلاقية، ومنها حفظ الحريات، ومنع طغيان مظاهر التمرد والانحراف والعدوان والاستخفاف بهيبة النظام، الذي يتصدى بحزم للنوازع الذاتية الخاصة كونها لا حُرية لها.